يعيش العالم جائحة أقل ما فعلته بنا أنها جعلتنا نطرح أسئلة عديدة، وهذا ما تُرجم في فضاء مواقع التواصل الاجتماعي حين تساءل الكثيرون عن الأشياء التي يمكن أن نتعلمها خلال فترة انتشار الوباء عبر العالم، ولكن هذا السؤال لم يبق حبيس النقاشات الفردية، بل بدأ يتجاوز الإطار الذاتي إلى مراقبة طبيعة تعامل الحكومات مع الوباء الذي فرض على العالم قوانينه الجديدة رغمًا عنه، وقد أصبح المواطن العربي يراقب بعين الحذر والمسؤولية مجموعة من القرارات التي اتخذتها الحكومات لأجل الحد من انتشاره، في ظل غياب أي علاج حاسم عن الساحة العالمية، ما دفع البلدان بالضرورة إلى تحديد إمكاناتها المتاحة ومدى جاهزيتها في مواجهة عدو لا يُرى بالعين المجردة.
أليس من الممكن إذًا أن يكون هذا الوباء درسًا لمراجعة حسابات الدول خاصة على المستوى الداخلي؟ أليس الوقت مناسبًا للانتباه إلى أهمية العنصر البشري وتكوينه؟ وما الذي يمكن للدول العربية أن تتعلمه من فيروس كورونا؟
الثقة والاعتماد على العنصر البشري الوطني
بعد إقرار إغلاق المطارات والموانئ وتوقيف المواصلات الدولية بين البلاد، وما تلاها من قرارات للحد من انتشار الفيروس، ظهرت للعلن عدة مبادرات علمية رفعت التحدي لأجل أي اختراع من شأنه أن يساعد للحد من انتشار الفيروس ويسهّل مهمة الأطباء والعاملين في نفس القطاع أو في قطاعات أخرى اضطرت للعمل رغم الوباء، وأمام هذه الوضعية، لم تقف العقول العربية جامدة متفرجة، بل تم اختراع عدة نماذج محلية يمكن اعتمادها والعمل على تطويرها.
اختراعات علمية متنوعة:
في المغرب مثلًا، تم اختراع نموذج لطائرة درون لكشف المرض عبر تزويدها بأجهزة لإجراء اختبارات على مستوى المسحة الأنفية، مع ربط هذه الطائرة بتطبيق يسمح بنقل المعلومات للأطباء من أجل الاطلاع على الحالات المحتملة.
ومن جهة أخرى تم اختراع جهاز تنفس ذكي مرتبط بتطبيقات محمولة تساعد على تتبع الحالات المرضية وتزويدها بالوصفات الطبية المناسبة عن بعد، ويعتبر هذا الجهاز منتجًا محليًا بالكامل، كما أنتجت شركات الكمامات الواقية بأرقام سمحت لها بأن تُصدر لعدة دول.
وفي جارته الجزائر، تم اختراع معقم يعمل دون لمس ويسمح بتعقيم اليدين من خلال مجس حراري، اخترعه جزائريان بهدف الحد من انتشار الفيروس عبر اليد، وفي نفس السياق تم إعلان إنتاج جهاز للكشف السريع عن الفيروس خلال 15 دقيقة.
أغلب هذه الاختراعات جاءت على شكل اجتهادات حيث يمكن تطويرها والاستثمار فيها بشكل أكثر جدية واحترافية
وغير بعيد عن الجزائر، في تونس تم اختراع “روبوت” فريد من نوعه مهمته الأساسية الحفاظ على الروابط الاجتماعية بين المرضى الموجودين بالمستشفيات وعائلاتهم، وذلك من خلال إمكانية التواصل مع عائلات المرضى التي يتيحها هذا الروبوت، بالإضافة إلى تمكين الأطباء والممرضين من التعامل مع المصابين بكورونا والمساعدة على التواصل معهم دون تقارب جسدي لتقليل خطر العدوى، ومن جهة أخرى حول متطوعون إحدى المدارس بالعاصمة التونسية إلى ورشة لصناعة الكمامات.
ولا بد من الإشارة إلى أن أغلب هذه الاختراعات جاءت على شكل اجتهادات، حيث يمكن تطويرها والاستثمار فيها بشكل أكثر جدية واحترافية.
الاستعداد للتضحية
من زاوية إنسانية، أبرزت هذه الجائحة شريحة مهمة من المواطنين الذين لديهم قدر عالٍ من المسؤولية وروح التضامن، وقد حققوا نتائج مثالية استحسنها المتضررون من الوباء، وكانت مبادراتهم خطوة قوية لمساعدة الحكومات في تغطية احتياجات فئات عريضة.
الأعمال التضامنية الخيرية:
بالإضافة إلى التدابير المتخذة من طرف الدولة المغربية من أجل مساعدة الفئات الاجتماعية المتضررة بسبب الوباء، التي حددت في 800 درهم لشخصين، و1000 درهم لأربعة أشخاص ثم 1200 درهم لما فوقهم، ظهرت مبادرات تطوعية من أفراد وجمعيات ساهموا وشاركوا في أعمال خيرية كثيرة غطوا بها حاجيات شريحة اجتماعية واسعة، وقدموا من خلالها مساعدات مادية مهمة ومواد غذائية مكثفة في مختلف المناطق الحضارية والهامشية وأيضًا المناطق البعيدة جدًا والنائية.
وهو عين الأمر الذي حدث ببلدان عربية من بينها الجزائر، حيث أطلق بعض الشباب المتطوعين حملة لمساعدة العائلات المعوزة خلال شهر رمضان.
وكان الإبداع بتونس حين تم تقديم مساعدات مالية وغذائية عن طريق الهاتف، وهو شكل جديد لمبادرة تهدف إلى تمكين العائلات الفقيرة من شراء حاجياتها خلال فترة الحجر الصحي، حيث يتواصل الناس برسائل نصية تظهر لهم المحل الذي عليهم أن يتوجهوا إليه لصرف مساعدتهم.
الحاجة إلى الاهتمام بقطاع التعليم والصحة والأمن
في واقع الأمر، لا يمكننا أن نفصل بين هذه القطاعات في تأثيرها وأهميتها لما لها من عناصر متداخلة فيما بينها تنعكس على حياة الشعوب، وقد أكد وباء كورونا بشكل قوي أن ما يمكن الاعتماد عليه لمواجهة الأزمات المختلفة بما فيها الأوبئة هو الاهتمام بالقطاعات الحيوية وعلى رأسها التعليم والصحة والأمن وتوفير الوسائل المختلفة لتحقيق الجودة العالية فيها، ويعتبر العالم العربي مثالًا ونموذجًا، إذ يمكن له أن يستفيد من تجاربه ويتعلم منها.
أهمية الأمن: تؤثر أهمية الأمن في جودة القطاعات الأخرى، فمؤشر “دافوس” لجودة التعليم، أظهر خروج 6 دول عربية من التقييم سنة 2019، وقد تتساءلون عن العلاقة بين جودة التعليم وأهمية تحقيق الأمن، لكن حين تعرفون أن هذه الدول هي: سوريا والعراق واليمن وليبيا والسودان والصومال، ستدركون أنه لا يمكننا نفي أن العامل الأمني غاية في الأهمية، وذلك لأن تحقيق الأمن يوفر فضاءً أكثر رحابة للتعليم ولتحقيق النماء.
كلما تم تضييق الخناق على العقول العربية وتوفير الأسباب الدافعة إلى الهجرة سينزف العالم العربي الكثير من العلماء والعقول
أهمية التعليم: يُظهر نفس المؤشر أن دولة قطر تتصدر ترتيب الدول العربية في جودة التعليم والمرتبة 4 عالميًا، في حين تحتل تونس المرتبة الـ7 عربيًا والـ84 عالميًا، ويأتي المغرب في المرتبة الـ9 عربيًا و101 عالميًا، فيما تحتل الجزائر المرتبة الـ11 عربيًا والـ119 عالميًا.
هذه المؤشرات المتباينة لا يمكن إلا أن تجعلنا نتساءل: لما لا يمكن الاستفادة من تجربة دولة قطر في هذا المجال؟ علمًا بأن جلّ البلدان العربية تحتل مراتب متأخرة في سلم هذا المؤشر.
أهمية الصحة: ترتبط أهمية هذا القطاع بحجم ما يتم إنفاقه من طرف الدول على الرعاية الصحية ببلادهم، فحسب بيانات نشرها البنك الدولي عن الرعاية الصحية في الوطن العربي، أظهرت أن دولة قطر هي الأكثر إنفاقًا على مواطنيها بمعدل 2106 دولارات للفرد الواحد، في حين جاءت موريتانيا في المرتبة الأخيرة بواقع 48.8 دولار، وذلك حسب آخر بيانات متوافرة لدى البنك الدولي لعام 2014، فيما تنفق الجزائر 361 دولارًا للفرد وتنفق تونس 305.3 دولار، وينفق المغرب 190.1 دولار للفرد حسب نفس البيانات.
وهنا يتضح جليًا مدى ارتباط هذه القطاعات ببعضها، فالمتقدم في ترتيب التعليم يتقدم في مؤشر الصحة، ولكن لا يمكن ذلك دون
يعلمنا هذا الفيروس المستجد دروسًا أخرى كثيرة، ويجب الانتباه إلى أنه كلما تم تضييق الخناق على العقول العربية وتوفير الأسباب الدافعة إلى الهجرة سينزف العالم العربي الكثير من العلماء والعقول التي لا تجد بدًا من استثمار خبرتها في بلدان أخرى.