يُعد الأتراك من الشعوب المتدينة بطبيعتها، حيث تنتشر الفرق الدينية وعلى رأسها الصوفية بصورة كبيرة، ويميل غالبية الشعب إلى التصوف، إن لم يكن تنظيميًا عن طريق الانتماء إلى أي من الطرق، فتعاطفًا معها، حتى باتت الصوفية سمتًا عامًا يميز المجتمع التركي مقارنة بغيره من المجتمعات الإسلامية.
وفي الوقت الذي انحسر فيه التيار الصوفي في كثير من بلدان العالم العربي والإسلامي خلال القرن الماضي، – سواء كان ذلك بفعل فاعل أم استجابة للتطورات الإقليمية والدولية، الثقافية والدينية – في مقابل الصعود الكبير للتيار السلفي وحركات الإسلام السياسي كانت الصوفية تتمادى رأسيًا وأفقيًا في الشارع التركي.
ورغم التضييق والحظر، القانوني والسياسي، الذي عانت منه الصوفية في تركيا عقب سقوط الخلافة العثمانية عشرينيات القرن الماضي، فإنها نجحت في الصمود والمقاومة، حتى باتت خلال العقود الست الأخيرة أحد الفاعلين الكبار في المجتمع التركي، اجتماعيًا ودينيًا وسياسيًا، وأصبحت المكون الأبرز للشخصية التركية الحديثة.
وعلى مدار السنوات الماضية حققت بعض الطرق الصوفية التركية لا سيما النقشبندية حضورًا قويًا، تجاوز الحدود التركية إلى آفاق أوروبا، فكانت مقصدًا للمتصوفة من كل أنحاء العالم، كما ساهمت بشكل كبير في تقديم صورة متحضرة عن التصوف الأصيل بعيدًا عن التشويه الذي لحق ببعض فرقه وحصر صورته في طقوس الرقص والدروشة الظاهرية بعيدًا عن الصفاء الروحي والنضج العقلي والزهد الدنيوي.
تاريخ من المد والجذر
مرت الصوفية في علاقاتها بالدولة التركية بموجات متباينة من المد والجذر، بدءًا من الاحتضان والدعم مرورًا بالتضييق وفرض المزيد من القيود، وصولًا إلى مرحلة التناغم والانسجام حتى باتت ظاهرة مجتمعية تتميز بحضور مميز، ولها حضور جماهيري كبير يتجاوز عشرات الملايين من المريدين.
البداية كانت مطلع القرن الماضي، حين حظي مصطفى كمال أتاتورك بدعم الصوفيين خلال حرب الاستقلال في السنوات الأولى لتأسيس الدولة الجمهورية، حيث كانت الطرق الصوفية في مقدمة الصفوف خلال تلك الحرب، وقد مرت العلاقة مع هذا التيار الديني في هذه الفترة بمرحلتين مختلفتين.
الأولى كانت تتسم بالود والاحترام المتبادل بين الصوفية والدولة، وهو ما تجسد بصورة كبيرة خلال دستور 1924 الذي فتح المجال أمام الجماعات الصوفية لممارسة طقوسها دون قيود أو مضايقات، أما المرحلة الثانية التي عرفت باسم “إصلاحات أتاتورك” فشهدت هجومًا كبيرًا وتنكيلًا بالطرق الصوفية ومريديها.
في تلك المرحلة تم تشريع العديد من القوانين التي شلت أركان الصوفية منها قوانين حظر الملابس التقليدية للمتصوفة وتجريم أغطية الرأس للنساء، مع استبدال العربية باللاتينية، وتعمقت المأساة مع سن تشريع جديد يقضي بحظر نشاط الطرق الصوفية وحلها بصورة قانونية، أعقب ذلك إغلاق لمقرات تلك الطرق ومنع أنصارها من أي نشاط.
ورغم هذا التضييق، فإن الصوفيين مارسوا نشاطهم لكن بصورة مقننة حتى بداية الخمسينيات، وهنا بدأ الحصار يتراجع لتتخلى تلك الطرق عن سريتها، وتعلن بشكل واضح علانية تحركاتها، ساعدها على ذلك النظرة الإيجابية التي كانوا يتمتعون بها من السلطات الحاكمة آنذاك، حتى وصلت إلى مرحلتها الحاليّة.
النقشبندية التركية
لم تكن الصوفية في تركيا مذهبًا دينيًا بالمعنى التقليدي، بل هي طريق لتزكية النفس وتطهير القلب والتمسك بالأخلاق، لذا ليس هناك تناقض مع انتشار السلفية في المجتمع كذلك، رغم التناقض الإيديولوجي بين التيارين، وهذا ما أكده الباحث عماد قدورة، خلال الدراسة التي أعدها ونشرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
قدورة في دراسته أرجع معرفة تركيا بالتصوف إلى الشيخ محمد بهاء الدين نقشبند (1318 – 1389)، الذي تُنسب إليه الطريقة النقشبندية التي تعد أصل الطرق الصوفية في تركيا، بجانب أنها واحدة من أكبر الطرق الصوفية في العالم، وترجع إلى المذهب الحنفي الذي يتبنى منهج أهل الرأي والعقل في فهم القرآن والسُنة وتأويل نصوصِهما.
المتصوفة الأتراك يستندون في طريقتهم النقشبندية إلى علم الكلام والبرهان الذي تمثله “الماتريدية”، وهي الطريقة التي تُنسب إلى أبي منصور محمد الماتريدي الذي نشأ في القرن الرابع الهجري في سمرقند (ت. 332هـ)، وتعتمد في تأسسيها ونشأتها على المذهب الحنفي فقهًا وكلامًا.
تتميز النقشبندية بالعديد من الميزات الإيديولوجية التي تميزها عن غيرها من الطرق الأخرى لا سيما من حيث عودة سلسلة الانتقال الروحي فيها إلى النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، من خلال أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وليس علي بن أبي طالب رضي الله عنه، الذي يعد الإمام الأول بالنسبة إلى الشيعة، وعليه تتميز باعترافها بجميع الخلفاء الراشدين ما يبعدها عن شبهة الارتماء في أحضان الشيعية والعلوية كما وقعت الكثير من الفرق الأخرى.
وتنبثق العديد من الجماعات المنبثة عن النقشبندية، أبرزها “جماعة إسكندر باشا” التي تنسب إلى شيخها “محمد زاهد كوتكو” المتوفى عام 1980، وتعتبر الأكثر تأثيرًا في المشهد التركي، السياسي والاجتماعي على حد سواء، وتتميز بتشجيع مريديها على العمل في مراكز التأثير في الدولة، وتأسيس كيان سياسي خاص بها، وهو ما يتجسد في “حزب النظام الوطني” الذي أسسه أحد مريدي تلك الطريقة، نجم الدين أربكان، في 1970.
الشيخ محمد زاهد كوتكو
كذلك هناك “جماعة أرانكوي” التي انحسر نشاطها على الوعظ الديني بوجه عام، دون الانخراط في العمل العام، علاوة على “جماعة المنزل” التي سميت بهذا الاسم نسبة إلى قرية المنزل التي كان يعيش فيها شيخ الجماعة النقشبندي “محمد راشد أرول”، وللجماعة أفرع كثيرة وأنشطة عدة في أنقرة وإسطنبول، وحققت انتشارًا كبيرًا بعد الانقلاب العسكري عام 1980.
إضافة إلى ذلك هناك جماعة “السليمانيون” التي تنسب إلى شيخهم النقشبندي “سليمان طوناخان”، وقد حققت انتشارًا كبيرًا في المجتمع التركي بتوفيرها التعليم القرآني والحفاظ على المساجد مفتوحة، وباتت اليوم واحدةً من أكثر الحركات الصوفية تنظيمًا على مستوى تركيا وأوروبا، تحديدًا ألمانيا.
وأخيرًا هناك الطريقة القادرية، التي أسسها الشيخ عبد القادر الجيلاني، وينبثق عنها العديد من الجماعات المتفرعة داخل تركيا وخارجها، ففي الداخل هناك الجماعة التي كان يرأسها مصطفى خيري أوغوت أفندي وآلت إلى مريده حيدر باشا بعد وفاته سنة 1979، التي كانت تمتلك مجلتين شهريتين وقناة تليفزيونية باسم “مالتَم” بجانب حزب سياسي لها.
النورسي ورسائل النور
لا يمكن الحديث عن الصوفية التركية دون إطلالة سريعة على بديع الزمان سعيد النورسي، أحد أبرز دعاة الإصلاح الديني والاجتماعي في العالم الإسلامي خلال العصر الحديث، كرس حياته دفاعًا عن الإسلام في مواجهة العلمانية والماسونية، وهي الرسالة التي دفع ثمنها غاليًا جدًا، سجن وتضييق وخطوات قليلة تفصله عن الإعدام.
تميز النورسي المولود في بلدة نورس – التي اشتق منها اسمه وتقع شرق الأناضول – عام 1877 لأسرة كردية متدينة، برؤية إصلاحية مجتمعية خالدة، وذلك رغم نبوغه اللافت في العلوم الحديثة كالرياضيات والفيزياء التي درسها وأبدع فيها في مقتبل حياته، وتبقى مجموعة كتبه المسماه بـ”رسائل النور” خير تجسيد لمشروعه الإصلاحي الذي حفر اسمه في سجلات التاريخ.
من بوابة الإصلاح الديني والاجتماعي دخل النورسي عالم السياسة الواسع، حيث كان مهمومًا بما تعانيه الأمة من تفكك بسبب رسوخ مظاهر العلمانية التي شوهت تماسك المجتمع حينذاك، كما انتقد مظاهر الاستبداد في الحكم، الأمر الذي دفعه في نهاية المطاف إلى تأسيس “الاتحادي المحمدي” عام 1909، وذلك ردًا على دعاة القومية التركية في ذلك الوقت.
كان يرى العالم الصوفي أن سبب تخلف المسلمين وتراجع الخلافة العثمانية عن الغرب هو التخلي عن العلوم الحديثة، مطالبًا بضرورة اللحاق بركب التقدم العالمي في هذه المجالات التي لا تنفصم عراها عن العلم الشرعي، ومنذ عام 1911 ودفاعًا عن الخلافة انخرط كغيره من علماء عصره في تنظيمات سرية أمر الخليفة العثماني بإنشائها من أجل مواجهة الأطماع الغربية.
قاتل النورسي ضد الجيش الروسي في القوقاز، وأبلى بلاءً حسنًا، إلا أنه أُسر عام 1916، وصدر ضده حكم بالإعدام لرفضه تحية خال القيصر لدى تفقده الأسرى، إلا أنه تمكن من الهرب في أثناء اضطرابات صاحبت الثورة الشيوعية 1917، ليواجه رحلة طويلة بدءًا من بولندا مرورًا بألمانيا والنمسا حتى وصل إلى إسطنبول ليعين عضوًا في دار الحكمة بجانب كبار العلماء والأدباء في هذا الوقت.
وبعد سقوط الخلافة، ضاق صدر أتاتورك بانتقادات النورسي لتوجهات الحكومة المخالفة لتعاليم الدين، ورغم الإغراءات التي قدمت له لإثنائه عن هجومه، لم يعرها أي اهتمام، ومع اندلاع ثورة الشيخ سعيد بيران 1925 تم اعتقاله لرفضه دعمها، وحكم عليه بالسجن لينقل بعدها إلى بلدة بارلا.
وبعد 25 عامًا قضاها النورسي بين السجن والمنفى خرج عام 1950 لكن صحته كانت قد تدهورت بشكل كبير، وتوجه إلى محطته الأخيرة في مدينة أورفة ليفارق الحياة في 23 من مارس 1960، لكن السلطات العسكرية التي تقلدت الأمور عقب انقلاب مايو 1960 نقلت رفاته إلى جهة مجهولة.
ترك العالم الصوفي الشهير مكتبة ثرية من المؤلفات والرسائل منها: “الخطوات الست” و”رسالة عن معجزات الرسول”، هذا بخلاف “رسائل النور” التي بلغت 130 رسالة تضمنت تأملاته في معاني القرآن الكريم وحقائق الإيمان وبراهينه، وهي التي ألفها داخل السجن، لتصبح فيما بعد القاعدة الأبرز التي تأسست عليها العديد من الحركات الفكرية والمجتمعية داخل تركيا وخارجها.
حضور مجتمعي قوي
ينتشر التصوف في المجتمع التركي بصورة كبيرة عزاه أستاذ التصوف في كلية الإلهيات في جامعة مرمرة بإسطنبول، سليمان ديرين، إلى أن الإسلام وصل للأتراك على أيدي الصوفيين، كما يرى من وجهة نظره أن المبادئ الأساسية للتصوف التي تقوم على حب الذات الإلهية والزهد تتناغم بشكل كبير مع الأخلاق العامة للمجتمع التركي.
ويرى ديرين أن الصوفية في تركيا تختلف عن نظيرتها في مختلف الدول العربية والإسلامية، حيث تتميز بحضورها القوي في مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ورغم الحظر الذي فرض عليهم فترات طويلة، فإن السياسيين على اختلاف توجهاتهم يلجأون لأنصار تلك الطرق في الأوقات الحرجة، كما أشار في تصريحاته لـ”الجزيرة”.
كما تظهر أنشطة الصوفية في المجتمع التركي بصورة أكبر في الخدمات، حيث يدشنون العديد من المشروعات التي تخدم رجل الشارع العادي بمختلف توجهاته، فيبنون المساجد والمستشفيات ويقدمون المساعدات المالية والعينية للفقراء والطلاب والمحتاجين، كذلك يقيمون الولائم في رمضان.
لقاء يجمع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالشيخ محمود أفندي
ويكشف الأكاديمي التركي أن مساهمات الصوفية الخيرية والمجتمعية لا تتوقف على الداخل وفقط، حيث يقدمون المساعدت إلى بعض الشعوب الإسلامية في الخارج، كما هو الحال مع الشعب الفلسطيني ومسلمي بعض الدول الإفريقية، كذلك إغاثة المتضريين من الكوارث البيئية كما حدث مع متضرري زلزال إندونيسيا وضحايا العدوان الإسرائيلي على لبنان قبل أعوام.
وتشير بعض الإحصاءات إلى أن عدد أتباع النقشبندية في إسطنبول وحدها يتجاوز المليون مريد، كما ذهب الصحفي إبراهيم بوعزبي المقيم في تركيا الذي لفت إلى أن قوة شيوخ الطرق الصوفية تتضح بشكل كبير خلال أي ماراثون انتخابي، حيث يقصدهم السياسيون من كل حدب وصوب طمعًا في أصواتهم والحصول على دعمهم.
الصوفية والسياسة
في مقال لعضو اللجنة التنفيذية لحزب السعادة التركي، محمد باتوك، يستعرض تأثير الصوفية في السياسة التركية حتى بين غير المنتسبين لها، ومنهم على سبيل المثال رئيس الجمهورية الأسبق تورغت أوزال، كاشفًا عن تعاطفه الكبير مع النقشبندية وأن كل من أخيه وأمه كانا مريدا لدى الشيخ النقشبندي محمد زاهد كوتكو.
باتوك أوضح أنه من الصعب الجزم بكون أوزال مريدًا لدى كوتكو أم لا، إلا أنه من المعلوم – على حد قوله – أنه كان على اتصال مع الطريقة وأنصارها، كما كان يميل إليها بشكل واضح، وهو ما دفعه لفتح المجال أمام الطرق الصوفية لممارسة أنشطتها تحت مظلة الدفاع عن حقوق الإنسان والحريات الشخصية.
السياسي التركي استعرض بعض المحطات المهمة في مسيرة التيار الديني داخل تركيا، بدءًا من الحصار وإغلاق الأحزاب التي ورثت حزب النظام الوطني الصوفي، مرورًا بإجبار أربكان على الاستقالة من رئاسة الحكومة عام 1997، وصولاً إلى مرحلة الانفتاح والتناغم التي رافقت وصول حزب الحرية والعدالة وصعوده على الساحة السياسية في انتخابات 2002.
ومع تأسيس الحزب على يد الرئيس التركي الحاليّ رجب طيب أردوغان، دخلت العلاقة مع الصوفية مرحلة جديدة، حيث انتهج أردوغان سياسة مختلفة لحزب أربكان ومسمياته اللاحقة، فهو كان عضوًا بين صفوفه، هذا بجانب إيمانه بقيمة التيار الصوفي في إثراء الجانب القيمي والأخلاقي للمجتمع التركي.
ويذهب باتوك إلى أن أردوغان لم يسع للانتفاع من العاطفة الدينية لدى الأتراك خلال الانتخابات كما كان يفعل أربكان، ولم يوظف عضويته في الحزب ولا تعاطفه مع الصوفية لتحقيق أي مكاسب سياسية، إذ حرص على عدم إقحام الدين في السياسة، وهو ما أهل أردوغان لمخاطبة المسلمين وغير المسلمين في آن واحد.
وفي المجمل تبقى الصبغة الصوفية السمت الأبرز للشعب التركي، وقد تحولت بعض الولايات ذات المكانة الدينية الكبيرة إلى قبلة لعشرات آلاف السائحين من مختلف دول العالم، على رأسها “قونيا” التي عاش فيها قطب التصوف الأبرز جلال الدين الرومي “مولانا” وبها التكية المولوية الشهيرة وضريحه كذلك.
وقد شهدت أثار تلك المدينة، المتحف والضريح وأضرحة دراويش المولوية المدفونين هناك، زيارة ما يقرب من 150 ألف زائر وسائح من تركيا وخارجها خلال طقوس إحياء الذكرى الـ746 لوفاة الرومي وذلك في الفترة من 7-17 من ديسمبر الماضي بحسب الأرقام الصادرة عن مديرية الثقافة والسياحة في قونيا.