يعيش العالم اليوم حالة من الرعب والذعر بسبب تفشي وباء كورونا الذي أزهق أرواح مئات الآلاف وتفشت العدوى بين الملايين، وما فتئ الوباء يتسرب من الصين إلى دول العالم حتى استشرى في أكثر من 200 دولة.
يستعيد هذا التقرير ذاكرة الوباء في المغرب، عبر التركيز على مرض استشرى في البلاد خلال القرن التاسع عشر، وفعل فعله في أرواح الناس، مزهقًا الكثير منها، حتى عجز إنسان تلك الفترة التاريخية عن إحصائها. حديثنا عن وباء “بوكليب1” واستعادته من الذاكرة في الوقت الراهن، فما ظروف ظهور المرض في المغرب؟ وما أعراض وباء الكوليرا؟ وكيف تعامل الناس معه؟ وكيف تستعاد ذاكرة المرض في الحاضر؟
لمحة تاريخية
عانى المغاربة في حقبة ما قبل الاستعمار من توالي سلسلة من الكوارث والأزمات، عصفت بالبشر وتركت الحجر، في طليعتها الأوبئة والطواعين التي كانت قلما تغادر البلاد والعباد، وأمام عجز السلطة والرعية عن استيعاب ما يحصل من موت مفاجئ وإيجاد الترياق الناجع للداء، كان الأهالي يُتركون فريسة للمرض ينهش في أعمارهم ويودي بحيواتهم.
طُبعت سنوات المرض العديدة في الذاكرة الجماعية للمغاربة، ومعلوم أن من مميزات الذاكرة الانتقائية والاختزال في استحضار وتذكر أحداث بعينها دون أخرى، فاستعادت الذاكرة أوبئة محددة دون الأخرى، لما تركته في نفسية الإنسان وقتذاك، من موت وخوف وما صاحبه من مآسٍ أبت أن تنسى.
تستدعي الذاكرة الجماعية في المغرب اليوم، وباء الكوليرا أو “بوكليب” الذي زار البلاد عام 1834، وعاث في البلاد فسادًا وطبع في الذاكرة التي تعيد إنتاجه في الحاضر على لسان الشيوخ والأجداد، وأضحى من يريد أن يشتم أحدًا أو يريد به سوءًا يقول له “سير الله يعطيك بوكليب”.
في مغرب الزمن الراهن يتطير الناس من ذكر المرض ويشعرون بالخوف والجزع من انتشار الأمراض، سواء سعال أم زكام وكل الأمراض المرتبطة بالمناخ البارد
ذاكرة الأمراض.. “بوكليب” يعيث فسادًا
يقترن الوباء بشكل كبير بالمجاعة، فهذه الأخيرة تكون من بين الأسباب المؤدية إلى تفشي الوباء، إذ يؤدي النظام الغذائي الطارئ في زمن المسغبة إلى ظهور المرض، فلم يكن الجهاز الهضمي ومناعة الإنسان يقدران على استيعاب نمط غذائي قوامه أعشاب سامة وزواحف، ما يترتب عليه مجموعة من المضاعفات كالقيء الحاد والغثيان والإسهال ومن ثم بدايات أعراض المرض.
من بين العوامل أيضًا التي ساعدت على تفشي الوباء، بعض الكائنات الصغيرة (الجرذان والبراغيث) التي نقلت أوبئة أزهقت العديد من الأرواح في العالم، خاصة الطاعون الجارف (الأسود)، وأصبح البعض يربط ظهور مرض جديد بموت الجرذان، فهو إشارة آنذاك على ظهور الوباء.
لم يخل تاريخ المغرب من طواعين وأوبئة، أزهقت العديد من النفوس، وما إن يخبو مرض حتى يظهر آخر، فلا تخلو كتب الإخباريين من ذكر لتوالي سنوات المرض والوباء، فصاحب نشر المثاني يورد ما يلي: “ووقع مرض في الناس وموت كثير وغيره من عدم الأقوات، حتى لقد رأيت بالمارستان بفاس – أمنها الله – الذي كانوا يجمعون فيه الأموات يجهزونهم فتراكم بعضهم على بعض حتى صعدوا من الأرض نحو القامتين كله معمور بالأموات”، وقع المرض المذكور في القرن السابع عشر، أدى إلى موت خلق كثير، في اكتفاء بذكر حدوث المرض وقصور في وصف أسباب وأعراض المرض.
كما يتكرر ذكر المرض عند إخباريين آخرين من أمثال محمد الضعيف الرباطي الذي حفل مؤلفه بالعديد من الأوبئة في المغرب في عهد العلويين، إذ يقول: “وكثر الوباء بفاس البالي وفي تلك النواحي حتى مات من الخلق ما لا يحصي عددهم إلا الله تعالى”، يعاصر هذا الوباء فترة حكم المولى سليمان (حكم ما بين 1792-1822) الذي نهج سياسة ما يعرف “بالاحتراز” أو الانغلاق، وما عرفه المغرب في ولايته من اضطرابات وشد وجذب بين السلطة والقبائل.
تلك إذًا بعض من الأوبئة التي ضربت البلاد بشكل قطري، أي تصيب مدنًا وتستثني أخرى، إلى أن أتت أوبئة شملت كامل البلاد وفتكت بالعباد واستقرت في الذاكرة وأرست معها الرهبة والتوجس من حلول المرض.
بوكليب 1834
ففي مغرب الزمن الراهن يتطير الناس من ذكر المرض ويشعرون بالخوف والجزع من انتشار الأمراض، سواء من سعال أم زكام وكل الأمراض المرتبطة بالمناخ البارد، أو ظهور مرض غريب آت من خارج البلاد، وهم في ذلك يسترجعون ذاكرة أوبئة فتاكة ذهبت بخلق كثير وقضت مضاجع الرعية والسلطة، لعل أبرزها وباء الكوليرا أو “بوكليب” كما تخلده الذاكرة الجماعية.
ففي سنة 1834، ظهر وافد جديد، إنه وباء الكوليرا، الذي اجتاح كل أصقاع العالم وقتذاك، وكان يتنقل بشكل سريع عاصفًا بأرواح البشر، إذ كانت من بين الأسباب المساعدة على انتشاره، السفن التجارية وما يرافقها من براغيث وقوارض حاملة للوباء.
تباينت المصادر الإخبارية المغربية بين ما أعطت وصفًا دقيقًا لحالات المرضى وما ذكرته بشكل عرضي ضمن أحداث السنة، فمثلًا جاء في كتاب إتحاف المطالع، ذكر للوباء بشكل عرضي دون إعطاء تسميته بالكوليرا، اللهم إلا إشارته لأعراض المرض “وفي يوم الثلاثاء مهل رجب ظهر بجميع أنحاء المغرب المرض المسمى بالوباء، أعاذنا الله منه، وكان على أنواع منهم من يصيبهم في رجله ثم يصير إلى قلبه، ومنهم من يصيبه في رأسه ثم يصير إلى قلبه فيموت”.
انتشر الوباء في كل البلاد وراح يزهق الأرواح، وكانت أعراض الوباء في أنه يصيبهم في أقدامهم، فلا يستطيعون المشي من شدة المرض، حيث أطلقت أسماء تصف هذه الحالة “كبُوركاب” وهي تسمية تعيدها الذاكرة الآن، ومعناه المرض الذي يصيب الركبتين فيجعل الإنسان عاجزًا عن المشي.
تحفل المصادر التاريخية بحوادث الكوارث الطبيعية من زلازل ومجاعات وأوبئة، فلا تخلو كل سنة من فاجعة
فيما يورد محمد الأمين البزاز نقلًا عن صاحب الابتسام عن دولة ابن هشام، الذي قدم وصفًا دقيقًا للوباء، يقول فيه: “وهو ريح ما سمعوا به، قاتل من حينه، ويسمونه عندنا في المغرب بأسماء الكوليرا والريح الأصفر وبوقليب.. إذا أصاب الرجل تغير لونه وأسود جفن عينه ويجعل يقيء من أعلاه ويسهل من أسفله، ومن الناس من يشتكي مع ما ذكر وجع رجليه ويموت في الحين”.
يبدو أن الكوليرا كان وباءً فتاكًا يقتل في حينه ولا يترك للمريض فرصة للعلاج والتداوي، كما اختلفت تسمياته بين الريح الأصفر وبوقليب، ويبدو أن اسم “بوقليب” أو “بوكليب” يعني في الدارجة المغربية الشخص الذي يتقلب، فمثلًا يقال تقلب فلان في فراشه، أي لم يغمض له جفن، ولكن المصاب ببوكليب كان يتقلب ويتلوى من شدة المرض، ليفارق الحياة بعد فترة قصيرة.
والغريب في الأمر أن الدولة والمجتمع وقفا عاجزين عن استيعاب ما يحصل من موت، فربطوه بالغضب الإلهي عقابًا على البعد عن الطريق المستقيم، إضافة إلى طغيان نوع من التفكير الخرافي والغيبي وانتشار التنجيم والسحر، لتأويل ما يقع من موت للأفراد في غياب تحليل علمي لما يحصل آنذاك، في مقابل ذلك كانت هناك بعض المحاولات الوقائية، كالحجر الصحي أو الكارنتينة.
إذًا والحالة هذه، كيف تبعث ذاكرة المرض في الزمن الحاضر؟ وما التسميات التي رسخت في الذاكرة الجماعية؟
الذاكرة الجماعية واستحضار المرض
تحفل المصادر التاريخية بحوادث الكوارث الطبيعية من زلازل ومجاعات وأوبئة، فلا تخلو كل سنة من فاجعة (كوراث طبيعية، مجاعات، أوبئة) تقض مضجع العامة، فكانت تفعل فعلها في الناس، مقابل عجز واستسلام كلي منهم، وتترك آثارًا جانبية على مستوى البنية الاقتصادية والمجتمع، إذًا والحالة هذه، يبدو أن الأوبئة من خلال تكرارها، رسخت مجموعة من الممارسات والأعمال التي تدخل في باب العلاج البديل أمام غياب الطب، فكان الناس في زمن المرض يستخدمون طرقًا تقليدية في علاج المرضى، كاعتماد الكي بالنار وعزل المرضى عن الأصحاء، فيما يسمى بالحجر الصحي أو الكارنتينة، فيما تذهب فئات أخرى إلى استحضار طقوس مرتبطة بالشعوذة والسحر، ومن كان يتجه إلى الفقيه من أجل “التسبيب والتجدويل”.
هذه الممارسات الوقائية ما زالت تحفظها الذاكرة الجماعية في الوقت الحاضر، فغالبًا ما تتردد النساء على فقهاء المساجد من أجل أن يكتب لهن آيات قرآنية للشفاء، وما زال العمل بكي الجروح حتى تتعقم وغيرها من الأساليب العلاجية حاضرًا إلى اليوم.
رسخت سنوات الأوبئة في الذاكرة الجماعية، مجموعة من الأسماء والأوصاف عن المرض، التي تعكس معاينة الناس له فأسقطوا عليه تسميات نابعة من واقعهم ومعاينتهم للوباء، ما زالت إلى اليوم تظهر عند مرض أي شخص، وهي أسماء غريبة تبرز عدم فهمهم لطبيعة المرض وتطيرهم منه.
فمن خلال الرواية الشفهية المستندة على الذاكرة، يذكر أناس تسميات للأمراض من قبيل ”بوكبار” وغالبًا ما يطلقه العامة على المرض الذي يصيب الجهاز التناسلي للرجل، ومرض ”بوزرواطة” التي تعني العصا، حيث ارتبط بالطاعون الدملي.
ترك المرض العديد من السلوكيات والممارسات لدى العامة، فالأمراض الفتاكة تركت لديهم الإحساس الرهبة والوهن، حيث ترسخ لديهم سلوك الخوف من الطبيب والتداوي، فلا يرغبون في زيارته لارتباطه بالمرض “مما يميز بعضا من ثقافة المرض لدى المغاربة، الخوف من الطبيب إلى درجة أصبح معها بعبعها يرهبون به أطفالهم لثنيهم عما يعتبر وقاحة أو خفة أو تنطعًا، والملاحظ أن الخوف من الطبيب ظاهرة عامة”.
الإنسان المغربي صارت لديه مناعة نفسية من الأمراض، فلم يعد يتطير أو يجزع من وجود المرض وانتشاره في الأرجاء
يبدو أن ذاكرة المرض أفرزت سلوكيات الخوف والرهبة من التطبيب والتداوي، والإيمان بالغيبيات والشعوذة والسعي إلى البحث عن طرق بديلة للطب من أجل الاستشفاء وإبعاد الداء، وغالبًا ما يشاهد المرء في الحاضر نسوة يترددن على الفقهاء والدجالين ومن يسمونهم من ذوي “البركة” في سبيل تخليصهن من عللهن أو علل أبنائهن.
خلاصة القول، أرست ذاكرة المرض في المغرب، مجموعة من السلوكيات والأفعال مفرزة لعقلية ترهب المرض والداء، وتتطير من الجهر به أمام عامة الناس، كما رسخت سنوات الوباء أعمالًا تخرج عن السياق العلمي للتداوي والوقاية، فلا يزال بعض من الناس يترددون على الأولياء والأضرحة والمقابر، طلبًا للشفاء وإبعاد الأذى، وقناعتهم أن الطبيب لا يمكن أن يخلصهم من المرض.
تصبح الذاكرة باستحضارها لأحداث المرض والموت، في الوقت الراهن، بمثابة الموجه وتتدخل في نقل أفعال الماضي إلى الحاضر في شكل مادي ومعاش، وهذا يدل على أن للذاكرة سلطة تتدخل بها في تكوين ذهنية الإنسان، هذا من ناحية، أما من ناحية ثانية، فإن الإنسان المغربي صارت لديه مناعة نفسية من الأمراض، فبات لايبالي من انتشاره في الأرجاء رغم مخاطره، بل أمسى المرض موضعًا للتهكم والتندر والعبثية لديه، على غرار وباء كورونا الحاليّ، حيث تحفل صفحات التواصل الاجتماعي بالعديد من التعليقات الساخرة، من قبيل أن هناك أمراضًا أخرى أخطر وأشد وطأة من كورونا، وجب القلق منها ومحاربتها، بالترياق الناجع والفعال، حتى يذهب السقم ويتعافى الجسد.