يبدو أن ما اعتبره البعض خطوة على طريق رتق الخلاف التاريخي بين الإسلاميين والقوميين إثر تشكيل حكومة إلياس الفخفاخ في تونس التي ضمت كل من حركة النهضة الإسلامية وحركة الشعب العروبية الناصرية، كان تحليلًا بالَغ في التفاؤل وجانب الصواب.
فإلى حد الآن، تعامُل الطرفين مع بعضهما البعض يبدو كتعامل بين حزب موالاة وحزب معارضة لا كحزبين من المفترض أن روح عمل الفريق تجمع بينهما ولا تفرق، هذا على الأقل ما دلت عليه الجولة الأخيرة من المناكفة البرلمانية التي حصلت بين نواب الحزبين، وذلك إثر توجه النائب عن حركة الشعب هيكل المكي في إطار جلسة برلمانية بتحية “للجيش العربي السوري والجيش الوطني الليبي” كما أسماهما لأنه يعتبرهما رأس حربة في مواجهة الإرهاب وما وصفه بالغزو التركي للبلدين العربيين.
الخلاف لم يبق حبيس جدران البرلمان بل تجاوزه وانتقل إلى ساحة الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي، حيث لم يكتف النائب هيكل المكي باتهام ما سماه “جيش النهضة الإلكتروني” بتكفيره والتحريض عليه والتهديد بتصفيته، بل وحمّل رئيس مجلس نواب الشعب ورئيس حركة النهضة راشد الغنوشي المسؤولية عن سلامته الشخصية، بسبب ما وصفه بـ”تجند صفحات تابعة لحركة النهضة ضده”، وهو ما استدعى ردًا من رئيس كتلة النهضة البرلمانية نور الدين البحيري الذي اتهم زميله ومن ورائه حركة الشعب بالبقاء أسرى لـ”ضغائن وتقاليد ثأر موروثة من عهود الظلام”.
فكيف نقرأ الخلاف الحاصل بين الحركتين ومن ورائهما التيارين القومي والإسلامي في تونس؟ وإلى متى تعود جذور هذا الخلاف؟ وما المحطات التاريخية الفاصلة في العلاقة بين العائلتين السياسيتين المتخاصمتين؟
جذور الخلاف بين التيار القومي والإسلامي
لا يمكن قراءة الخلاف الراهن بين حركتي النهضة والشعب إلا بالعودة لجذور الصراع الذي عرفته الساحة العربية منذ قرن من الزمن بين كلا التيارين الفكريين. من جهتها، نشأت الحركة القومية العربية في الشام كردة فعل على سياسة التتريك التي مارسها حزب الاتحاد والترقي منذ وصوله إلى السلطة سنة 1909، فما كان في مرحلة أولى مجرد مطالب تخص الحقوق الثقافية واللغوية للرعايا العثمانيين العرب تطور تدريجيًا من المطالبة بدولة فيدرالية أو لامركزية تجمع العرب والترك إلى المطالبة بالاستقلال الكامل عن الدولة العثمانية وتأسيس الدولة القومية العربية الحديثة في استنساخ لنموذج الدولة القومية الأوروبية بل وحتى التركية نفسها فيما بعد مع مصطفى كمال أتاتورك.
في المقابل، كان ظهور الحركة الإسلامية كردة فعل تجاه انهيار الدولة العثمانية التي كانت آخر دولة خلافة إسلامية وآخر إطار جامع للمسلمين، فوسط الفراغ الذي تركه غياب العثمانيين أمام اكتساح القوى الاستعمارية الأوروبية للعالم العربي والإسلامي ماديًا وروحيًا، ولدت جماعة الإخوان في مصر سنة 1928 في سعي منها لإيجاد إطار جديد لتوحيد المسلمين ومقاومة التغريب وإصلاح الشأن العام سواء عبر وسائل العمل الدعوي أم الخيري أم الاجتماعي أم السياسي، من ثم تمدد نفوذ وحضور الجماعة في باقي الأقطار العربية تدريجيًا وشكلت لبنة أفكارها مصدر إلهام لحركات إسلامية أخرى كالجماعة الإسلامية التي أسسها أبو الأعلى المودودي في شبه القارة الهندية.
بعد خسارة الدولة العثمانية للحرب العالمية الأولى وفصل المشرق العربي عن الباب العالي وتقاسم الأخير بين بريطانيا وفرنسا في إطار ما عرف باتفاقية سايكس بيكو، حافظ التيار القومي العربي على حضوره في الساحة إلى جانب التيار الإسلامي، حيث ساهمت أفكارهما في إلهام نضال الشعوب العربية ضد الاستعمار، سواء بالنسبة لحركة المقاومة الغليبية (1911-1932) ضد الاحتلال الإيطالي أو الثورة الفلسطينية (1936-1939) ضد الاحتلال البريطاني أو الثورة السورية الكبرى (1920) وحرب التحرير الجزائرية (1954-1962) ضد الاحتلال الفرنسي.
قبل السبعينيات لم يكن التيار الإسلامي قد برز بعد على الساحة العربية كبديل وقوة سياسية تنافس على السلطة باستثناء الحالة المصرية، حيث كانت جماعة الإخوان تتمتع بقدرات تنظيمية وتعبوية كبيرة
وأتت موجة الاستقلال خلال الخمسينيات، ووجدت القوى القومية والإسلامية نفسها أمام أمة مقسمة ومشتتة ضمن أقطار لا يتسع لأي أحد منها توفير شروط النهضة الحضارية وتحقيق التنمية المادية والروحية بإمكاناتها الذاتية، فهي أوطان أقرب لوضعية المحميات منها إلى وضعية الدول المستقلة وأقرب لوضعية مزرعة الحاكم منها إلى دولة القانون والمؤسسات، فكان الطرح القومي والإسلامي متجاوزًا للحدود الوطنية، ثائرًا على القطرية، مدغدغًا لمشاعر البسطاء ومتقاربًا في الغايات، مع اختلاف في المرجعية والوسيلة والمنهج.
يذكر أنه قبل السبعينيات، لم يكن التيار الإسلامي قد برز بعد على الساحة العربية كبديل وقوة سياسية تنافس على السلطة باستثناء الحالة المصرية، حيث كانت جماعة الإخوان تتمتع بقدرات تنظيمية وتعبوية كبيرة، في المقابل لم تسع الأحزاب القومية لبناء أحزاب جماهيرية من القاعدة وانحصر مشروعها في المستوى النخبوي والطلابي الضيق، فكان خيارها اختصار الطريق نحو السلطة عبر الدبابة في أكثر من بلد عربي.
وكانت البداية من مصر مع انقلاب 1952 بقيادة الضباط الأحرار الذي أطاح بالملك فاروق والنظام الملكي، فعلى الرغم من تقاربهما المرحلي البراغماتي خلال أول عامين من الانقلاب، فإن شهر العسل بين القوميين بقيادة عبد الناصر وجماعة الإخوان لم يدم طويلًا، فالإخوان لم يكونوا راضين على نصيبهم من كعكة السلطة، وفي المقابل رأى عبد الناصر في الجماعة القوة السياسية والاجتماعية القادرة على تهديد عرشه والإطاحة بحكمه، فكانت القطيعة الكاملة والمواجهة الشاملة بين الطرفين إثر محاولة اغتيال المنشية سنة 1954.
بعدت الشقة أكثر بين التيارين خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي بعد تبني الأحزاب القومية الناشئة (حركة القوميين العرب، حزب البعث…) للفكر القومي العلماني والطرح الاقتصادي الاشتراكي (حتى إن بعضها تحول في مرحلة لاحقة إلى الفكر الماركسي)، فقد كان تعامل نخب التيار القومي العربي مع الدين الإسلامي كتعامل الفكر القومي الأوروبي مع الدين من حيث استبعاده عن الحياة العامة وذلك بسبب تأثر تلك النخب (خاصة المبتعثين إلى الخارج) بالتحديث الغربي دون الأخذ بعين الاعتبار خصوصية كل من الحضارة الغربية ونظيرتها العربية الإسلامية.
ففي هذا يقول الكاتب غازي التوبة أنه عندما استبعد الفكر القومي العربي الدين الإسلامي من عناصر بناء الأمة كان فكرًا فقيرًا معنويًا”، ويضيف “القومية العربية لم تنطلق من الذات، وأغفلت دور الدين في بناء ونشأة الأمة”، مستندا في آرائه إلى كتابات الفيلسوف والمفكر القومي المغربي محمد عابد الجابري، وقد يكون هذا التباعد الفكري أحد أهم الأسباب التي دفعت بالحركات الإسلامية وعلى وجه الخصوص منها جماعة الإخوان المسلمين إلى التقارب مع التيار السعودي الوهابي الذي شاطره العداء تجاه المد القومي واليساري آنذاك.
في تونس، كان القاسم المشترك بين التيارين هو مواجهتهما لنظام بورقيبة المتحصن بقطريته والمتهم بعزل البلاد عن محيطها العربي والإسلامي
أمام هذا الواقع، لم يبق الخلاف القومي الإسلامي منحصرًا بمصر في فرعيه الإخواني والناصري بل امتد على طول الخريطة العربية ليشمل سوريا التي عاشت على وقع صراع مرير بين جماعة الإخوان السورية والنظام البعثي انطلقت شرارته مع مذبحة حماة الأولى سنة 1964 وانتهت مع مذبحة حماة الثانية سنة 1982 مرورًا بمذابح حلب وجسر الشغور وسجن تدمر، وشمل أيضًا العراق الذي كان ساحة للمواجهة بين النظام البعثي الصدامي والإسلاميين بفرعيهم السني والشيعي، وليبيا التي عرفت هي الأخرى صراعًا مريرًا خلال التسعينيات بين نظام القذافي والجماعة الإسلامية المقاتلة حيث كان سجن أبو سليم شاهدًا على أكثر فصوله دموية.
في تونس، كان القاسم المشترك بين التيارين هو مواجهتهما لنظام بورقيبة المتحصن بقطريته والمتهم بعزل البلاد عن محيطها العربي والإسلامي، فكان للعروبيين نصيبهم الأول من المواجهة سواء أيام الصراع اليوسفي البورقيبي أم في إطار معركة قفصة 1980 بين الجيش التونسي ومقاتلي الجبهة القومية التقدمية وأيضًا من خلال النشاط الطلابي الذي بدأ يتسرب إلى الجامعة التونسية منذ أواخر السبعينيات.
من ثم كان للإسلاميين نصيبهم التالي من المواجهة مع نظام بورقيبة أولًا وبن علي ثانيًا، لكن بينما كان مصير جل الإسلاميين السجون أو المنافي أيام حكم بن علي، وجد القوميون في النشاط النقابي والطلابي والحقوقي مظلة يحتمون بها ويستمرون من خلالها في مشاكسة النظام والبحث عن هامش من الحرية.
محاولات رأب الصدع
لا يمكن قراءة محاولات التقارب بين التيارين خلال تسعينيات القرن الماضي دون النظر إلى معطيات ذلك الظرف الزمني، فالتيار القومي كان قد تلقى نكسته الثانية إثر هزيمة صدام في حرب الكويت بعد نكسة التيار الأولى التي مني بها إثر هزيمة يونيو 1967، فالحرب العربية الباردة المندلعة منذ الستينيات بين الأنظمة الملكية والأنظمة العسكرية القومية بدا أنها قد حسمت نهائيًا لصالح معسكر الملكيات.
أما التيار الإسلامي الذي كان متحمسًا للثورة الإيرانية في الثمانينيات متوقعًا زلزالًا مماثلًا في العالم العربي، فسرعان ما اصطدم بواقع مرير في الداخل تمثل في مواجهة الأنظمة المستبدة لهم بالحديد والنار، وفي الخارج تمثل في عدم قبول المنظومة الدولية بوصولهم للحكم.
كان الزلزال في أواخر 2010 الذي لم يسبق أن شهد العالم العربي له مثيلًا في تاريخه الحديث مفاجئًا لجل القوى السياسية
وأمام تعنت النظام الرسمي العربي عن اتخاذ أي خطوات نحو الإصلاح والانفتاح السياسي، كان التقارب بين القوميين والإسلاميين حتميًا في إطار ما عرف بالمؤتمر القومي الإسلامي سنة 1994، الذي شكل مساحة للنقاش وتقريب وجهات النظر إزاء التحديات والقضايا التي تواجهها الأمة العربية.
لكن هذا التقارب لم يبق عند حدود جدران قاعات المؤتمرات التي كانت تجمع مفكري وكتاب ونخب كلا التيارين بل تعداه إلى مرحلة التعاون العملي، حيث شاهدنا القوميين يحشدون المظاهرات لتأييد المقاومة الفلسطينية ممثلة في حركة حماس في أثناء حرب غزة 2008-2009 واللبنانية ممثلة في “حزب الله” في أثناء حرب لبنان 2006، وفي عراق ما بعد 2003 كان هناك تنسيق واضح بين البعثيين وفصائل المقاومة ذات الخلفية الإسلامية لمواجهة الاحتلال الأمريكي البريطاني للعراق.
الربيع العربي.. الانتكاسة الجديدة في العلاقة بين التيارين
كان الزلزال في أواخر 2010 الذي لم يسبق أن شهد العالم العربي له مثيلًا في تاريخه الحديث مفاجئًا لجل القوى السياسية، ففي ميدان التحرير المصري وساحة القصبة التونسية، توحدت حناجر القوميين والإسلاميين والليبيراليين واليساريين ونادت بنفس الشعارات مطالبة بالتغيير وإسقاط النظام، ولا أحد كان يبالي بخلفية الآخر الإيديولوجية، لكنها كانت لحظة جميلة لم تدم طويلًا وأصدقاء الأمس سرعان ما تحولوا إلى خصوم، هذا الانقلاب الجديد في العلاقة بين الطرفين يمكن أن يفسر بتطورين جد مهمين، الأول يتمثل في وصول قطار الثورات إلى دمشق وتهديده عرش آل الأسد والثاني يتمثل في صعود الإسلاميين إلى سد الحكم إثر فوزهم في أول انتخابات ديمقراطية سواء في تونس أم مصر.
ربما حتى التحالف مستقبلًا بين نظرائهما في العالم العربي قد يبدو صعبًا لكنه ليس مستحيلًا، فلا شيء مستحيل في عالم السياسة
أبرز معبر عن ذلك التحول في الخطاب والتعاطي مع الحراك الثوري العربي كان كبير القوميين، الكاتب المصري حسنين هيكل وذلك من خلال مقالاته سنة 2012، فنفس النخب القومية التي تحمست للتغيير سنة 2011 صاروا بعد عام واحد يعتبرون الثورات العربية مؤامرة صهيوأمريكية و”ربيع عبري”، والديمقراطية التي تأتي بألد خصوم القوميين إلى السلطة هي ديمقراطية معتلة وجب الإجهاز عليها، حتى إننا صرنا نرى من كان في الأمس القريب أنظمة رجعية عميلة في قاموس القوميين العرب، حلفاء في سبيل الإطاحة بالإسلاميين من الحكم واستئصالهم من المشهد سواء في مصر أم ليبيا.
في تونس، بقيت علاقة القوميين مع الإسلاميين أسيرة صراعات المشرق خاصة منها اصطفافات الفريقين إزاء القضية السورية بعد العام 2012، فرغم المراهنات على تقارب محلي قد يشكل استثناءً في الساحة العربية من خلال تجربة العمل الحكومي التي كان آخرها انضمام كل من حركتي النهضة والشعب لحكومة الفخفاخ، فإن تلك الآمال سرعان ما ذهبت أدراج الرياح خاصة مع ما نشاهده حاليًّا من مناكفات بين الحركتين لا تزال مستمرة إلى حد كتابة هذه الأسطر.
وها نحن اليوم نقف أمام مشهد يعود بأذهاننا إلى ستينيات القرن الماضي، وكأن المفاهيم السياسية لم تتطور وكأن الوضع الدولي لم يتغير وكأن هذه التيارات السياسية لم تستوعب شيئًا، فمعركتها التي يبدو أنها ستفوق حرب المئة العام كما قال الأستاذ نور الدين العلوي هي معركة عدمية عبثية كلفت الربيع العربي كثيرًا ومعها آمال الشعوب في التغيير، ولا نبالغ إن قلنا إن الصراع بين القوميين والإسلاميين كان من بين الأسباب التي أدت إلى تعثر الموجة الثورية العربية الأولى سنة 2011 وإهدار طاقات كان يمكن بذلها في سبيل إنجاح عملية البناء الديمقراطي.
وهو ما يدفعنا لطرح السؤال مجددًا: هل من أفق لحرب البسوس هذه؟ برأيي، طي صفحة الماضي وجب أن تتوافر له شروط تتمثل في قيام كلا التيارين بمراجعات ونقد ذاتي عميق لطرحهما وفكرهما وسرديتاهما الكبرى وبنائهما الحزبي العقائدي، والأهم من ذلك الخروج بعلاقتهما من دائرة العداوة إلى دائرة الخصومة، حيث يكون التنافس على قاعدة الديمقراطية.
فمع أن لكل وضع خصوصيته، لكن يكفي فقط أن نعلم أن العقيد ألب أرسلان تركش الذي أذاع في يوم ما بيان الانقلاب العسكري على الرئيس التركي (ذي التوجهات المحافظة) عدنان مندريس سنة 1960، هو أيضًا الأب الروحي لحزب الحركة القومية التركية المتحالف حاليًّا مع حزب العدالة والتنمية المحافظ، والأقرب إليه فكريًا وعقائديًا في الساحة السياسية، التقارب وربما حتى التحالف مستقبلًا بين نظرائهما في العالم العربي قد يبدو صعبًا لكنه ليس مستحيلًا، فلا شيء مستحيل في عالم السياسة.