كان باستطاعة رجل الأعمال السوري والواجهة الاقتصادية لبشار الأسد، رامي مخلوف، أن يتكلم بدقة ويفضح المستور أمام الرأي العام، لكنه قصد – حسب مراقبين – أن يكون بيانه المصور الذي أطل به ليحتكم إلى مواقع التواصل الاجتماعي أقرب إلى تمتمات سياسية واقتصادية ليست ذات معنى مترابط ولا تعكس ماهية وأسباب الصراع الحقيقي بين الأطراف.
فاللغة المهلهلة التي استخدمها مخلوف في كشف الفساد غالبًا لم تكن ارتجالية أو نتاج قلة إمكانات مخلوف وإدارته السياسية، فكان مخلوف رغم سذاجته على الصعيد الشخصي قادرًا على أن يُعدّ بواسطة إدارته وعلاقاته السياسية – لو كان الخلاف حقيقيًا مع الأسد – خطابًا جامعًا مانعًا يقلب الطاولة ويفضح كل تفاصيل فساد الأسد ونظامه!
لكن ذلك لم يكن البتة! بل كان جليًا اتقاء مخلوف خلال تمتماته السياسية والاقتصادية أي مساس بشخص بشار الأسد، أي بعبارة أدق اتقى مخلوف فعليًا المساس بالنظام السوري، لا سيما والمعلوم بالضرورة أن أحد أهم خصائص النظام السوري أنه نظام أفعوي يستند على الرأس في بقائه على قيد الحياة!
لكن بذات الوقت ماذا تعني الاتهامات الحادة التي شنها مخلوف على الأجهزة الأمنية العليا بالتوازي مع تحييد بشار الأسد! هل أراد بها التجييش ضد الأجهزة الأمنية المقربة من القصر، التي باتت تشكل خطرًا على بشار ذاته، بالتوازي مع التسويق لبشار الأسد كشخص وطني؟!
ما الرسالة التي أراد بشار أو أحد قوى النفوذ الدولية المتحكمين بإدارته توجيهها للرأي العام السوري والسياسي من خلال رامي مخلوف الواجهة الاقتصادية لبشار الذي بدوره يعتبر أيضًا الواجهة الاقتصادية لأحد فواعل القوى الكبرى ذات الباع الكبير في إدارة سوريا؟
أم أن ما يحدث هو في حقيقته هروب من العقوبات الاقتصادية ومحاولة من النظام لتغيير الجياد الاقتصادية؟ أم هو صراع نفوذ بين القوى المتحكمة في النظام السوري، ما يشكل بدوره فرصة وصفقة سياسية واقتصادية يحاول مخلوف اقتناصها واللعب على التوازنات الدولية من خلالها؟ أم أن مخلوف لا يعدو كونه واجهة وانتهى دوره، فهو ذيل لذيل الكلب فأنى له قيادة الرأس أو التحكم به!
من هو مخلوف؟
يعتبر رامي مخلوف الشخصية الأقوى اقتصاديًا في سوريا والواجهة الاقتصادية السورية لبشار الأسد، ومعلوم أن قوته الاقتصادية ليست وليدة امتلاكه أكبر إمبراطورية مالية على رأسها شركة سيرياتيل للاتصالات، بل لأنه يجيد التلاعب بالنظام القضائي السوري، عن طريق استخدام مسؤولي المخابرات السورية لترويع خصومه من رجال الأعمال المشاكسين حسب وزارة الخزانة الأمريكية!
مخلوف يسيطر على 60% من الاقتصاد السوري، ما يعني بالمنطق السياسي أنه يمثل قفازات اقتصادية محلية لبشار
رامي هو الابن البكر لمحمد مخلوف الشخصية الاقتصادية العلوية التي نصبها حافظ الأسد لمهمة إدارة المصرف العقاري، ومنذ ذلك الوقت أصبح لهذه العائلة علاقات مميزة على الصعيد الاقتصادي، وكذلك على الصعيد الاجتماعي مع عائلة الأسد فضلًا عن علاقات المصاهرة الموجودة بين العائلتين أساسًا.
بعض من كل
من يطلع على ممتلكات وعقارات وشركات رامي مخلوف يعلم أنه لا يمكن لإنسان عادي أن يسيطر على اقتصاد الوطن كاملًا إذا لم يكن يشكل قفازات اقتصادية للحاكم الفعلي لسوريا، فحسب تقرير نشرته صحيفة فاينانشال تايمز أكدت فيه أن مخلوف يسيطر على 60% من الاقتصاد السوري، ما يعني بالمنطق السياسي أنه يمثل قفازات اقتصادية محلية لبشار الذي يشكل بدوره قفازات اقتصادية لدول فاعلة كبرى وذات نفوذ في الإطار السوري.
ومن أهم المؤسسات العائدة لمخلوف شركة سيرياتيل والبنك الإسلامي وبنك بركة وبنك بيبلوس وبنك الشام الإسلامي وبنك الأردن وشركة جلف ساندز البريطانية للنفط وشركات البتراء والحدائق وأيسي الدولية للعقارات وتليفزيون وراديو نينار وقناة دنيا السورية ومدرسة الشويفات ووكالة مرسيدس وشركة بروميديا الإعلانية وشركة أيتيك للمعلوماتية وجريدة الوطن والحصة الأعظم من أسطول جزيرة أرواد لصيد السمك وشركة بروتيل الموزعة لسيرياتيك وراماك الإنشائية والأسواق الحرة في مطاري دمشق وحلب، وشركة العقلية للتأمين التكافلي وشام القابضة وشام الكابتل وشركة لؤلؤ للطيران وشركة فاتس لتجارة وتصنيع الأدوية وراماك الإنشائية وأوراسكوم للاتصالات والعديد من الشركات والمؤسسات الأخرى التي يضيق التقرير عن حصرها.
الصراع والترويض
في إفادته لـ”نون بوست” يرى البروفيسور والمفكر السياسي لؤي صافي أن ما يجري أمر طبيعي في مسيرة المراحل العمرية التي تمر بها الدول المستندة في حكمها على أسر سلطوية وعصابات متحكمة بزمام القرار والنفوذ، مشيرًا إلى ذلك بقوله: “الصراع بين آل الأسد وآل مخلوف نموذج نمطي من الصراع بين أسر المافيا”، وتنبأ صافي أن ما يجري هو تحولات مفصلية داخل البنية الهيكلية لنظام الأسد، مؤكدًا “مثل هذه التحركات ستنتهي بتصفيات داخلية صامتة أو صاخبة، تنتقل من خلالها هيمنة أسرة وزوال منافستها”، مشيرًا أنه لا يمكن لدول تحكمها عصابات أن تحكم بلدًا لفترة طويلة.
يقول صافي: “الأشهر والسنوات القادمة ستكون حاسمة في تحديد شكل العقود المقبلة في المنطقة، لذا إما أن يتحرك الشعب ليشكل البنية الأساسية لإدارة محلية ذاتية ويفرز قياداته الشعبية الراغبة في التعاون مع قيادات المكونات المختلفة للمجتمع السوري، أو أن يدخل في مرحلة الصوملة والفوضى السياسية طويلة الأمد”.
ويضيف: “سوريا بحاجة إلى تغيير، والتغيير الأهم هو التخلي عن نزعات الاستعلاء بين الهويات السورية المختلفة، والعمل على تأسيس الهوية الوطنية الجامعة، التي تقوم على القيم الإنسانية المشتركة بين أبناء الوطن، لا الاختلافات الاجتماعية والدينية والقومية والطائفية التي تفرقهم”.
جميع رجال الأعمال السوريين الموجودين تحت الإقامة الجبرية في سوريا، كان لهم باع كبير في إنشاء وتمويل الميليشيات المحلية طيلة فترة مواجهة النظام للحراك الشعبي السوري
في ذات السياق رأى محللون أن محاولة الحجز على أموال رامي مخلوف لم يكن قرارًا سوريًا بل روسيًا بعد العجز المالي الذي عاناه الروس إثر تدخلهم في سوريا منذ سنوات لإنقاذ الأسد من السقوط بعد المظاهرات الشعبية العارمة التي كادت أن تطيح به منذ بداية الحراك الشعبي، فيما يرى مراقبون آخرون أن ذلك لا يعدو كونه مسرحية بهدف التهرب من تطبيق قانون قيصر الذي فرض عقوبات اقتصادية هائلة على الشخصيات الكبرى في النظام السوري.
انقلاب الاقتصاد على السياسة
أرجع خبراء سياسيون ملاحقة الأسد لمخلوف إلى عزم السلطة السورية إعادة هيكلة وتوزيع خريطة النفوذ الأمني بالدائرة المحيطة بالأسد والبلد بشكل عام، ومن غير البعيد حسب تقارير إعلامية روسية أن الدافع في ملاحقة مخلوف يكمن في عزم بشار القضاء على منافسيه في السلطة.
ولا شك أن مخلوف يعتبر أحد أقوى المرشحين، لقوته الاقتصادية من ناحية وضحالة فكره السياسي والاجتماعي من ناحية أخرى، ما يؤهله أن يكون قفازًا سياسيًا لا بأس به بالنسبة للفواعل الدولية في سوريا إذا تم الاتفاق الدولي على تحييد بشار الأسد.
والمثير للاهتمام حسب إفادات روسية أن جميع رجال الأعمال السوريين الموجودين تحت الإقامة الجبرية في سوريا، كان لهم باع كبير في إنشاء وتمويل الميليشيات المحلية طيلة فترة مواجهة النظام للحراك الشعبي السوري، ما خلق بدوره فيما يبدو وحدات غير نظامية بدأت تتحدى القوات الحكومية والأمنية الأساسية!
الأمر الذي دفع النظام السوري إلى محاولة تقويض الفاعل الاقتصادي القابل على التحول فجأة لفاعل سياسي أو قفاز سياسي لفاعل دولي مؤثر في الشأن السوري، وهذا يؤكده بوضوح سلوك رامي مخلوف عندما عاتب بشار الأسد بسبب اعتقاله لموظفيه في أثناء الفيديو، قائلًا له: “أنا قد كنت أكبر خادم وراع اقتصادي للأجهزة الأمنية أثناء الحرب، بل وضعت كل شبكات الاتصالات في خدمة الجيش والأمن، فكيف تقوم تلك الأجهزة بالتعدي على الموالين للنظام!”.
وعلى ما يبدو فإن رامي مخلوف تبعًا لعلاقته القريبة بالأجهزة الأمنية التي يسيطر على مفاصلها الإيرانيون، جعله الحلقة الأضعف بالنسبة لروسيا الساعية لتقويض الدور الإيراني بالإطار المحدد.