شاعت “القرصنة” وأصبح لها تعريفات متعددة في حياتنا اليومية خلال العقدين الماضيين، بعدما زاد اعتمادنا على الإنترنت والتكنولوجيا، وصار من المألوف سماع مصطلحي “القرصنة الإلكترونية” و”الهاكرز” بعد شهرة منصات السوشيال ميديا وزيادة مساحة وجودها في اهتمامات الناس على جميع الأصعدة، ولكن ماذا تعني القرصنة؟ وما سياقها التاريخي؟ ومتى عرفها العالم؟
تحكي المراجع أن تاريخ القرصنة يعود إلى أكثر من 3000 عام، واستخدم الكلمة لأول مرة المؤرخ الروماني بوليبيوس، أما أقدم تعريف لها ظهر على يد المؤرخ اليوناني بلوتارخ، الذي وصف القراصنة عام 100 بعد الميلاد بأنهم الذين يهاجمون الناس دون سلطة قانونية، وتم ذكر القرصنة في رائعة هوميروس الإلياذة الملحمة الشعرية التاريخية التي تحكي قصة حرب طروادة.
توثق الحفريات والأدلة التاريخية المعروفة وجود القراصنة منذ القدم في كل أنحاء العالم، وأشهر ما تم العثور عليه نقش على لوح طيني يعود لعام 1350 قبل الميلاد، لسفينة قراصنة في شمال إفريقيا، كما يوثق التاريخ محاربة الملك المصري رمسيس الثالث، أشهر حاكم في الأسرة العشرين قبل الميلاد للقراصنة، ولكن بمرور الوقت عادوا مرة أخرى ليصطدموا بالرومان، قبل أن يتم تدميرهم من جديد، لكن بعد سقوط الرومان عادوا مرة أخرى.
عرف العالم فئات عدة من القراصنة، ولكن أكثر طائفة منهم استمرت في ذاكرة العالم هم الفايكنج أو الاستثنائيون الذين نهبوا أوروبا قبل ألف عام، وتلاعبوا بإنجلترا وفرنسا وألمانيا وأيرلندا وإيطاليا وروسيا وإسبانيا، وربما من المثير للاهتمام أن نعرف أن مكتشف الفايكنج ليف أريكسون هو نفسه الذي اكتشف أمريكا الشمالية من قبل أن يعرفها كريستوفر كولومبوس الرحالة الإيطالي الشهير.
العصر الذهبي للقرصنة
في العصور الوسطى، عُرِف القراصنة باعتبارهم “لصوص البحر”، وصعد نجمهم بشدة مع بداية القرن السادس عشر، وزاد من شهرتهم استخدام البلدان الأوروبية لهم ضد بعضهم البعض، وخاصة الإنجليز والفرنسيين والهولنديين الذين دفعوا القراصنة لمهاجمة السفن الإسبانية، لتعطيل تجارتها البحرية وإلحاق الضرر بالمدن والممتلكات الإسبانية وخاصة في منطقة بحر الكاريبي.
استمرت القرصنة على هذا النحو حتى نهاية حرب الخلافة الإسبانية عام 1715، ولكن القراصنة لم يتخلوا عن أعمالهم وأنشطتهم بعد أن أصبحت مهنة تجري في دمائهم، فهي ليست مخصصة لعصابات من اللصوص يستهدفون الربح السريع فقط، وإنما هي سكن لمحبي المغامرات والشهرة، فالحياة في البحر المفتوح ليست سهلة على الإطلاق ولا يستطيع أي إنسان خوض مثل هذه المخاطر التي لا مكان للضعفاء فيها.
يُصنف القراصنة منذ بداية التاريخ على أنهم مجموعات خارجة عن القانون، إلا أن قصصهم كانت دائمًا تأخذ شكلًا أسطوريًا في تراث الحكاوي الشعبية لكل بلد على حدة، ولهذا استمروا في مضايقة التجار من جميع بلدان العالم، مما أجبر الحكومات الأوروبية على تنظيم أساطيلها العسكرية مع بداية القرن الثامن عشر، لإنهاء غالبية أنشطة القراصنة وخاصة في المحيط الأطلسي.
وقعت أكبر معركة منظمة ضد القراصنة بعد الحروب النابليونية، في بداية عام 1814 وقتل أغلبهم وخاصة الذين تم أسرهم، كما شهدت هذه الفترة نهاية القرصان الشهير هنري مورغان الذي أوجع الإسبان وألحق بهم الكثير من الخسائر، بسبب انقلابه على أصدقائه القدامي ورفضه الانصياع للأوامر الأوروبية بالتراجع عن أنشطته.
ومن هنا بدأ الانحسار التاريخي للقراصنة بشكلهم القديم، فور انتهاء الحروب الأوروبية وتحول العديد منهم إلى التجارة خوفًا من تنامي قوة حكومات جزر الكاريبي بعكس الماضي، فضلًا عن تهديد المستعمرات الأمريكية لهم، بعد أن كانت تسمح لهم بالتحرك بحرية كاملة لنهب السفن دون أي عقوبة محتملة، فضلًا عن الوجود العسكري المتزايد والقوانين الدولية التي أبُرمت خصيصًا لمكافحة القرصنة.
قراصنة العصر الحديث
طبيعة القرصنة تسمح لها بالتمدد في كل المجالات، وتجعل المنتسبين إليها يعبرون ذاكرة الزمن، وتسهل استدعاءهم من كتب التاريخ وأساطير الزمن الماضي، صحيح أن الأسباب والأساليب تغيرت، لكن الذهنية التي تحكمهم وسلوكياتهم شبه واحدة، ولهذا يمكن تأريخ العودة إلى ظاهرة القرصنة بقوة في الواقع العالمي منذ بداية الثمانينيات، وظهروهم بقوة، مع أحدث تقنيات العصر، مما صعب من معرفتهم والقبض عليهم، كما كان يحدث دائمًا منذ بداية ظهور أسلافهم.
يوزع القراصنة أنفسهم حسب بيئتهم وطبيعة التضاريس المحصنة للبلدان القريبة منهم، فالقراصنة الآسيويون يركزون في الغالب على ممرات الشحن بين الصين والهند، أما قراصنة الأطلسي منذ العصر الذهبي للقرصنة، وهم يداهمون شبكة الممرات الملاحية المعقدة التي كانت تسمى بـ”التجارة الثلاثية”، وطورت نفسها مع تغير احتياجات وعروض الأسواق.
يستخدم القراصنة المعاصرون خلطة من الحيّل القديمة والجديدة، وأحيانًا يرفعون أعلامًا رسميةً لدولة ما، حتى يسهل عليهم الإيقاع بأي سفينة في عرض البحر، وزادت هذه العمليات منذ بداية الألفية الجديدة في جنوب شرق آسيا وأمريكا الجنوبية وجنوب البحر الأحمر، وقبالة سواحل إندونيسيا والصومال وبنغلاديش، كما أصبح العراق أيضًا نقطة ساخنة جديدة للقرصنة، لا سيما أن الأهداف الأكثر شيوعًا لهم هي سفن الشحن والناقلات والحاويات.
استخدم القراصنة الجدد قوارب سريعة مزودة برادارات وسونار، بجانب أدوات حديثة ومتقدمة للغاية في الاتصال، وجلبوا كل أنواع الأسلحة مثل الرشاشات والطوربيدات والقذائف الصاروخية وقنابل المولوتوف، وبعض التقارير الاستخباراتية تؤكد أنهم يملكون أجهزة اتصالات عبر الأقمار الصناعية، لتحديد موقع السفن التي تهمهم، ويستغلون محاذير القوانين الدولية التي تمنع السفن التجارية من حمل الأسلحة على متنها، فكل دولة ترفض السماح لأي سفينة أن تدخل إلى مياهها الإقليمية وهي مدججة بالسلاح، ولهذا مهمة القراصنة تكون سهلة للغاية في اختطاف حمولات السفن والأطقم البشرية عليها للحصول على فدية كبرى.
يمكن القول إن مرحلة ما بعد عام 2008 وضغوط التجارة الدولية، دفعت العالم لتشكيل دفاعات عسكرية منظمة على طرق التجارة، ومن هنا ظهرت “قوة المهام المشتركة 150” التي تتكون من تحالف متعدد الجنسيات وتضم 33 دولة، واتخذت من قاعدة بحرية بمدينة المنامة البحرينية مقرًا لها، وجرى اختيار هذه البقعة تحديدًا، لسهولة التوجه إلى منطقة القرن الإفريقي وشبه الجزيرة العربية لدعم العمليات في المحيط الهندي.
وتضم القوة نخبة من أقوى دول العالم، وتشارك فيها أمريكا وتركيا وفرنسا وباكستان واليابان وألمانيا والمملكة المتحدة وإيطاليا والهند وماليزيا وهولندا ونيوزيلندا والبرتغال وسنغافورة وإسبانيا وتايلاند، على أن يتم تدوير القيادة بين مختلف القوات البحرية المشاركة بين أربعة وستة أشهر، وتتألف قوة العمل من 14 إلى 15 سفينة تضمن حماية السفن التجارية، وتدير هجمات استباقية على معاقل القراصنة الساحلية وخاصة القريبة من الساحل الصومالي وسواحل المحيط الهندي، ولا تزال الحكومات الدولية تحاول التوصل إلى حل لهذه المشكلة الخطيرة.
أنواع القرصنة.. ماذا يوجد أبعد من البحار!
رغم تفرد القرصنة البحرية بأغلب تاريخ القرصنة، فإن القضية متشعبة بشدة وتوجد لها فروع شتى، اقتصادية وثقافية ورقمية، والأخيرة هي الأكثر شيوعا في العالم الآن وبأشكال مختلفة، فكما كانت الحكومات تتعاون مع القراصنة للسطو على سفن بلدان أخرى وتدمير قوتها الاقتصادية، تتورط الآن بعض الحكومات في أعمال القرصنة.
وتشكل وحدات خاصة لها من أجل اختراق المعلومات والمواقع في البلدان المعادية لها، أو حتى داخل البلدان للتجسس على النشطاء والسياسيين والمعارضين، وغيرها من مظاهر حروب التكنولوجيا، كما تتنافس عصابات “الهاكرز” أو قراصنة الإنترنت في سرقة البرامج والنسخ غير المصرح به للبرامج المحمية بحقوق التأليف والنشر، والغريب أن هذه الأعمال المخالفة للقانون، تكسب مليارات الدولارات سنويًا حول العالم، ما جعلها قادرة على فتح منازل مئات الآلاف من البشر، وتوفر وظائف لا حصر لها.
أما القرصنة الثقافية، فهدفت دائمًا إلى سرقة ممتلكات الشعوب وتراثها التاريخي والفني والمعماري، وخاصة في منطقة الشرق خلال حقبة الاستعمار التي استمرت طويلًا. وإلى جانب هذه القرصنة، هناك نوع آخر يهدف إلى مراقبة العادات الثقافية لشعوب ما ونسخها ونقلها إلى بلاده، وعلى رأسها الموضة وتسريحات الشعر والموسيقى.
عرف العالم كذلك على مدار العقود الماضية، توغل “قرصنة الترفيه” والسطو على حقوق الملكية الفكرية وتسريب أفلام السينما ومقاطع الموسيقى والدراما، ولهذا طورت الجهات المعنية في العالم من أدواتها للسيطرة على حرب الملكيات الفكرية، وربما ما يضعف مجهوداتها حتى الآن في مواجهة مافيا تتوحش بشدة عام بعد الآخر، منظومة القوانين الدولية والأداء البيروقراطي للأمم المتحدة وضعف سيطرتها على بلدان العالم، لإلزامها بجهود مشتركة لمكافحتها.
أما المنطقة العربية، فلها حكايات خاصة مع القرصنة وتاريخ تطور عبر القرون ودول كافحت للسيطرة على سواحلها، وأخرى ما زالت من أخطر منابع القرصنة في العالم. ومن أجل كل هذه الخبايا، نرصد في “ملف القرصنة” على “نون بوست”، سلسلة من الموضوعات التي يريد القارئ معرفتها عن ماضي القراصنة وحاضرهم والقراءات المتوقعة لمستقبلهم في العالم.