(1)
يتناول هذا المقال شعار “الإسلام دين ودولة” الذي صار ثابتًا من ثوابت الخطاب الحركي الإسلامي، كما حظي – هذا الشعار/ المقولة – بحضور ملحوظ، وفاقع أحيانًا، في الأدبيات المعاصرة لخريجي المؤسسات الإسلامية التقليدية، الأدبيات التي توَجّه، عادة، كمضادة للإسلام السياسي، ونعرض هنا موضوعة “الإسلام دين ودولة” بشكل نقدي نعتمد فيه تعليقات وانتقادات مفكرَين عربيين هما الروائي والمؤرخ “عبد الله العروي” والفيلسوف وعالم اللغة “طه عبد الرحمن”، وكلاهما من المغرب، وقد وقع اختيارنا على هذين المفكرين لسببين؛ أولاً: لأن كل واحد منهما يمثل مدرسة مختلفة عن تلك التي يمثلها الآخر، فبينما يمثل الأول رافدًا علمانيًا “تاريخانيًا”، يمثل الآخر رافدًا إسلاميًا “ائتمانيًا”، وهو ما يضفي التنوع والاختلاف، إن في المداخل أو في الأطر المرجعية، وثانيًا: لما تتميز به مقالاتهم من جدة وطرافة، إن في المقدمات أو النتائج، فضلاً عن عناية ملحوظة بالمسألة موضوع النقاش.
هذا الشعار/ المقولة الذي اشتُهِر حسن البنا (ت. 1949م.)، المؤسس والمرشد الأول لـ”الإخوان المسلمين”، كمُدشِن حيوي له، تحديدًا في “رسالة التعاليم” حيث وضعه كأصل ضمن “الأصول العشرين”، هذا الشعار/ المقولة/ الأصل .. ما محله من الإعراب في التاريخ والاجتماع والتدبير الديني؟!
(2)
بعد تحليله أنماطَ الحُكم التي جرّبها المسلمون، ومن خلال قراءته مقولات ابن خلدون، توصل عبد الله العروي (مفهوم الدولة؛ 2011م.) إلى خلاصة مفادها تساكن ثلاثة عناصر فيما نسميّه بالدولة الإسلامية هي: الدهريّة العربية، والروح الإسلامي، والتنظيم الأسيوي (ص. 124، ص. 130). ثم شرع في غربلة مقولة “الإسلام دين ودولة” فقال: “نشأت هذه العبارة في صفوف سلفية القرن الماضي ردًّا على الدعوى المتأثرة بالغرب والرامية إلى تحرير الدولة القائمة من التزاماتها نحو الدين […] [إذ] رأى فيها الفقهاء دعوة إلى تحرير السلطان من كلّ قيد واعتبروا من واجبهم التذكير بالشروط الشرعيّة التي تحد نسبيًا من السلطة المطلقة، وكان ذلك التذكير في ظروف القرن الماضي من مصلحة الشعوب الإسلاميّة (في الهامش يقول العروي: هناك بالطبع ظاهرة سلبية: لقد استعمل الدين في معارضة إصلاحات ضرورية”. (ص. 164)، ثم يستتلي: “ما يجب أن يلفت نظر القارئ في العبارة المذكورة هو واو الربط الدالّ على التساكن لا على الاندماج والانصهار، مع أن منطق الخلافة الحق يقضي أن الدين لا يتساكن مع الدولة بل يصهرها ليحيلها إلى لا دولة، تعني كلمة إسلام في العبارة المذكورة الحضارة التي تطورت في التاريخ في دار الإسلام ولا تعني أبدًا العقيدة (في الهامش: يتفق في هذه النقطة السلفيون مع المستشرقين، وبدون شكّ تحت تأثيرهم).
لتلك الحضارة مميزات من ضمنها تساكن الدين والدولة دون أن يغيّر في العمق أحدهما الآخر، نلاحظ بالفعل من جهة أن الدولة لم تحوّل الإسلام لتجعل من دين دولة (في الهامش: كما نجد ذلك في الإمبراطوريات القديمة وفي الدولة الفاشية)، لو تحقق هذا لكانت الدولة صنمًا يُعبَد، لكان في ذلك شِرك بالله وهو ما يحرِّمه الشرع تحريمًا قطعيًا، ومن جهة ثانية أن الإسلام لم يحوّل الدولة إلى مؤسسة دينية، لأن الدولة في الظروف العادية تعني دائمًا المُلك الطبيعي..”. (صص. 164، 165. التوكيد من المؤلّف)، يُكمل العروي: “نواجه هنا مفارقة عجيبة، إذ يقول السلفيون: الإسلام دين ودولة يظنُّون أنهم يعبرون عن خصوصية الإسلام، في الواقع إنهم يصفون الإمارة الشرعية ولا يتعرضون في شيء للخلافة، إنهم يتكلمون عمّا يجمع النظام الإسلامي بالأنظمة السياسية الأُخرى، ألا يحق لنا أن نقول إن النصرانية دين ودولة؟ أوَليست دينًا يعيش بجانب دولة في نطاق مؤسسة مستقلّة؟ في هذا السؤال بالطبع مغالَطة، لكنها مغالَطة يرتكبها المستشرقون والسلفيون باستمرار، عندما يقولون: النصرانية دين، فإنهم يعنون المعتقَد وعندما يقولون: الإسلام دين ودولة فإنهم يعنون الحضارة الإسلامية، لو عنَوْا بالنصرانية حضارة محددة لوجب عليهم الاعتراف بأنها دين ودولة، كنيسة وإدارة، باباوية وإمبراطورية، ولو عنَوْا بالإسلام المعتقَد لوجب القول إنه دين فوق الدولة وما سواها” (نفسه).
يعود العروي لسياق ظهور العبارة فيقول: “إن العبارة التي نحن بصددها تبرِّرها ظروف القرن الماضي، ظروف مواجهة الفقهاء الليبرالية الغربية، لكنها لا تعبر عن روح الدعوة الإسلامية، التعبير الصحيح، في تصورنا، هو أن نقول: الدولة السلطانية دين ودولة، أمّا الإسلام فإنه دين الفطرة الذي يهدف إلى إحالة الدولة إلى لا دولة” (ص. 166)، الآن يصل اشتباك العروي مع المقولة إلى ذروته: “كما أن التاريخ الوقائعي لم يعرف دولة – إسلامية – باستثناء فترة الوحي والإلهام، كذلك لم تظهر في التأليف الإسلامي نظرية دولة – إسلامية، نجد فيه نظرية الدولة الطبيعية وبالمقابل فكرة الخلافة: الواقع وقانونه العادي في جانب، الطوبَى وقيمتها الأخلاقية في جانب آخر، أمّا الدولة الشرعية، وهي الدولة الطبيعية التي تتخذ الشريعة قانونًا لها، فإنها ليست دولة – إسلامية بمعنىً دقيق”.(نفسه. التوكيد من المؤلّف)، ولعل هذا الاقتباس الأخير يوضح ما يرمي إليه العروي: “يعتقد ابن خلدون، كغيره من المفكّرين المسلمين، أنّ الخلافة، وهي النظام الحكومي الأسمى، لا يتحقق إلّا بهداية ربّانية (في الهامش: قد نستغرب عزُوب هذه الفكرة الأساسية عن فهم أغلبية السلَفيين – ما عدا علّال الفاسي – إذا لم يكونوا تناسَوْها عن قصد!)، يعني أن الخلافة ليست نموذجًا ضمن نماذج الحكومة العادية، وإنما هي ثورة على كلّ سلطة حكومية، هي انحلال الحكومة المتعالية المستقلة المستغلة في المجتمع – الأمّة، وانحلال الوازع الخارجي في الوازع الوجداني الفردي، لا أحد من مؤلفي الإسلام يظنّ أنّ الدولة الطبيعية يمكن أن تنقلب بالطُّرُق الطبيعية إلى خلافة، لأنّ النظَامين ينتميان إلى عالَمين متناقضين: عالَم الطبع وعالَم الأمر. إنّ المفاهيم التي يستعملها الفقهاء وغيرهم من مؤرّخين وفلاسفة تنطوي على عناصر نظرية أخلاقية، أي نظرية الفرد المسلم ونظرية الأُمّة المسلمة، لكي يمتنع أن تشيَّد عليها نظرية دولة – إسلامية، لإن العبارة كما أوضحنا متناقضة في ذاتها” (ص. 169).
(3)
في كتابه روح الدين (2012م.)، الذي يأتي “بـ”مقاربة روحية” لإشكال الصلة بين الدين والسياسة، مؤسَّسة على نظرية في الوجود الإنساني” (ص.495. التوكيد من المؤلّف)، يقول طه عبد الرحمن إنّه “رغم فضل الوصل [: بين الدين والسياسة] على الفصل، لأن الوصل أصل والفصل فرع، يبقى أن العلمانيين كانوا أكثر جزمًا بفَصْلهم من الديانيين بوَصْلهم، لاتفاقهم على وجه الفصل واختلاف هؤلاء على وجوه الوصل […] وهكذا، فإن الديانيين، وإن قطعوا بالوصل بين الدين والسياسة، فإنهم اختلفوا في وجوهه وطرق تطبيقه؛ وتجلّى ذلك في انقسامهم إلى طوائف أربع: “أهل التسييس”، ويقولون باندراج الدين في السياسة؛ و”أهل التديين”، ويقولون باندراج السياسة في الدين، و”أهل التحكيم” و”أهل التفقيه”، وكلا الطائفتين تقول بتطابق الدين والسياسة، إلا أهل التفقيه استطاعوا أن يقيموا دولة تعمل بموجب هذا التطابق” (ص. 320)، وسوف نعتني هنا بمَن يمارسون نوعًا من “تديين السياسة”، فيما يتعلق بشعار “الإسلام دين ودولة” يقول طه عبد الرحمن: “قد تجلَّى هذا التصور الذي يدمج السياسة في الدين في الشعار الذي رفعه “التديينيون” (أي بعض الحركات الأصولية المعاصرة)، وهو: “الإسلام دين ودولة”، ولو أن هؤلاء أرادوا أن يبنوا هذا الشعار على جامعية الإسلام، فإن هذا البناء يعتريه القلق من جوانب مختلفه” (ص. 335. التوكيد من المؤلّف).
يورد عبد الرحمن أربع “شبهات” على الشعار المذكور، هي: الشبهة العلمانية للشعار الأصولي وفيها: “أن هذا الشعار [..] أقرب إلى ردَّة فعل على الموقف العلماني [..] منه إلى اتخاذ موقف أصيل من حقيقة “جامعية الإسلام”؛ إذ صيغت هذه الحقيقة في قالب يخالف مقتضاها كأن الدين شئ والدولة شئ آخر، والإسلام يجمع بينهما، مكمّلاً أحدهما بالآخر؛ والحال أن هذا الجمع لا يصح إلا إذا قصرنا مفهوم “الدين” على معنى “الاعتقادات الخاصة” ومفهوم “الدولة” على معنى “تدبير المعاملات العامة” كما تفعل العلمانية؛ والحق أن الدين عبارة عن نهج تدبيري للسلوك في الحياة، متكامل العناصر ومتداخل الجوانب” (صص. 335 – 336)
وشبهة تكميل الدولة للدين وخلاصتها: “أن اعتبار الدولة قسيمَ الدين إخراج لها منه، بحيث لا تداخل بينهما، فيكون الدين محتاجا إلى الدولة لا احتياج الغاية إلى الوسيلة، وإنما احتياج العنصر إلى مايحمّله، وفي هذا غلط [..] [فـ:] لو فرضنا أن المراد بـ”الدولة” هنا هو “المؤسَّسة المدبِّرة والحاكمة”، فقد ورد استعمال لفظ “دين” بمعنى “نظام التدبير والحكم” كما في الآية الكريمة: “ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك، إلا أن يشاء الله” [يوسف: 76]، فيكون دين الأمة هو بالذات نظام تدبيرها وحكمها، أي دولتها (في الهامش: القول المأثور: “الناس على دين ملوكهم” قد يحمل على معنى “نظام الحكم” [..] [و:] لو فرضنا أن المراد بصلة الدين بالدولة في الإسلام هو صلة الإسلام بالسياسة، بحيث يكون مدلول “الدولة” مردودًا إلى “السياسة”، بطَل أن تكون السياسة مكمِّلة للشريعة، بل تكون، على العكس، متضمَّنة فيها” (نفسه)، وشبهة اقتباس الآليات التدبيرية العلمانية ومنها: “أن هذه الجماعات ارتضت الدخول في اللعبة السياسة التي تخضع لقواعد مشبوهة أو إجراءات منحازة، كل ذلك سعيًا إلى جلب اعتراف الخصوم بدورها، رسميين كانوا أو مدنيين، وطمعًا في احتلال مواقع في الدولة، تمثيلية كانت أو تنفيذية، [..] وليس هذا فقط، بل قد استولى، على هذه الجماعات، همَُّ تحصيل الأدوات الحديثة بأي وجه كان وكانت شدة همها تزداد بقدر سعي السلطة إلى حرمانها من تحقيق هدفها، حتى إنها أخذت ترى في هذه الأدوات، لا مجرد وسائل صناعية قد تسُدُّ مسدها وسائل أخرى، وإنما مقاصد تدبيرية تُطلب لذاتها، والحال أن هذه المسالك السياسية المقتَبسة إذا صلحت للتدبير المرئي المبني على السيطرة والمنفعة والصراع، فإنها لا تصلح لخدمة المصالح الغيبية المبنية على التقوى والاستامة والنصيحة” (صص. 337 – 338)
والشبهة العلمانية لمفهوم الدولة وفيها: “لئن كان مصطلح “الدولة” يفيد في استعماله الإسلامي الأصلي مجرّد “انتقال السلطة من حال إلى آخر” [..] فإن المراد به في الشعار الأصولي المذكور هو المدلول الاصطلاحي الحديث [..] واستعمال هذا المفهوم الحديث في صيغة شبه تعريفية للإسلام يومئ إلى أنه لا يكفي أن يتضمن هذا الدين جملة من القوانين التدبيرية، بل أيضًا يحتاج أن تتخذ هذه القوانين صورة “الدولة” الحديثة لكي يكتمل نظام تدبيره..”. (ص. 343).