خابت الآمال مجددًا، فمند الأسبوع الأول من رمضان، هجر الجزائريون ككل موسم القنوات التليفزيونية المحلية نحو العربية بحثًا عما يلبي رغباتهم، بعد أن عاشوا حالة من الضياع والسخط والتذمر بسبب الشبكة البرامجية المعروضة حاليًّا.
وراح قطاع عريض من الجزائريين يبحث عبر محرك “جوجل” عن برامج تتوافق مع ذائقته، خاصة في الفترة التي تلي الإفطار، التي تزامنت هذه المرة مع الحجر الصحي الذي أقرته الحكومة الجزائرية لتقليص رقعة تفشي وباء كورونا.
إنذارات بالجملة
كالعادة، سقطت الكاميرا الخفية من أجندة الجزائريين، وكانت من أكثر الحقول التي حظيت بانتقادات واسعة من طرف مختصين ونشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي، لما تحمله مضامينها من إهانة وتقزيم لدور المرأة، إضافة إلى تناولها ظواهر خطيرة كالسحر والعنف الجسدي واللفظي، وهو ما أخرج السلطة في الجزائر عن صمتها ووجهت جملة من الإنذارات لقنوات تليفزيونية خاصة، أولها بسبب برنامج رمضاني وصفته بـ”المخالف للقواعد المهنية والأخلاقية”، وأقرت سلطة السمعي البصري (هيئة حكومية تراقب عمل القنوات الجزائرية) بأن البرنامج المعني تضمن “مخالفات جسيمة مست بقواعد المهنة وأخلاقياتها، وأخلت بمبادئ وقواعد النظام العام والمساس بالحياة الخاصة وشرف وسمعة الأشخاص وعدم احترام الكرامة الإنسانية”.
ومن بين البرامج التي تعرض “حكمناكم قاع” نسبة إلى الشعار الشهير الذي تصدر جمع الحراك الشعبي في البلاد الذي انطلق يوم 22 من فبراير/شباط الماضي، إضافة إلى برنامج “أنا وراجلي” أي “أنا وزوجي” وهو البرنامج الذي أثار ضجة كبيرة بسبب فكرته التي تسيئ للمرأة وللمجتمع الجزائري وفق مشاهدين ونشطاء المنصات الاجتماعية وهو البرنامج الذي تلقى إنذارًا من سلطة السمعي البصري.
ووجهت السلطة إنذارًا آخر لقناة محلية خاصة، بثت مسلسلًا هزليًا باسم “دار العجب” اعتبر مسيئًا لتونس، حيث عالج بشكل ساخر تقديم الجزائر وديعة مالية لتونس بقيمة 150 مليون دولار، وقدمت بعدها القناتان اعتذارًا رسميًا للجزائريين ولتونس، وسحبت القناة البرنامج من الشبكة البرامجية لشهر رمضان.
كذلك وجه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، في لقاء جمعه مع وسائل إعلام محلية، انتقادات لاذعة للقنوات التليفزيونية وطالبها بـ”رفع المستوى”، وقال: “عندما يصل الأمر إلى إنجاز برنامج فكاهي، يخلق لي مشاكل دبلوماسية فهذا غير مقبول، ارفعوا المستوى”.
موجة الغضب والضجة الإعلامية طالت أيضًا مسلسلًا تليفزيونيًا يعرض على قناة جزائرية، أثار سخطًا كبيرًا بين مشاهدين ومنظمات وأحزاب سياسية بسبب إساءته للسيدة خديجة زوجة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وبثت قناة جزائرية خاصة، الجمعة الماضي، حلقة من مسلسل “أحوال الناس” يعالج مكانة المرأة المطلقة في المجتمع الجزائري.
لا تزال تجاوزات القنوات الفضائية في شبكاتها البرامجية خلال رمضان المعظم تتوالى
وتضمن أحد مشاهد المسلسل “تعرضًا” للسيدة خديجة، إذ ظهرت امرأة وهي تدافع عن زواج المطلقة قائلة: “الرسول صلى الله عليه وسلم وداها (تزوجها) هجالة (كلمة سوقية تطلق على الأرملة للنيل من سمعتها)” في إشارة إلى السيدة خديجة.
وانتقدت جمعية “العلماء المسلمين الجزائريين” بشدة عبر صفحتها على فيسبوك الجرأة على أمهات المؤمنين، وقالت إنها جريمة، وأضافت “برامج رديئة وسطحية وجريئة على المقدسات”.
وفي بيان لها، قالت جبهة العدالة والتنمية (حزب إسلامي جزائري): “لا تزال تجاوزات القنوات الفضائية في شبكاتها البرامجية خلال رمضان المعظم تتوالى، فبعد برامج الكاميرا الخفية التي تلاعبت بمشاعر الناس بأسلوب مبتذل، نالت من أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها في مسلسل أحوال الناس”.
كورونا يعمق الأزمة
توقع النقاد موسمًا أبيض جديدًا في الجزائر، خلال الموسم الحاليّ، بسبب وباء كورونا الذي بعثر أوراق المنتجين وأبعد أضخم مسلسل درامي جزائري كان من المنتظر أن ينقذ الموسم الحاليّ وهو مسلسل “بابور اللوح” الذي شد أنظار الجميع وعلقت عليه آمال كبيرة لدفع الدراما المحلية، غير أن الرياح جاءت بما لا تشتهيه السفن، حيث أطل صاحب الدور الرئيسي في المسلسل عبد القادر جريو رفقة فريقه، معلنًا أن عدم بث العمل في شهر رمضان كان بسبب عدم اكتمال تصوير المشاهد الخارجية لأسباب اعتبرها “قاهرة”، حيث تم إلغاء كل رخص التصوير بسبب وباء كورونا، وكذا إصرار فريق العمل على تصوير المسلسل على أفضل وجه، لذلك تقرر تأجيل العمل إلى ما بعد الحجر الصحي.
وفي سياق إنجاز هذا التقرير، حاولنا جمع آراء بعض المختصين لتقييم الموسم الدرامي الحاليّ وأسباب هجر الجزائريين للقنوات الحكومية والمستقلة وحصل إجماع على أن الدراما الجزائرية دخلت في نفق مظلم منذ سنوات خلت.
الدراما ضحية تقليد وفساد
المسرحي والكاتب الجزائري فوزي سعيداني، يقول في حديث لـ”نون بوست”: “الدراما الجزائرية تذهب كل موسم ضحية تقليد وفساد في الإنتاج السينمائي، فقطاع من المخرجين الحاليّين يستندون إلى أعمال أجنبية لإنتاج أعمالهم خاصة الأعمال التركية”.
إضافة إلى ذلك يذكر المتحدث تهميش نخبة الفنانين الحقيقيين، فالقطاع عرف بروز أوجه فنية لا علاقة لها بالتمثيل تلعب أدوار البطولة في مسلسلات درامية، إضافة إلى ذلك يقول فوزي سعيداني إن الجزائر وصلت إلى درجة من الركود الفني هذا الموسم لأنها لم تستطع إنتاج ولو عمل درامي واحد يرقى للمشاهد بسبب فساد القطاع وصارت هناك سوق سوداء في مجال السيناريو مما جعل كتاب يغادرون فنهم لأنهم الخاسر الأكبر في قصة الإنتاج، إضافة إلى غياب مخرجين مؤهلين ونقص سيناريوهات ترقى أن تسمى سيناريو، ويستدل في هذا السياق بإحالة أكبر منتجة جزائرية إلى المتابعة القضائية، إضافة إلى وضع وزراء ثقافة سابقين تحت المتابعة القضائية.
ويشير فوزي سعيداني إلى أن الإنتاج الدرامي عرف دخلاء كثر برزوا بقوة في الأعمال الرمضانية، ويقول إنهم “علقوا خيط انتحار الدراما الجزائرية والمشاهد الجزائري رحل عن القنوات والإنتاجات بسبب كل هذا”، مضيفًا “الأعمال الدرامية دخلت في نفق مظلم خاصة مع الحجر الصحي”.
وتكمن عناصر الإخفاق بحسب الروائي والكاتب الجزائري عبد اللطيف ولد عبد اللطيف، في حداثة التجربة ونشأة القنوات التليفزيونية وراء ضعف هذا المجال، ويقول المتحدث في تصريح لـ”نون بوست”: “المشارقة لهم قنوات خاصة منذ زمن بعيد والجزائر انفتحت فقط على هذا المجال في العشر سنوات الأخيرة، إضافة إلى أن السلطة كانت تمسك بزمام هذه القنوات لأن بعض الأعمال كانت تشكل مصدر إزعاج كبير بالنسبة لها على سبيل المثال مسلسل “عاشور العاشر” و”دقيوس ومقيوس”.
المخرج الجزائري عصام تغيشت، وصف في تصريح صحفي، الإنتاج الدرامي بـ”الكارثي”، وقال: “كل عام نتحدث عن ضعف الإنتاج الدرامي لكن بصراحة هذه السنة الإنتاج كان كارثيًا وضعيفًا جدًا ولا يرقى حتى لأن نطلق عليه هذه التسمية”، مؤكدًا “الجمهور مستاء وقد أعطى رأيه فيها ووصفها بالمهازل الحقيقية، الجمهور ليس غبيًا ليبتلع أي شيء، الجمهور يمتلك من الذكاء ما جعله يقف على بريكولاج عدد من الفنانين وهذا يعني أننا أمام كارثة حقيقية”.
ويرى المخرج الجزائري أن المشكل ليس في السيناريو أو القصة، وإنما فمن يؤدي هذه القصة، في إشارة منه إلى الممثلين، ووصف الممثلين بـ”الآلات” ومعظمهم حافظين أدوارهم عن ظهر قلب.
محاكمات افتراضية
على مواقع التواصل الاجتماعي، كتبت الإعلامية والكاتبة الروائية فتيحة أحمد بوروينة، منتقدة في منشور لها على الفيسبوك”: “ستتعافى الدراما في الجزائر عندما نخرجها من سباق رمضان وإنتاجات الاستعجال، للشهر حرمته وهي تذبح ولا أحد يتحرك”.
وهو نفس الإشكال الذي طرحه صاحب الدور الرئيسي في مسلسل “بابور اللوح” عبد القادر جريو، بعد كشفه بث المسلسل رسميًا على منصة مشاهدة إلكترونية جديدة تسمى “يرى”، وقال في شريط الفيديو: “خوض هذه التجربة سيفتح المجال أمام إمكانية إنتاج أعمال فنية خارج شهر رمضان”.
وبعد مرور أسبوع، كتبت الصحفية طاوس أكيلال، منتقدة في منشور لها على الفيسبوك “الرتابة والانحدار الأخلاقي الذي نزلت إليه برامج الكاميرا الخفية التي أظهرت المرأة كشيء يهدى في إهانة واضحة بسبق إصرار وترصد والتلاعب بمشاعر الفقراء، مما أدى إلى سحب البرنامج”.
وفي تعليقها على الدراما، تشير طاوس إلى مسلسل “يما” الذي لفت انتباه قطاع من الجزائريين، للمخرج التونسي مديح بلعيد وشركة الإنتاج قوسطو، وتقول إنه “حاول الاعتماد على حبكة معينة دون أن يقنع المشاهد وفقًا لبعض الأصداء التي تداولتها مواقع التواصل الاجتماعي”.
وتضيف “لم يبق أمام المشاهد الجزائري إلا القنوات العربية التي كانت هي الأخرى ضحية فيروس كوفيد 19، والرابح الأكبر على حد رأيي الشخصي الدراما المصرية التي اكتسحت الساحة بالكثير من الأعمال الاجتماعية السياسية الكوميدية وحتى الخيال العلمي أمام شبه غياب للدراما السورية واللبنانية”.
وأجرت الصحفية الجزائرية، مقارنة بين صورة المرأة وشكل المرأة التي تسوقها الدراما المصرية والجزائرية، حيث تسعى الأولى إلى بناء مخيال جديد للمرأة في المجتمع المصري بإظهار نجاح المرأة واستقلاليتها الفكرية والمادية من خلال أعمال “خيانة عهد” من بطولة الفنانة يسرا، و”سلطانة المعز” لغادة عبد الرزاق وبشكل أبسط ياسمين صبري في “فرصة ثانية” وياسمين عبد العزيز في “حنجب تاني ليه”، أما في الجزائر تقول طاوس أكيلال: “المرأة لا تزال عنوان الفشل والسطوة الذكورية وشي يعامل فقط على أنه جسد وفقط للامتلاك أي أنه لم نخرج بأي أمر جديد”.
ليس أكيدًا أن “جوجل” أنقد الموقف بالنسبة للمشاهد الجزائري الذي لجأ إليه، فحال الدراما العربية وبرامج الترفيه لهذا الموسم في عموم المنطقة، ليست بأفضل مستوياتها على كل حال.