استكمالًا لما تطرقنا إليه سابقًا ضمن مواد هذا الملف المعنون بـ”التدين الناعم” بشأن الانتشار الصوفي الكبير في أوروبا، وبواعث القارة العجوز في تبني هذا الفكر تحديدًا وتقديم كل أوجه الدعم له مقارنة بغيره من التيارات الدينية الأخرى، نلقي الضوء في هذا التقرير عن الدور المؤثر للفرق الصوفية في بريطانيا، كونها أحد أبرز الحاضنات لهذه الفرق.
ولا تختلف بريطانيا كثيرًا عن بقية الدول الأوروبية في فتح المجال أمام الطقوس الصوفية للانتشار والتمدد في مقابل تضييق الخناق على الإسلام الأصولي، وهو ما أرجعه الكثير من الباحثين كما أشرنا آنفًا إلى إيجاد الغرب في التيار الصوفي ضالته لأداء دور”الإسلام البديل” في مواجهة الوهابية والسلفية التي تعزز المبادئ والقيم التي لا تتناسب مع الغرب.
وساعد على هذا الانتشار ثراء الفكر الصوفي بالأدبيات الروحانية السامية التي تتفق بشكل كبير مع توجهات الحضارة الغربية، فضلًا عما يمتلكه من منظومة كبيرة من الرؤى الفلسفية والحركية التي جذبت أنظار واهتمام الأوروبيين، الأمر الذي دفع كثير منهم إلى الارتماء في أحضان تلك الطرق.
والمتابع لسياقات المجتمع الأوروبي وتغلغل الصوفية في كثير من جوانبه، يجد أن نجاح تيار اصطبغ من عقائد أقطاب رحلوا من مئات السنين، في شق طريق واسع له داخل دولة يساورها الكثير من الشك تجاه أي شيء متعلق بالإسلام، يعد إنجازًا كبيرًا وظاهرةً تستوجب الدراسة والتوقف عندها طويلًا.
معرفة البريطانيين بالصوفية
في كتابهما “الصوفية في بريطانيا” كشف الباحثان البريطانيان رون جافيس وثيودور جابريل، أن المنهج الصوفي بدأ في الازدهار بالمجمتع البريطاني منذ ستينيات القرن الماضي، مرجعين معرفة البريطانيين بالصوفية إلى المريد إيان دالاس الذي غير اسمه إلى عبد القادر الصوفي وكان له دور كبير في نشر التصوف بالبلد الأوروبي.
الكتاب أشار إلى أن دالاس، بريطاني الأصل المولود في إسكتلندا عام 1930، اعتنق الإسلام عام 1967 بعد تأثره بأحد دعاة المغرب، وكان يدعى عبد الكريم دودي وذلك في أثناء زيارة له لشمال إفريقيا، ليعود بعدها إلى بلاده مثقلًا ببعض السمات الدينية ذات الصبغة الصوفية التي حملها عن أهل المغرب.
ورغم تعدد الطرق الصوفية التي تعرض لها الباحث البريطاني الذي بات اسمه عبد القادر بعد اعتناقه الإسلام، فإن أكثر ما تأثر به كانت الطريقة الحبيبية الدرقاوية الشاذلية، التي تعد واحدة من أهم الطرق في بلاد المغرب وشمال إفريقيا بوجه عام، ومع مرور الوقت بات دالاس ممثلًا لهذه الطريقة وواجهتها لدى الغرب.
روايات تاريخية أرجعت معرفة البريطانيين بالتصوف إلى الهند التي رزحت تحت هيمنة الاستعمار البريطاني
وحين عاد إلى بلاده بدأ في إدارة زاوية “مسجد صغير” خاصة به في بريطانيا، وبدأ في نشر الممارسات الصوفية التي نقلها عن الطريقة المغربية، ونظرًا لما بدر منه من سمو روحي كبير وأخلاقيات الزهد والتعمق الفلسفي التي تلقاها على أيدي أقطاب الصوفية، جذب أنظار العديد من البريطانيين، مسلمين وغير مسلمين، حتى بات رمزًا للصوفية في البلاد.
روايات تاريخية أخرى أرجعت معرفة البريطانيين بالتصوف إلى الهند التي رزحت تحت قبضة الاستعمار البريطاني خلال الفترة من 1858-1947، إذ تعد موطنا ثريًا للصوفية، وبعد استعمارها على أيدي القوات البريطانية، بدأ التسلل الثقافي الصوفي يتوغل داخل النسيج المجتمعي البريطاني.
فحين كان القادة البريطانيون يطلبون مساعدة بعض الهنود المتعاونين معهم في إتمام بعض الأعمال، كان الهنود يقترحون عليهم حضور بعض الطقوس الصوفية لأحد الدراويش في البلاد، ومع مرور الوقت أعجب البريطانيون بهذا الفكر وطقوسه، وتم نقله بعد ذلك إلى بريطانيا، تعزز هذا الأمر مع الهجرات المكثفة للهنود لبريطانيا، التي كان لها دور كبير في ري الأراضي البريطانية بالماء الصوفي العذب.
طرق متعددة
خطا التيار الصوفي في بريطانيا خطوات متسارعة نحو الانتشار، فبعدما كان مقتصرًا على تلك الطريقة المغربية التي نقلها عبد القادر الصوفي، تشعبت الطرق وتعددت الجماعات، وبات لها مريديون بالملايين، سواء من المسلمين الذين يبلغ عددهم 3 ملايين أم غيرهم من الأوروبيين.
وتتصدر تلك الطرق “القادرية البودشيشية” تلك الطريقة المنبثقة عن الطريقة القادرية التي أسسها الشيخ عبد القادر الجيلاني في مصر، ولها فروع عدة في العديد من دول العالم، وتمتلك تلك الطريقة الانتشار الكبير في مختلف المدن البريطانية حيث تمتلك العديد من المراكز الفرعية لها في لندن وبيرمنجهام وبرادفورد ومانشستر ونوتنجهام.
كما تتنوع أنشطتها لتشميل أوجه متعددة لأعمال الخير عبر عدد من الجميعات الخيرية منها جمعية “أمانة” المسجلة في ولاية ويلز، التي تقدم خدماتها عن طريق الطلاب المتطوعين، هذا بخلاف الأنشطة الأخرى كتحفيظ القرآن وتعليم الصلاة وتوزيع الطعام على غير القادرين من المسلمين وغير المسلمين هناك.
هناك طرق أخرى فرعية، لكنها تحتل أهمية ومكانة كبيرة لدى شريحة ليست بالقليلة من البريطانيين
كذلك هناك “النقشبندية الحقانية” وهي لا تقل أهمية عن القادرية، ويتزعمها الشيخ هشام قباني، زوج ابنة الشيخ ناظم الحقاني القبرصي (1922- 2014) شيخ الطريقة النقشبندية في أوروبا، وتربط قباني علاقات قوية بالإمارات وحكامها، وهو ما أثار حوله الكثير من علامات الاستفهام بشأن الدور الذي يؤديه هناك لخدمة أجندة أبناء زايد.
ومن الطرق الأخرى ذات الشهرة الكبيرة في بريطانيا “الأويسية” وتمتاز بفخامة مراكزها، كونها صرحًا تعليمًا كبيرًا، وتمتلك مدرسة كبيرة تحت اسم “المدرسة الصوفية الشاه مقصودية”ومقرها العاصمة لندن، ولها العديد من الفروع في البلدان الأوروبية الأخرى مثل ألمانيا وكندا، وتنسب تلك الطريقة إلى الصحابي أويس بن عامر القرني (594- 658).
علاوة على تلك الطرق الرئيسية هناك طرق أخرى فرعية، لكنها تحتل أهمية ومكانة كبيرة لدى شريحة ليست بالقليلة من البريطانيين، منها “الحبيبية الدرقاوية” التي تمتلك زاويا ومساجد في بعض الولايات ويعتبرها البعض امتدادًا للثقافة الشرقية في أوروبا، إضافة إلى الطريقة “العنايتية” التي تُنسب إلى الفنان الهندي عنايت خان صاحب الفضل في نشر التصوف لدى الغرب عن طريق الموسيقى.
في عباءة السياسة
ليس من المعقول أن ما حققته الصوفية من انتشار واسع ونفوذ مجتمعي قوي لا يسيل لعاب الساسة والحكام والمسؤولين في بريطانيا، ومن ثم كان خطب ود المريدين واستئناسهم وتحويلهم إلى قوة ناعمة تحقق حزمة من الأهداف في مرمى الإسلام الأصولي التقليدي الذي ظل لفترات طويلة حجر عثرة أمام الأطماع الأوروبية.
عادة ما ينظر الغرب للصوفية كدرع ممانعة في مواجهة الحركات المتشددة، تعزز هذا الأمر بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، وتكفي الحالة البريطانية للاستدلال على ذلك، فحين اختلفت حكومة بريطانيا مع المجلس الإسلامي البريطاني (ممثل الجالية الإسلامية في البلاد) قررت تحويل الدعم إلى كيان آخر لم يكن معروفًا، وهو “المجلس الصوفي البريطاني” كبديل للمجلس الإسلامي، لا سيما بعدما رأوا منه مرونةً وتماهيًا غير موجود لدى التيارات التقليدية الأخرى.
لم يختلف أي تيار سياسي بريطاني على دعم المجلس الصوفي الجديد، الذي يرون فيه كفة الميزان التي تحقق المعادلة
وقد افتتح هذا المجلس في الـ19 من يوليو 2006 ليجسد حجم التغير الذي طرأ في فكر العقلية السياسية لبريطانيا تجاه الإسلام، فبعد خصومة نسبية دامت لسنوات طويلة، ها هي الحكومة تفتح أذرعها أمام التيار الصوفي وتعبد الطريق أمامه لتصدر المشهد، على مرأى ومسمع من كبار الساسة وقادة الرأي.
لم يختلف أي تيار سياسي بريطاني على دعم المجلس الصوفي الجديد، الذي يرون فيه كفة الميزان التي تحقق المعادلة، الاستفادة من الكتلة التصويتية للمسلمين من جانب وتجنب أي تهديدات حضارية أو فكرية لوجودهم، فقد حضر حفل الافتتاح لفيف من كبار الساسة لا سيما من حزب العمال البريطاني.
ومن أبرز الشخصيات التي حضرت الحفل وزيرة الجاليات والحكومات المحلية في عهد توني بلير، الوزيرة رث ماريا كيلي، بالإضافة إلى مستشار الحكومة للشؤون الدينية والمجتمعات المحلية مقصود أحمد، هذا بخلاف كبار الشخصيات العامة وبعض زعماء الجميعات الأهلية في بريطانيا.
الحكومة البريطانية طالما نظرت للمجلس ونشاطه على أنه حلقة قوية في سلسلة الإجراءات التي تتخذها الدولة لمواجهة التطرف بعد أحداث 2005 التي ضربت العاصمة لندن وأودت بحياة 50 شخصًا، وهو السبب الأبرز وراء الدعم المتواصل من ألوان الطيف السياسي البريطاني كافة.
ومن أبرز مظاهر الاستدلال على عمق تلك العلاقة بين النظام البريطاني والصوفية، ما ذُكر بشأن تنظيم الأمير تشارلز للعديد من الزيارات للمراكز الصوفية وحضور فعالياتها، ويذكر أنه يستضيف بعض رموز الصوفية في بلاده كما حدث حين استضاف هشام قباني شيخ النقشبندية في فبراير 2010 بدعوى مناقشة شؤون المسلمين هناك.