حين تصلنا الأخبار عن حصول بلادنا على مساعدات أو قروض دولية، يكون أول سؤال يتوارد إلى الذهن: ما مصير تلك الأموال؟ وهل تذهب حقًا لصالح الشعب وجهود التنمية؟ خاصة أن الوضع لا يتغير كثيرًا قبل الحصول على هذه الأموال عن بعدها، بل على العكس ربما يزداد المشهد تعقيدًا مع إعلان تزايد معدلات الديون الناجمة عن تلك القروض على سبيل المثال.
لكن يبدو أن هذا السؤال فرض نفسه كذلك على الخبراء الاقتصاديين الدوليين، وبما لديهم من معلومات دقيقة ومعرفة أكثر بكواليس المطبخ الاقتصادي لدورة الحصول على القروض والمنح الدولية، بدءًا من المؤسسة المالية مرورًا بالحكومات وصولًا إلى الشعب، سعوا إلى محاولة الإجابة عن هذا السؤال: من يستفيد من المساعدات الدولية؟
في 13 من فبراير الماضي فوجئ الجميع بإعلان كبيرة الاقتصاديين في البنك الدولي، بينيلوبي جولدبيرج، تقديم استقالتها من منصبها، وهي التي لم تكمل فيه أكثر من 15 شهرًا فقط، (عُينت في 26 من أبريل 2018) وهو ما أثار الكثير من التساؤلات وقتها، إلا أنها لم تفصح عن السبب وراء تلك الخطوة المفاجئة، مكتفية بأنها ستعود لعملها السابق كأستاذ في جامعة ييل الأمريكية.
لم تمر استقالة جولدبيرج وهي الأستاذة المتميزة في الاقتصاد التي تم انتخابها عضوًا في الأكاديمية الوطنية للعلوم الأمريكية (أعلى شرف علمي يمكن أن يحظى به أستاذ جامعي أو باحث في الولايات المتحدة)، مرور الكرام، فبعد أقل من أسبوع على تقديمها الاستقالة جاءت الإجابة على لسان بعض المصادر في البنك الدولي وفق تصريحات لهم لـ”إيكونومست“.
المصادر أشارت إلى أن السبب الرئيسي للاستقالة عدم نشر ورقة بحثية مولتها جولدبيرج بحكم منصبها، أعدها 3 باحثين اقتصاديين، عن مساعدات البنك الدولي وتأثيرها على التحويلات المالية للحسابات البنكية في الملاذات الضريبية الآمنة (الدول الجزر التي تفرض سرية كاملة بشأن الحسابات المصرفية لعملائها ولا يكشفونها، مثل دول سويسرا وجزر العذراء البريطانية)، البحث كذلك ناقش مدى استفادة النخب السياسية في البلدان المستفيدة من تلك المساعدات لصالحهم الشخصي.
وازداد المشهد سخونة حين أقدم أحد المؤلفين الثلاث المشاركين في هذ البحث، وهو نيلز يوهانسون، الباحث في جامعة كوبنهاجن، على نشر نص الورقة البحثية على مدونته الشخصية، الأمر الذي دفع البنك الدولي ليعيد نشرها مرة أخرى على موقعه الرسمي على الإنترنت في الـ18 من فبراير، أي بعد تقديم كبيرة اقتصاديي البنك استقالتها بخمسة أيام.
المثير في البحث أنه وجد علاقة بين توقيت تسلم المساعدات والقروض المقدمة من البنك الدولي لبعض الدول وزيادة التحويلات إلى الحسابات المصرفية في الملاذات الآمنة لكبار المسؤولين للدولة في الخارج، ما يعني أن جزءًا كبيرًا من أموال المساعدات تذهب إلى حسابات النخب الشخصية.
ذهاب جزء من أموال المساعدات لصالح كبار المسؤولين السياسيين والاقتصاديين في الدول الممنوحة اعتقاد ليس بالجديد، لكن ما أثارته الورقة البحثية تلك أنها كشفت هذا الفساد من خلال بيانات دقيقة وتفصيلية من بنك التسويات الدولية، موضحة ذلك بالتواريخ وربطها بمواعيد حصول الدول على القروض والمساعدات، وهو ما يضع البنك نفسه ومسؤولي تلك الدول في موقف حرج جدًا.
ويعد رحيل جولدبيرج بما لها من تاريخ كبير من الإنجازات – كأحد كبار علماء الاقتصاد الجزئي التطبيقي، ولها عشرات البحوث والمقالات عن البلدان النامية واقتصادها -، نموذجا حيًا للصدام المتوقع حدوثه بين الإدارة الرأسمالية التي تسعى لتحقيق أكبر قدر من الاستفادة بصرف النظر عن الثمن، والمسؤولية الأكاديمية التي تسعى لتقديم المقترحات التي من شأنها تحسين أو تغيير العالم للأفضل، وفق ما اعتبرته صحيفة فينانشيال تايمز.
ما القصة؟
الورقة البحثية التي جاءت تحت عنوان “من يستفيد من المساعدات الدولية: أدلة من حسابات بنوك الملاذات الضريبية“، وشارك فيها ثلاثة من علماء الاقتصاد المتميزين، النرويجي يورجن أندرسون والأمريكي ونيلز يوهانسون وبوب ريجكرز أحد باحثي البنك الدولي، كشفت وبشكل معلوماتي مفصل العلاقة بين تدفق أموال المساعدات الأجنبية للدول النامية ونمو الحسابات البنكية في الملاذات الضريبية للنخب.
استند العلماء الثلاث في بحثهم إلى بيانات الـ22 دولة الأكثر حصولًا على مساعدات من البنك الدولي، وتعتمد على تلك المساعدات بصورة رئيسية في اقتصادها مثل النيجر ورواندا، وبيانات 24 دولة أخرى أقل اعتمادًا نسبيًا على تلك المنح والقروض مثل الأردن، في محاولة لإيجاد علاقة بين تدفق أموال المساعدات لتلك الدول وزيادة التحويلات المالية منها للملاذات الشهيرة في سويسرا والكايمين التي تفرض سرية على بياناتها وحساباتها.
وبعد دراسة تلك البيانات بشكل مفصل لاحظ الباحثون أن الدول التي تتلقى منح ومساعدات أكثر من 1% من الناتج المحلي لها، يصاحب ذلك نمو ملحوظ في ودائع الملاذات الضريبية لها بما قيمته 3.4%، غير أنهم وجدوا أن الاعتماد على تلك العلاقة بشكل منفرد ربما يأتي من قبيل المصادفة، وعليه وحتى يتوصلوا إلى نتائج أكثر دقة، درسوا العلاقة بين الطرفين، المنح والودائع، بشكل ربع سنوي.
وبعد تلك الدراسة الربع سنوية بين المؤشرات هنا وهناك، وجد الباحثون أن تاريخ حصول الدولة على المساعدت يتزامن بشكل كبير مع تاريخ زيادة معدلات الودائع في الملاذات والبنوك السرية، وهو ما يدعم الفكرة الأساسية التي قام على أساسها البحث، حيث استيلاء النخب في تلك الدول على أجزاء من المساعدات المقدمة لبلدانهم لصالح حساباتها الشخصية في الخارج.
وبعد مواجهتها كبار المسؤولين بالبنك بنتائج هذا البحث، حاولت جولدبيرج نشر تلك الورقة على موقع المؤسسة الرسمي، كما طالبت بتشديد الرقابة على المنح والمساعدات الممنوحة لتلك البلدان، بعدما تم كشف جرائم الاستيلاء عليها، وهو ما قوبل بالرفض، ما دفعها لتقديم استقالتها من منصبها حسبما أورد موقع الإيكونومست.
النتائج التي توصلت إليها الورقة البحثية تتناغم بشكل كبير مع الاتهامات التي يسوقها المعارضون لسياسات البنك الدولي بشأن استفادة الطبقة الحاكمة من القروض والمساعدات المقدمة من البنك الدولي للدول النامية، في الوقت الذي يتحمل فيه المواطنون ضريبة الإصلاح الاقتصادي المقدم للحصول على تلك المساعدات الذي في الغالب يحمل إجراءات تقشفية تؤثر بشكل كبير عن الحياة المعيشية للمواطنين، فضلًا عن إثقال كاهل مستقبلهم بمزيد من الديون التي يدفع ثمنها أجيال تلو الأجيال.
وماذا عن القروض؟
الورقة تطرقت وبشكل مباشر إلى مصير المنح والمساعدات المقدمة من البنك الدولي للدول، وحصول النخب على أجزاء منها، لكن هل ينطبق هذا الأمر ذاته على القروض المقدمة من بنوك عالمية؟ يبدو أن الوضع كما هو دون تغيير، وهو ما أكدته الدراسة التي قامت بها مؤسسة “أوكسفام” عن استثمارات البنك الدولي في إفريقيا جنوب الصحراء، في أبريل 2016.
جاء اختيار جنوب الصحراء كونها من الدول الأكثر حصولًا على المساعدات الدولية كنسبة من ناتجها المحلي، حيث توصلت الدراسة إلى أن 51 شركة من بين إجمالي 68 شركة ضخت فيها مؤسسة التمويل الدولية (أحد أفرع البنك الدولي) قروضًا أو استثمارات، كانت شركات لها سوابق تاريخية مع التهرب الضريبي عبر الملاذات الآمنة.
غير أن مشكلة قابلت الباحثين في دراستهم فيما يتعلق بالبيانات المتوافرة عن التحويلات البنكية لتلك الملاذات، حيث وجدوا أن أغلب البيانات الموجودة هي بيانات كلية تكشف حجم الودائع بشكل تقريبي لدول معينة في البنوك السويسرية وغيرها، لكن من الصعب الحصول على بيانات تفصيلية عن أسماء المستفيدين بشكل واضح، نظرًا لسرية حساباتهم، وإن كان هذا لا ينكر ما تقدمه تلك الأرقام الكلية من مؤشرات واضحة بصورة كبيرة عن الزيادة في حجم الودائع تزامنًا مع حصول الدول على القروض والمساعدات.
اللافت للنظر هنا أنه ومع انتشار مثل تلك الدراسات التي تفضح حجم الأموال المهربة من الدول النامية للبنوك الأوروبية إلا أن دول الاتحاد وحكوماته لم تحرك ساكنًا حيال هذه الجرائم، وذلك رغم تبني الاتحاد بين الحين والآخر خطابًا متشددًا يهاجم الملاذات الضريبية، وهو ما يعكس ازدواجية كبيرة في التعامل مع هذا الملف.
ماذا عن الدول العربية؟
لم تكشف الورقة المقدمة والمنشورة على موقع البنك الدولي الكثير من التفاصيل بشأن تورط أنظمة عربية محددة في هذه الفضيحة، لكن الأمر قياسًا يمكن الاستدلال عليه من خلال بعض الدراسات المشابهة التي تطرقت لهذه المسألة من قبل، وتوصلت إلى نتائج مشابهة إلى درجة كبيرة مع ما توصل إليه فريق جولدبيرج.
في 2018 قدمت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية في 2018 دراسة تحت عنوان (من وراء حجاب.. استثمارات البنك الدولي بين السرية المالية ووعود التنمية.. حالة مؤسسة التمويل الدولية في مصر) سعت من خلالها إلى البحث عن مدى وجود علاقة تربط بين الاستثمارات التي تدعمها المؤسسات الدولية وعلى سبيل المثال مؤسسة التمويل الدولية، أحد أذرع البنك الدولي، والشركات المصرية التي ترتبط بكبار المسؤولين السياسين والاقتصاديين والمسجلة في ملاذات آمنة تجنبًا لأي مساءلات ضريبية.
المدة الزمنية للدراسة كانت الفترة التي عملت فيها المؤسسة في مصر منذ عام 1995 وحتى العام الذي أجريت فيه وهو نهاية 2017، حيث جمع الباحثون المشاركون فيها بيانات قرابة 93 مشروعًا استثماريًا لمؤسسة التمويل الدولية في مصر، وبالتحليل وُجد أن ما لا يقل عن 50% من تلك المشروعات الممولة دوليًا كانت تابعة لشركات تمتلك حسابات بنكية في ملاذات ضريبية آمنة، فيما جاء 37% منها تعاني من نقص المعلومات المتاحة بشأن وجود علاقة من هذا القبيل.
اللافت كذلك في نتائج تلك الدراسة أنها اكتشفت أن 37% من تلك الشركات التي تلقت مساعدات أو استثمارات من مؤسسة التمويل التابعة للبنك الدولي، لها علاقة مباشرة بالنخبة الحاكمة، سواء ملكية تامة أم مساهمة أم علاقات غير مباشرة، وهو ما يتفق مع النتائج التي توصلت إليها الورقة البحثية التي بسببها استقالت كبيرة الاقتصاديين بالبنك.
دعم أم إفقار؟
النتائج التي كشفتها الدراسات السابقة تفرض تساؤلًا أخيرًا: هل تمثل تلك القروض والمساعدات الممنوحة نقمة أم نعمة على البلدان التي تحصل عليها؟ ووفق ما ذُكر فهي بلا شك نعمة على النخب المستفيدة منها بصورة تم إسدال الستار عنها بشكل كبير، لكن ماذا عن الشعوب المغلوب على أمرها؟
معروف أن القروض التي تمنحها المؤسسات الدولية للدول المتعثرة ليست بلا مقابل، فهي تُمنح بشروط، على رأسها أن تقوم تلك الدول بإصلاحات اقتصادية تحول بها سوقها إلى النظام الحر، مع تقليل الإنفاق الحكومي على قطاعات الدولة، دون أي اعتبارات للأبعاد الاجتماعية الناجمة عن تلك السياسة التي تزيد الفقراء فقرًا وتوسع دائرة المهمشين تحت مقصلة الرأسمالية المتوحشة.
التجارب الدولية في هذا المضمار تكشف وبشكل كبير التداعيات المدمرة لسياسات المؤسسات التمويلية الدولية على رأسها البنك الدولي وصندوق النقد، حيث أغرقت الديون العديد من الدول على رأسها البرازيل واليونان ووضعت قرارها السياسي والاقتصادي رهن تلك المؤسسات، فيما نجت دول أخرى مثل تركيا وماليزيا وذلك لأسباب تتعلق بهما وبسياساتهما المتبعة وليس منة من المؤسسات المالية الدولية.
وفي المجمل فإن الأزمة تتعمق بشكل كبير مع غياب دور الرقيب والمحاسب للبنك الدولي وصندوق النقد وغيرهما من المؤسسات المانحة للقروض للدول التي تعاني من أزمات، فمثل تلك الكيانات تتمتع باستقلالية تامة تحول دون مراقبة سياساتها من أي كيان آخر، بما فيه الأمم المتحدة، بل على العكس من ذلك فإن تلك المؤسسات هي من تملك وحدها سلطة الإشراف على الخطط الاقتصادية الإصلاحية المقدمة من الدول التي تقرضها، وليس هناك من سبيل لمحاسبتها حال فشل تلك الخطط وإغراق الدول في مستنقعات الديون التي تضع قرارها السياسي واستقلالها الوطني على المحك.