إذا كان المصريون يعانون من تداعيات فيروس كورونا المستجد على أحوالهم المعيشية، كغيرهم من بقية شعوب العالم، فإن الوضع يزداد سوءًا مع أبناء الجالية السودانية المقيمين في مصر، فبين مطرقة تأجيل حلم العودة للوطن في ظل غلق كل المعابر الجوية والحدودية وسندان تفاقم الأزمات الاقتصادية، يقبع السودانيون على أرصفة الصبر في انتظار المصير.
محال تجارية أغلقت ومقاهٍ علا جدرانها التراب ومشروعات توقفت فجأة ومعونات دولية تناقصت بشكل كبير ومضايقات أمنية بين الحين والآخر وتنمر عنصري لأسباب سياسية وضغوط نفسية حادة واشتياق – خارج نطاق الإشباع مؤقتًا – للعودة للأهل والوطن، حصار داخل الحصار وعزلة من رحم عزلة، أوجاع كثيرة تزيد آلام واحدة من أكبر الجاليات العربية والإفريقية في مصر، إن لم تكن الأكبر على الإطلاق.
كانت القاهرة ولا تزال القبلة الأكثر استهدافًا لكثير من السوادنيين، وخلال العقود الماضية تحولت إلى مقصد الجميع باختلاف دوافعهم، الفارين من أتون الحرب الأهلية في الجنوب والغرب، الباحثين عن العلاج وفرص العمل، الهاربين من بطش السلطات الحاكمة، والمعارضين لتوجهات الأنظمة، هذا بخلاف استهداف بعضهم لمصر كمحطة ترانزيت للجوء إلى أوروبا.
لا يوجد إحصاء رسمي لعدد السودانيين المقيمين في المحروسة، لكن التقديرات النسبية تشير إلى أنهم بين مليوني إلى خمسة ملايين سوادني، يعيش أغلبهم في محافظات الجيزة والقاهرة وأسوان، بينما تشير إحصائية اللاجئين المسجلين لدى المفوضية السامية للاجئين التابعة للأمم المتحدة العام الماضي إلى أن عددهم يبلغ 37 ألف لاجئ سوداني مسجل رسميًا في مصر.
معاناة مستمرة
تعيش الغالبية العظمى من الجالية السودانية في مصر في أوضاع معيشية متدنية، حيث يفتقر الكثير منهم لمقومات الحياة الكريمة في ظل الضغوط الاقتصادية المتواصلة التي دفعت شريحة كبيرة من السودانيين إلى امتهان بعض الأعمال ضعيفة الدخل، كثيرة المشقة، في محاولة لتوفير ما يسد الرمق.
جولة سريعة داخل شوارع منطقة فيصل في الجيزة والعتبة والموسكي بوسط القاهرة، تكشف لك جزءًا من هذه المعاناة، حيث يفترش الباعة السودانيون أرصفة الطرقات بالمنتجات الشعبية على رأسها الجلود والمستلزمات الطبية والإلكترونية، هذا بخلاف لجوء الكثير من النساء السودانيات للعمل في مراكز التجميل النسائية وتصفيف الشعر.
المعاناة تزداد مع حرمان الكثير من السودايين من العودة لبلادهم بسبب غلق الحدود ووقف حركة الطيران، ضمن الإجراءات الاحترازية المتبعة لمواجهة وباء كورونا
تفتقر الجالية كذلك لأي مكان ثابت يجمع أعضاءها على غرار الأندية الاجتماعية، حيث حاولوا مرارًا الحصول على تصريح بذلك لكنهم فشلوا في تحقيق هدفهم لأسباب بعضها يتعلق بالبيروقراطية والآخر بالضوابط الأمنية التي تتعامل مع الجاليات الأجنبية بشيء من الحساسية والحذر.
وفي ظل تلك الأوضاع يفتقدون كذلك إلى منبر إعلامي يتحدث باسمهم أو ينقل أوجاعهم ويربط بينهم في مصر وأهاليهم في بلادهم، وهو ما دفع بعض الإعلاميين السودانيين إلى التفكير في تدشين قناة سودانية فضائية بالتعاون مع رجال الأعمال السودانيين المقيمين في القاهرة، لكنها لم تر النور بعد وإن كانت طور الدراسة والتخطيط.
كورونا تزيد الأوجاع
جاءت أزمة كورونا لتزيد أوجاع الجالية السودانية، حيث سقطت معظم المشروعات التي يعمل بها السودانيون تحت مقصلة الإجراءات الاحترازية التي أغلقت العديد من الأنشطة الاقتصادية على رأسها أماكن الترفيه والمقاهي التي تتصدر قائمة المشروعات السودانية في مصر.
عثمان، ثلاثيني سوداني يقيم في منطقة فيصل بالجيزة، اضطر استجابة للإجراءات الاحترازية إلى غلق المقهى الذي يديره، ومنذ ثلاثة أشهر تقريبًا وهو مقيم في منزله، حيث لا عمل ولا مصدر دخل آخر، على أمل انكشاف الغمة ومعاودة فتح مقهاه مرة أخرى.
وأضاف الشاب السوداني أنه ليس الضحية الوحيدة لغلق المقهى، لافتًا إلى أن هناك 4 سودانيين آخرين بجانب شاب مصري يعملون فيه، وجميعهم دون مصدر دخل آخر، كاشفًا أن ما يزيد على مئة سوداني يديرون مقاهي بمنطقة فيصل فقط، ما يعني فقدان مئات الأسر السودانية مصدر دخلها الوحيد.
فيما ذهب الفاتح، وهو مسجل كلاجئ في مفوضية الأمم المتحدة ويتقاضى منحة شهرية ثابتة تعينه على أمور حياته، إلى أنه خلال العام الماضي تقلصت قيمة المنح بشكل كبير، متأرجحة بين الحين والآخر، وهو ما أثر كثيرًا على ظروفه المعيشية.
وأضاف أن كثيرًا من المصريين عرضوا عليه العمل معهم في محالهم التجارية خاصة أنه متقدم في العمر، إلا أن ظروفه الصحية حالت دون ذلك، مكتفيًا بما يحصل عليه من المفوضية، لافتًا إلى أنه ومنذ تفشي كورونا تأزمت الأوضاع بصورة أثرت بشكل كبير على حياته المعيشية.
حرمان من العودة للوطن
المعاناة تزداد مع حرمان الكثير من السودايين من العودة لبلادهم بسبب غلق الحدود ووقف حركة الطيران، ضمن الإجراءات الاحترازية المتبعة لمواجهة وباء كورونا، حيث يراود العديد من أعضاء الجالية حلم العودة بعد إسقاط نظام عمر البشير في أبريل/نيسان العام الماضي.
وأشار بعض المقيمين من أبناء الجالية في مصر إلى أن “الحراك الشعبي منحهم فرصة جديدة للعودة إلى الوطن بعد سنوات من النفي والتشريد بسبب خلافات سياسية مع حزب النظام الحاكم في السودان” وفق ما نقلت عنهم “بي بي سي“.
علاوة على ذلك، فهناك قرابة 4 آلاف عالق سوداني في الأراضي المصرية لم يتمكنوا من العودة، حيث يعيش معظمهم في حالة صعبة، معيشيًا وصحيًا، في ظل استمرار ضبابية المشهد وعدم وجود أي إجراءات عملية لإعادتهم.
وبعد استغاثات عدة، قررت السفارة السودانية في القاهرة إعادة أكثر من ألف عالق سوداني في منطقة السباعية الصحراوية قرب الحدود مع مصر، كما استأجرت 140 شقة لتسكينهم، بجانب العمل على توفير الاحتياجات الغذائية والمستلزمات الطبية لهم، وذلك حسبما جاء على لسان القائم بأعمال السفير السوداني في مصر، خالد الشيخ.
قناة “الحرة” الأمريكية نقلت عن بعض العالقين معاناتهم على الحدود المصرية السودانية، من بينهم الشابة ميرفت التي قدمت إلى مصر برفقة والدتها لعلاج والدها الذي كان يعاني من أمراض مزمنة بالغدة الدرقية، وبعد أيام قليلة تشافى الوالد وتحسنت صحته، وعقدوا العزم على العودة للوطن مرة أخرى، لكن هنا كانت الصدمة.
بينما هم في طريقهم للعودة أصدرت الحكومة السودانية قرارًا بإغلاق المعابر البرية مع مصر، فمكثوا في القاهرة ثلاثة أيام حتى فتحت الخرطوم المعابر، فتوجهوا على الفور للحدود قاطعين مسافة تتجاوز ألف كيلومتر، لكن مع وصولهم هناك فوجئوا بالسلطات المصرية تخبرهم أن حكومة بلادهم أعادت غلق المعبر مرة أخرى.
وهنا تتجسد المعاناة أكثر، حيث ظلوا في العراء لمدة ثلاثة أيام كاملة، كان أهل النوبة يقومون على خدمتهم من مأكل وشرب، لكن حالة الوالد الصحية ساءت فاضطروا للعودة إلى القاهرة مرة أخرى، ليفارق العجوز الحياة بعد عشرة أيام قضاها في غرفة العناية المركزة.
الموجع هنا أنهم لم يجدوا أحدًا ليصلي على الوالد، فلم يصلي عليه إلا أربعة أفراد فقط، ودفن بمدافن القاهرة، حسبما أشارت ابنته للقناة الأمريكية التي تابعت: “كنت أتصور أن مئات الأشخاص سيصلون عليه حين وفاته في السودان، لم يجد من يصلي عليه هنا، لم يستطع أبناؤه أن يودعوه ويصلوا عليه ولن نستطيع زيارة قبره حين نشتاق إليه”.
وتحمّل ميرفت حكومة بلادها مسؤولية وفاة والدها، بسبب رفضها مرورهم عبر الحدود، كذلك عدم الاستجابة للمقترحات المقدمة بالبقاء في مدينة أسوان جنوب مصر حتى يكونوا قريبين من المعبر حال تم فتحه.
الأوضاع الصعبة التي يعيشها السودانيون في مصر دفعت بعضهم إلى التوجه لسفارة بلادهم آملين الحصول على دعم مادي يساعدهم على عبور تلك الأزمة، ونظرًا لعدم استجابة السفارة ما كان منهم إلا أن اقتحموها وكسروا أبوابها وعددًا من المكاتب.
وعلى الفور طلبت السفارة الاستعانة بالأمن المصري الذي حضر مسرعًا وفض الاعتصام وحول بعض المهاجمين إلى التحقيقات، فيما علقت السفارة أعمالها مؤقتًا بعد هذه الواقعة، والخارجية السودانية ستعمل على توفير المسكن والمستلزمات الطبية والغذائية للمتضررين من تداعيات كورونا.
وهكذا تستمر معاناة الجالية السودانية في مصر، فيما ينتظر الجميع ما ستسفر عنه الأيام القادمة التي سترسم بشكل كبير مستقبل بقائهم في المحروسة من عدمه، غير أن عالمية الأزمة الناتجة عن كورونا ستدفع الكثير منهم إلى إعادة التفكير في مسألة العودة لبلادهم لا سيما أن الأوضاع في الخرطوم لم تكن أفضل حالًا مما عليه في القاهرة.