مع تنامي قدرات الصين التكنولوجية، تزداد قبضة الحزب الشيوعي الحاكم بشكل أكبر، فالبلد الذي يقارب تعداد سكانه المليار وأربعمئة مليون نسمة، قلما تجد به مواطنًا ليس له سجل رقمي محفوظ عند الحكومة، مؤرشفًا ذلك السجل كل نشاطات الشخص في العالم الافتراضي، محتويًا على نسخة من بصمة أصابعه وصوته ووجهه.
تلك الإجراءات لم تستثن عرقًا دون آخر، بل كان للأقليات الدينية والإسلامية نصيبًا مضاعفًا من تلك التشديدات.
ومع بدء تفشي الفيروس التاجي “Covid-19” استخدمت الدولة كل سلاح تكنولوجي في مستودعها لمكافحة الوباء، وكذلك لتشديد قبضتها “الرقمية” على شعبها.
لكن مع خروج الصين تدريجيًا من الإغلاق الكامل الذي فرضته السلطات للسيطرة على انتشار الوباء، هناك تساؤلات عن كيفية استخدام الصين أدوات المراقبة تلك، بطرق تهدد الخصوصية وتحد من حرية التعبير.
الصحة العالمية “شماعة” قمع الحكومة الصينية للمواطنين
عندما أعلنت منظمة الصحة العالمية “حالة طوارئ صحية عالمية” بعد تفشي فيروس كورونا المستجد، أصدرت الصحة العالمية بيانًا أشادت فيه بشفافية الصين وتفاعلها مع الوباء.
لكن تجاهلت منظمة الصحة العالمية قمع الحكومة الصينية لحقوق الإنسان فيما يتعلق بقمعها مواطنيها بحجة محاربة الوباء، بما في ذلك القيود الصارمة المفروضة على حرية التعبير.
بدورها، تستشهد وسائل الإعلام الحكومية الصينية ببيان منظمة الصحة في كل بيان يطالب الحكومة بالتوقف عن القمع غير المبرر.
ومما لا يخفى على مطلع أن تكتم الصين على انتشار الفيروس في بداية الأمر والسماح لمواطني مدينة ووهان بالتنقل والسفر ونشر الفيروس في أرجاء الأرض، سبب كبير في انتشار المرض وتحوله إلى “جائحة”.
القمع “مطرقة” الصين في “سندان” الشعب
منذ بدء تسجيل أولى الحالات المريضة بـ”فيروس كورونا المستجد” في مدينة ووهان مركز مقاطعة “هوبي” في الصين، اتخذت الحكومة أشكالًا متعددة من الطرق لتكميم الأفواه وانتهاك الحريات.
كان أول ضحايا عمليات القمع تلك الطبيب لي ون ليانغ اختصاصي العيون العامل في مستشفى ووهان المركزي، الذي يعد أول من اكتشف المرض.
بدأ ليانغ بتحذير زملائه في المستشفى عن طريق تطبيق المراسلة الصيني “وي شات” عن ملاحظته لتكرار الحالات الزائرة للمستشفى التي تشتكي من نفس الأعراض، ونبه يانغ الاختصاصيين باحتمالية تفشي فيروس خطير في البلاد، وأن الأمر يتطلب تدخلًا طبيًا واسعًا.
وفقًا للمدير الإقليمي في منظمة العفو الدولية، نيكولاس بكيلين: “لا مكان للرقابة والتمييز والاحتجاز التعسفي وانتهاكات حقوق الإنسان في مكافحة وباء فيروس كورونا”
تلك الرسائل أدت إلى اعتقال الشرطة له بذريعة “ترويج الإشاعات” وتهديده للأمن في البلاد، مما اضطره إلى كتابة تعهد بعدم نشر الموضوع من جديد واعترافه بارتكابه مخالفة القانون وأنه عطل النظام الاجتماعي بشكل خطير”، لتعلن الصين منتصف مارس وفاة الطبيب بسبب الفيروس التاجي.
في بدء الأمر كان هناك رقابة إعلامية بالكامل في مدينة ووهان، ويتم اعتقال كل من يتكلم عن “فيروس كورونا” في وسائل التواصل الاجتماعي، ولا يزال الأشخاص الذين أبلغوا عن مشاهداتهم لوفيات تخرج من المستشفى ويتم حرقها من أعضاء الحزب الشيوعي في عداد المفقودين.
تلك الانتهاكات دفعت “منظمة العفو الدولية” لإعرابها عن قلقها بشأن انتهاك حقوق الإنسان في الحرب ضد الوباء العالمي. ووفقًا للمدير الإقليمي في منظمة العفو الدولية، نيكولاس بكيلين: “لا مكان للرقابة والتمييز والاحتجاز التعسفي وانتهاكات حقوق الإنسان في مكافحة وباء فيروس كورونا”.
برامج “التتبع” والمراقبة
بعد اندلاع الفيروس التاجي، طلبت الصين من المواطنين تثبيت برامج على هواتفهم الذكية تتنبأ بالحالة الصحية للأشخاص وتتبع مواقعهم، وتحديد إذا كان يمكنهم الدخول إلى مكان عام.
ووفقًا لتقرير أعدته صحيفة “نيويورك تايمز” اتضح أن تلك البرامج تشارك المعلومات مع الشرطة، وتضع نموذجًا لأشكال جديدة من الرقابة الاجتماعية الآلية التي يمكن أن تستمر لفترة طويلة بعد انحسار الوباء.
التكتم على المعلومات واعتقال ناشطي الإنترنت
بحسب تقرير لـ”هيومن رايتس ووتش“، اعتقلت الشرطة في أنحاء الصين عشرات الأشخاص بسبب منشوراتهم على الإنترنت المتعلقة بالفيروس في الأسابيع الأولى، وقسم منهم لا يعلم مصيره حتى الآن.
فرضت السلطات رقابة على العديد من المقالات ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي عن الوباء، بما في ذلك تلك التي نشرتها عائلات المصابين الذين يطلبون المساعدة والأشخاص الذين يعيشون في مدن محاصرة ويوثقون حياتهم اليومية وأفراد ينتقدون طريقة تعامل الحكومة مع الأزمة.
تطبيق المراسلة الصيني “WeChat” وتطبيق بث الفيديو “YY” حظرا مجموعات الكلمات الرئيسية التي تضمنت انتقادات للرئيس شي جين بينغ والسياسات المتعلقة بالفيروس
قالت صوفي ريتشاردسون، مديرة الصين في هيومن رايتس ووتش: “الحكومة الصينية لا تزود الناس بالمعلومات التي يحتاجونها لمساعدتهم في هذه الأزمة”، وأضافت: “قد لا نعرف أبدًا الخسائر الفادحة التي لحقت بالفيروس بينما يعمل المراقبون الحكوميون على إسكات المتضررين ومحاكمة المنتقدين السلميين”.
فالكثير من منصات الإنترنت ملزمة بتوفير المعلومات للحكومة الصينية لتسهيل حملة القمع ضد المعارضة والحركات الاجتماعية.
كشف تقرير حديث لمجموعة البحث السيبراني “Citizen Lab” ومقرها “تورونتو” أن تطبيق المراسلة الصيني “WeChat” وتطبيق بث الفيديو “YY” حظرا مجموعات الكلمات الرئيسية التي تضمنت انتقادات للرئيس شي جين بينغ والسياسات المتعلقة بالفيروس، وهي جزء من تشديد التحكم في الوسائط تحت حكم الرئيس بينغ.
اضطهاد المسلمين الأويغور
خلال جائحة كورونا، زادت الصين من تشديدها ومراقبتها للمدن ذات الغالبية المسلمة، كما في مقاطعة شينجيانغ التي يقطنها ملايين المسلمين الأويغور.
إذ منعتهم ومن خلال تطبيقات التتبع – الملزمين بتثبيتها – على جوالاتهم من الحركة والتنقل والسفر خلال الجائحة وحتى بعد أن بدأت بتخفيف إجراءات الحظر.
فبينما بدأت مدينة ووهان – منبع الفيروس التاجي – في استعادة بعض صور الحياة، لا يزال المسلمون الأويغور تحت الحجر العام ومنع التجوال الشديد.
القمع الرقمي
في الصين وبعد تفشي الوباء بدأت حكومات المقاطعات أو المناطق أو حتى مراكز التسوق المختلفة بالمطالبة بتثبيت برامج مختلفة على هواتفهم، مما يعني أن على الناس تنزيل تطبيقات متعددة حتى يتمكنوا من التنقل والدخول للمدن ومراكز التسوق.
يتم استخراج البيانات من هذه البرامج على نطاق غير مسبوق، ولكن من غير الواضح كيف ستستخدمها الشركات والدولة بعد الوباء.
في فبراير، أرسلت أكبر ثلاث شركات اتصالات في الصين رسائل نصية جماعية تعرض إرسال معلومات للعملاء عن انتشار الفيروس في المدن التي زاروها (حيث أقاموا لمدة أربع ساعات أو أكثر) في الـ15 أو 30 يومًا الماضية.
كما تم تطوير نظام التعرف على الوجه الذي يحدد الأشخاص المقنعين، على ما يبدو بدقة 90%، والتطبيقات التي تقرر إذا كان الشخص يشكل خطرًا لنقل العدوى وهل ينبغي السماح بدخوله إلى مراكز التسوق ومترو الأنفاق والأماكن العامة الأخرى أم لا.
أيضًا طلبت العديد من محطات القطار من الركاب والمقيمين تقديم مثل هذه المعلومات كوسيلة للتحقق مما إذا كانوا قد وصلوا إلى مناطق تضررت بشدة من الفيروس (مثل مقاطعة هوبي) قبل السماح لهم بالدخول.
تعمد الحكومة الصينية على تفتيش جوالات المعارضين أو غير المرغوب فيهم لمعرفة تنقلاتهم
في خطوة مماثلة، بدأت المدن بما في ذلك شنغهاي وشنتشن بمطالبة المسافرين بالتسجيل المسبق في خدمات مترو الأنفاق في المدينة كي يتسنى لهم الركوب فيه.
فقط أولئك الذين يعلنون هويتهم على تطبيق الهاتف يمكنهم ركوب القطار، والفكرة هي تتبع ما إذا كان الناس قد سافروا مع شخص يشتبه في إصابته أم لا، واستخدمتها الشرطة لمراقبة جهات الاتصال في الهاتف.
تم اقتراح نظام مماثل للتحقق من الهوية لبعض دور السينما عند إعادة فتحها، حيث طلب رواد السينما تقديم تفاصيلهم الشخصية من أجل السماح لهم بالدخول.
معارضو النظام محظور عليهم استخدام المترو
في العام الماضي، خلال منتدى الأعمال في البلاد، منع منتقدو الحكومة والمطالبين بالإصلاحات في جميع أنحاء البلاد من الحصول على تذاكر القطار إلى بكين حيث تم إدراجهم في القائمة السوداء في نظام التذاكر.
وخلال الجائحة تم منع المعارضين وناشطي حقوق الإنسان من ركوب القطار وكذلك ممنوع عليهم استخدام الكثير من مرافق الدولة، أو التنقل دون ارتداء أساور التتبع.
كذلك تعمد الحكومة الصينية على تفتيش جوالات المعارضين أو غير المرغوب فيهم لمعرفة تنقلاتهم من خلال سجل تحديد الموقع “GPS”، مع العلم أن البرنامج لا يعطي نسبة دقة 100% بسبب التشويش المتعمد عليه من الحكومة الصينية، وقد اشتكى الكثير من الناس من أنه تم الإبلاغ عن أنهم “يتجولون” في مكان لم يذهبوا إليه.
شركات التكنولوجيا الضخمة وبطاقات QR
أصدر عمالقة التكنولوجيا، مثل تطبيق خدمة الرسائل “WeChat” ومنصة الدفع “Alipay”، رموز QR تعتمد على الألوان لتسمية مدى “الأمان” للشخص.
باستخدام مجموعة من البيانات الشخصية المأخوذة من جوالات المواطنين وبيانات بلدية المدينة، تم إنشاء رمز ثلاثي الألوان: أخضر لآمن، وأصفر يتطلب حجرًا صحيًا لمدة سبعة أيام وأحمر لمدة 14 يومًا.
في مقاطعة Zhejiang وحدها، تم تسجيل استخدام أكثر من 50 مليون شخص للرمز للتعامل مع منصة Alipay الصحية في غضون أسبوعين من بدء تفعيل الرمز.
مع تخفيف حدة الإجراءات المتبعة من الحكومة لمكافحة الوباء، يبدو أن الحكومة الصينية مستمرة في استخدامها لبرامج المراقبة والتتتبع تلك، وليس في نيتها تخفيفها
ووفقًا لتقرير نيويورك تايمز، يبدو أن البرنامج يسجل موقع المستخدم ويرسله لخادم متصل بالشرطة، وذلك يسمح للسلطات بتتبع تحركات الناس بمرور الوقت.
على الصعيد ذاته أطلقت شركة “China Electronics Technology” المملوكة للدولة أيضًا منصة تسمى Close Contact Detector، التي تسحب معلومات المرور للسكك الحديدية والرحلات وتسلمها مباشرةً إلى الحكومة.
وبحسب وسائل الإعلام الرسمية، يمكن للمنصة تحديد موقع الراكب بدقة على متن رحلة قطار مع معلومات تصل إلى ثلاثة صفوف من المقاعد المجاورة لكل راكب.
مع تخفيف حدة الإجراءات المتبعة من الحكومة لمكافحة الوباء، يبدو أن الحكومة الصينية مستمرة في استخدامها لبرامج المراقبة والتتتبع تلك، وليس في نيتها تخفيفها، بل على العكس شجعت شركات التكنولوجيا لتطوير الكثير من أنظمة المراقبة على المنصات والتطبيقات ذات الشعبية الكبيرة كما في تطبيق “وي شات”.
ط