أعلن البرلمان الإيراني في الـ4 من مايو 2020 موافقته على المقترح الحكومي الخاص بحذف أربعة أصفار من العملة الوطنية “الريال” وإعادة تسميتها لتصبح “تومان”، بعد قرابة شهرين من النقاشات، وذلك بعدما وصلت الأوضاع الاقتصادية إلى أصعب مراحلها عقب الانسحاب الأمريكي الأحادي من الاتفاق النووي وفرض العقوبات مجددًا على طهران، ما كان له أبلغ الأثر على العملة الوطنية التي خسرت بعدها مباشرة أكثر من 60% من قيمتها.
ثم جاءت أزمة كورونا هي الأخرى لتزيد الطين بلة، وتضع الاقتصاد الإيراني في ركن ضيق للغاية، بات الخروج منه في حاجة لمعجزة حقيقية، وأمام تلك الوضعية الصعبة، اضطر البرلمان لتبني هذا المقترح رغم ما يحيط به من شكوك وانتقادات قد تجعل ترجمته إلى واقع عملي أمرًا غاية في الصعوبة.
لم تكن هذه المرة الأولى التي لجأت فيها طهران للعزف على وتر “تغيير العملة وتجديدها”، ففي 20 من يناير 2010 خرج الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد، معلنًا نية طهران حذف الأصفار من العملة الوطنية (الريال)، كأحد الحلول المقترحة وقتها لانتشال الاقتصاد الوطني من عثرته التي انعكست بشكل كبير على حياة المواطنين، وعرض استقلالية القرار السيادي للبلاد للخطر.
القرار جاء بعد قرابة عامين من السجال المتواصل قبيل تسلمه مقاليد الأمور في الدولة في يونيو 2009، غير أن المقترح قوبل بانتقادات شديدة وتظاهرات منددة بسياسات نجاد، وشعارات تتهمه بالفشل في وقف نزيف التضخم المستمر، وسط تحذيرات من مغبة مثل هذه الخطوات التي وصفت وقتها بغير المدروسة.
لم تكن فكرة نجاد إعادة تسمية عملة بلاده هي الأولى من نوعها، فقد سبقتها محاولة أخرى عام 1994، حين فكرت السلطة الحاكمة وقتها في تحسين صورة الاقتصاد الإيراني داخليًا وخارجيًا بعد أن بلغت معدلات التضخم وقتها 49%، غير أن المحاولتين لم يكتب لهما النجاح، في ظل الانتقادات التي واجهتهما، كذلك عدم وجود آلية منهجية لتنفيذهما عمليًا.
ومع الإصرار على هذا المقترح من 1994 مرورًا بـ2010 وصولًا إلى 2020 يبقى السؤال: هل تنجح هذه الخطوة في إنقاذ الاقتصاد الإيراني وإخراجه بعيدًا عن غرف الإنعاش المقيم فيها طيلة الفترة الماضية؟ وما الشروط التي يجب مراعاتها لتحقيق مثل هذا التوجه والأهداف المنشودة منه؟
تجارب سابقة
بداية لا بد من الإشارة إلى أن سياسة التخلص من الأصفار في العملة المحلية لم تكن حكرًا على الإيرانيين وحدهم، حيث تشهد العقود القليلة الماضية العديد من التجارب في هذا المضمار، فقبل إيران أقدمت دول عدة على الخطوة ذاتها في مقدمتهم هولندا وتركيا والعراق والسودان والأرجنتين وروسيا وفنزويلا والبرازيل وبوليفيا وأوكرانيا وبولندا وكوريا الجنوبية وغانا وزيمبابوي ويوغوسلافيا.
أوروبا كذلك كان لها نصيب من تلك التجارب، ففي أعقاب الحرب العالمية الأولى وما خلفته من أزمات اقتصادية عنيفة، اضطرت ألمانيا، وهي صاحبة الاقتصاد القوي في القارة العجوز، إلى حذف عدة أصفار من عملتها المحلية “المارك” في محاولة لإنقاذ اقتصادها الذي استنزف بصورة كبيرة خلال الحرب، حيث تدمرت البنية التحتية وقفزت الأسعار بصورة غير مسبوقة.
ولعل التجربة التركية في هذا الشأن الأكثر حضورًا، حيث حذفت أنقرة 6 أصفار من عملتها، الليرة، وذلك عام 2002، حين تولى حزب “العدالة والتنمية” الحكم، وقتها كان سعر الدولار يعادل قرابة مليون ليرة، فيما اقترب التضخم من الـ100%، غير أن الأمور تغيرت بصورة كبيرة وهو ما تترجمه الأرقام الحاليّة.
وتسجل الأرقام الرسمية تجارب 20 دولة تقريبًا حذت نفس الحذو، التخلص من الأصفار من عملتها المحلية، 10 منهم أقدمت على تلك الخطوة مرتين وبعضهم ثلاثة، وتشير التقارير إلى أنه منذ عام 1960 وحتى اليوم تم إجراء 70 حالة حذف أصفار من العملات المحلية بحسب جامعة “نورت كارولينا” الأمريكية.
أما عن الأسباب التي أدت إلى تبني تلك الإستراتيجية، فتعود إلى مساعي وقف التهاوي في قيمة العملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية، ومحاولة استعادة ثقة المواطن في عملة بلاده، كذلك كبح جماح التضخم المستمر وإعادة هيكلة خريطة الموارد الاقتصادية مجددًا بما يحقق التوازن.
وضع اقتصادي صعب
جاء تصويت البرلمان الإيراني على قرار حذف أربعة أصفار من العملة المحلية وتغيير مسماها في ظل تحديات اقتصادية طاحنة تواجهها البلاد، جراء العديد من الأسباب على رأسها العقوبات الأمريكية المفروضة وتصفير صادرات النفط والقفزات المهولة في التضخم والأسعار بجانب ندرة السيولة الدولارية وما تبعها من تهاوي لقيمة العملة المحلية.
حدثان مهمان شهدتهما الساحة الإيرانية كان لهما أبلغ الأثر في تشديد الخناق على الاقتصاد الوطني، الأول إدراج طهران على القائمة السوداء لمجموعة العمل المالي الدولية “فاتف” في 21 من فبراير 2020، كذلك التداعيات الناجمة عن إجراءات مواجهة فيروس كورونا، حيث أغلقت معظم النوافذ الاقتصادية التي كانت تعتمد عليها إيران على رأسها الصين، الشريك الأبرز.
ورغم غياب المؤشرات الخاصة بتقديرات الأضرار الاقتصادية للانسحاب الأمريكي الأحادي، فإن التقديرات تذهب إلى خسائر كبيرة، وهو ما جاء على لسان السفير الإيراني لدى بلجيكا، الذي أشار إلى أن اقتصاد بلاده تضرر بما قيمته 200 مليار دولار منذ قرار الانسحاب.
وتلقي تلك الأجواء برمتها بظلالها القاتمة على مستقبل النمو الاقتصادي الإيراني، حيث توقع مركز الإحصاء الإيراني تسجيل اقتصاد البلاد نموًا سلبيًا بنسبة 7.2-% بالعام الحاليّ، لافتًا في تقريره المنشور على موقعه الإلكتروني أن تلك النسبة هي مع احتساب تراجع إيرادات القطاع النفطي، لكنه من دون هذا القطاع سيكون النمو صفرًا.
وفي ظل صعوبة الأوضاع الاقتصادية، أطلقت طهران مناشدات عدة لدول العالم للضغط على واشنطن من أجل إلغاء العقوبات المفروضة على إيران، فعلى حسابه الرسمي على تويتر قدم وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، نداءً عاجلًا لمساعدة بلاده في مواجهة جائحة كورونا، مذيلًا تغريدته بقائمة لأهم الاحتياجات الطبية التي تحتاجها بلاده لمواجهة الوباء، داعيًا العالم إلى العمل على إلغاء العقوبات الأمريكية.
In letter to UN SG @antonioguterres, I urge the world body—and member states—to disregard inhuman US sanctions on my country. And insist that they be lifted.
As the #COVID19 ravages Iran, we should recognize that viruses don’t discriminate. To fight them, neither should humans. pic.twitter.com/YDqw9fKzHl
— Javad Zarif (@JZarif) March 13, 2020
هل تنجح هذه الخطوة؟
رغم أن تلك المحاولة ليست الأولى من نوعها، سواء على مستوى الداخل الإيراني أم الخارج، فإن قدرتها على تحسين الأوضاع الاقتصادية مسألة تساورها العديد من الشكوك، لكنها كانت الخيار الوحيد أمام النظام الإيراني في إطار جهوده لمواجهة تداعيات الانهيار الاقتصادي كما جاء على لسان الباحث المتخصص في الشان الإيراني، أسامة الهتيمي.
الهتيمي في تصريحات لـ”نون بوست” أشار إلى أن طهران أجبرت على هذه الخطوة بعد مناقشات مجتمعية دامت لأكثر من عامين ونصف، متهمًا السلطات بغض الطرف عن المخاوف التي أبداها المعارضون لهذا القرار بشأن تسبب خطوة كهذه في تعقيد الوضع بصورة أعمق، حيث زيادة معدلات التضخم فضلًا عن إرهاق ميزانية الدولة بآلاف المليارات من العملة الجديدة في ضوء عملية التبديل المقترحة.
وتوقع الباحث المتخصص في الشأن الإيراني أن النظام الحاكم في طهران لن يقبل بهذه الخطوة دون أن يكون لها انعكاسات إيجابية على واقعه الاقتصادي مهما كان الثمن، رغم ما يتوقع أن يكون لها من تأثير نفسي على الشعب الإيراني، لافتًا إلى أن نجاح هذا التحرك سيعتمد في النهاية على عاملين: أحدهما زمني والآخر يتعلق بالنتائج الإيجابية المتوقعة مع بداية تطبيق العملة الجديدة، التي يرى إمكانية أن تحقق الاستقرار النسبي لكن بشروط أبرزها فرض السيطرة على السوق السوداء للعملات وإغلاق الباب أمام التلاعب الذي شهدته الأسواق الأعوام الماضية.
وفي الجهة الأخرى أعرب الخبير الاقتصادي المصري مصطفى عبد السلام، عن شكوكه من إمكانية أن تؤدي هذه الخطوة لوقف النزيف الاقتصادي وتهاوي العملة وجذب الاستثمارات واستعادة ثقة المواطن، مرجعًا ذلك – في مقال له – إلى عدة أسباب أبرزها ندرة السيولة الدولارية وتراجع ثقة المواطن في عملته وزيادة معدلات التضخم، هذا بجانب تجفيف صادرات النفط الذي يعد أبرز مصادر العملات الأجنبية، وهي كلها أسباب ربما لا تسعف التومان الجديد على حد قوله.
بالمجمل، فإنه من السابق لأوانه تقييم هذه الخطوة وقدرتها على تحقيق الأهداف التي اتخذت لأجلها، وتبقى الأشهر القادمة – حال دخول هذا المقترح حيز التنفيذ – المحك الرئيسي لاختبار قوة تأثير تلك الإستراتيجية في إخراج الاقتصاد الإيراني من شرنقته وإلا المزيد من التهاوي والانهيار.