ترجمة وتحرير نون بوست
عندما يتحدث النقاد الاقتصاديون والتجاريون عن صادرات وواردات الولايات المتحدة والبضائع المصنعة مقابل المواد الخام والمحاصيل وغيرهم من الموضوعات والإحصاءات، فإن حساباتهم الميكانيكية تتجاهل بعض أهم المنتجات الأمريكية: الحروب واللاجئين وأنظمة الحدود وزعزعة الاستقرار والاستقلال الغذائي والسموم البيئية والانقلابات.
وبينما يبدو أن كتاب بيلين فيرنانديز “المنفى: رفض أمريكا والعثور على العالم” من على الواجهة يصور رحلتها اللاذعة لسنوات خارج الولايات المتحدة، فإنه لا يشارك ذلك الجهل لما يختبره العديد من الناس كوجه أمريكا في العالم، بدلًا من ذلك فإنه يمارس بلا هوادة نوعًا من الصحافة معرض للخطر وربما الانقراض: بحث المعارضين المناهضين للإمبريالية.
قصص مبكرة
تبدأ فيرنانديز بتاريخ العائلة الملفوف بالعلم الأمريكي، حيث تبزر قدرًا هائلًا من المتعة بشأن عمل أجدادها في الحكومة الأمريكية وتقديم المشورة للرؤساء والإشراف على الجرائم ثم تنتقل بعدها إلى التشريح السريري، على سبيل المثال التحول السريع لمانويل نورييغا من ملحق سياسي أمريكي في أمريكا الوسطى إلى ملك الكوكايين كذريعة لتسوية مدينة بنما.
ثم قصص مبكرة عن التلقين الوطني في المدرسة الابتدائية وتحذير المعلمة للتلاميذ من احتمالية تفجير صدام حسين للمدرسة والانتقال إلى نظام العقوبات ضد العراق؛ الأمر الذي قتل أكثر من نصف مليون طفل.
يتحدث الكتاب عن بربرية النظام الحدودي الذي تحمي قلعة أوروبا من خلاله بقايا دول الرفاه
هذا الحديث ليس تأملات مبتذلة لمشكلات حياة مغتربة أو قصة حلوة لمؤلفة وجدت نفسها في معبد بمدينة جنوب آسيوية مجهولة، إنه عن السياسة.
تنتقل فيرنانديز سريعًا بين سيرة حياتها الشخصية والعائلية إلى التيارات الواسعة للتاريخ وللعالم، فالسخرية مقسمة بشكل معتدل: الوطنية الأمريكية والعنصريون والنقاد المفتونون بالحرب والرؤساء المضطهدون للحرب هم أهداف متكررة.
لكن قصة تحول عائلتها من العنصرية المعادية للمسلمين التي فاحت في أمريكا بعد أحداث 11 سبتمبر مؤثرة للغاية.
في ظل الاستعمار
بالنسبة لفيرنانديز فنادرًا ما تظل الأمور الشخصية شخصية، لقد أصبحت السيرة الذاتية وسيلة لمناقشة السياسة الخارجية الأمريكية وجرائم أمريكا، أكثر ما أحببت كان الفصل الخاص بلبنان: لقد حصلنا على وصف اجتماعي وتاريخي متماسك لنظام الطائفية النيوليبرالية في لبنان والحياة في لبنان في ظل الدولة الاستعمارية الجنوبية.
لقد ترك هذا الأخير ظلالًا طويلة من أصدقاء لبنانيين فلسطينيين غير قادرين على تأمين وظائف مناسبة أو العودة لوطنهم فلسطين، إلى هجوم 2006 الذي شهدت فيرنانديز آثاره وحطامه المادي، إلى محادثات يتخللها مذبحة قانا أو التحالف الإسرائيلي مع قوات الكتائب الفاشية.
مع كل سخافة الحق الأمريكي الإسرائيلي في إلقاء النيران من السماء، يتوقف الفصل هنا مع اقتباسات بشعة لشخصيات كبيرة في الجيش الإسرائيلي تعد بضرب لبنان مرة أخرى في الوقت المناسب.
لم تركز فيرنانديز على الإنسانية التي تقبل اللاجئين، بل القبضة الحديدية التي صنعتهم
أما الفصل الخاص بهندوراس فيتعقب المسار الدائري للبلاد من 2009 وحتى الآن: من الانقلاب المدعوم من أمريكا الذي عزل الزعيم الشعبي مانويل زيلايا إلى عمليات القتل والقمع المتتالية التي انتشرت في البلاد حيث وجهت القوات اليمينية المدعومة والمدربة بواسطة الولايات المتحدة أذاها للمواطنين الرافضين للانقلاب.
تتجه فيرنانديز بعد ذلك إلى قافلة اللاجئين عام 2018 التي اتجهت من أمريكا الوسطى لتدق أبواب حدود الولايات المتحدة (وتسخر ببراعة من تصوير ضابط عسركية للجنود الذين يخافون الله بأنهم “ملائكة مسلحون”).
الإنسانية والقبضة الحديدية
في مكان آخر، نرى الآثار السامة للتخلف الصناعي من خلال سرد فيرنانديز لوباء العظام المتكسرة والطفح الجلدي في واحة قابس التونسية، فنخيلها الخصب وبساتينها بدأت في الذبول بسبب مصنع الفوسفات المسبب للسرطان الذي ينفث مواده الكيميائية محققًا أرقامًا مذهلة لإجمالي الدخل القومي، لكنه في الوقت نفسه يتسبب في تراجع صحة البشر.
تتحدث المؤلفة أيضًا عن حياة اللاجئين السياسيين والاقتصاديين في مالطا الذين يعيشون في أنابيب خرسانية ويذهبون إلى المستشفيات في أصفاد وربما كانت ستتوقف هنا مع قصة مألوفة لبربرية النظام الحدودي الذي تحمي قلعة أوروبا من خلاله بقايا دول الرفاه.
لكنها بدلًا من ذلك كتبت أن نمط الهجرة سيبقى كما هو طالما أن الحدود تنطبق فقط على من لا يملكون شيئًا، لكنها لا تنطبق على الشركات المفترسة أو الجيوش في كل مكان.
في الوقت الذي أصبح الترحيب باللاجئين في أمريكا مادة للإيمان بالليبرالية، لم تركز فيرنانديز على الإنسانية التي تقبل اللاجئين، بل القبضة الحديدية التي صنعتهم، فلاجئو أمريكا الوسطى هم لاجئون من الحروب الأمريكية والنيوليبرالية التي أسستها أمريكا والأنظمة التي وضعتها أمريكا والتغير المناخي الذي تسببت فيه أمريكا.
الأشخاص الذين يكتبون في أماكن تعد أمريكا مسؤولة عن ارتكاب فظائع فيها، يجب عليهم أن ينقلوا الدور الأمريكي
وبينما تتعامل أمريكا بجدية مع حماية حدودها مع المكسيك، فإنها لا تهتم باحترام حدود هندوراس والمكسيك وفنزويلا والعراق، فبعض الحدود مهمة وبعضها لا، ولم تسمح فيرنانديز للقارئ بأن ينسى ذلك ولو للحظة.
خدمة عظيمة
إن المنفى ليس مجرد قصة محنة، فبينما أصبح من غير المألوف مناقشة الجهود المبذولة لصنع عالم أفضل، تشيد فيرنانديز بحرارة إلى الفريق الطبي الكوبي في العيادات الصحية الفنزولية للفقراء، وتصور السيرة الذاتية لطبيب عيادة كوبي عمل سابقًا في دول إفريقية مختلفة وفي أفغانستان، يقول لها الطبيب: “الأطباء الكوبيون عملوا أيضًا في مناطق الصراع مثل الأطباء الأمريكيين، لكنهم كانوا ينقذون الأرواح”.
ما فعلته فيرنانديز في هذا الكتاب قديمًا للغاية وينبثق من كيفية أن تكون صحفيًا يساريًا تجدر الإشارة إليه، في حالة ما بعد الحالة الدموية والانتقال من تيجوسيجالبا إلى ديار بكر وتركيا ثم بيروت، تصر فيرنانديز على أن هدف النقد لا يمكن أن يكون ببساطة مجرد أشخاص سيئين يقومون بأفعال سيئة.
فالأشخاص الذين يكتبون في أماكن تعد أمريكا مسؤولة عن ارتكاب فظائع فيها، يجب عليهم أن ينقلوا الدور الأمريكي الذي عادة ما يكون ضخمًا للغاية مثل شحن طائرات البلاك هوكس والأباتشي لقوات مكافحة التمرد التركية، وحظر إصلاح البنية التحتية ومنع معدات تنقية المياه عن العراق الذي دمرته الحرب.
تقدم لنا فيرنانديز خدمة عظيمة بتذكيرنا بهذا الدور – باستثناء هؤلاء الذين يستفيدون من الفوضى – وهنا تكمن المساهمة المركزية للكتاب.
المصدر: ميدل إيست آي