شهد ملف سد النهضة الذي تعمل إثيوبيا على بنائه منذ عشرة أعوام على مجرى نهر النيل، في ظل اعتراضات من دولتي المصب، خاصة مصر، تطورات تصعيدية حادة على مستوى الخطاب والإجراءات، من الثلاث عواصم المعنية بالقضية، أديس أبابا والقاهرة والخرطوم، خلال شهر مايو الحاليّ.. فما القصة؟ وما طبيعة هذه التطورات؟
مصر تتجه إلى مجلس الأمن
أفادت تقارير صحافية إثيوبية، كان أبرزها ما ورد في صحيفة “إثيوبيا أنسايدر“، يوم الثلاثاء الـ5 من مايو/آيار الحاليّ، أن وزارة الخارجية المصرية رفعت خطابًا (شكوى) ضد إجراءات إثيوبيا في بناء سد النهضة وملء الخزان، إلى مجلس الأمن الدولي.
أهم ما جاء في الخطاب المصري المرفوع إلى مجلس الأمن، الذي ألحقت به مذكرة من 15 صفحة، كان عرضًا موجزًا للسردية المصرية حيال ملف سد النهضة، بدءًا من بناء إثيوبيا للسد، دون الحصول على موافقة دولتي المصب، مرورًا بانخراط مصر، رغم الخطوة الإثيوبية الأحادية، في عدة مسارات تفاوضية جادة، تبلورت في اتفاق “إعلان المبادئ” الموقع في الخرطوم مارس/آذار 2015، ثم في “مفاوضات واشنطن” التي أفرزت اتفاقًا دوليًا، وقعت عليه مصر بالأحرف الأولى، نهاية فبراير/شباط الحاليّ، برعاية البنك الدولي.
وقد اتهمت مصرُ إثيوبيا بمقابلة سياستها التي تتسم بالمرونة والاتساق مع القانون الدولي، والهادفة إلى التوصل لاتفاق عادل ومتوازن يحفظ مصالح جميع الأطراف، بسياسة مناقضة، تتسم بالفردانية وتغييب روح التعاون، مطالبةً المجتمع الدولي بإثناء إثيوبيا عن تلك المخططات التي باتت القاهرة تعتبرها “الخطر الأكبر عليها في هذه الفترة، لما تمثله من تهديد على الأمن المائي والغذائي لـ100 مليون نسمة”، منوهةً عن ضرورة العودة إلى اتفاق واشنطن، حمايةً لأمن واستقرار المنطقة، ولتقديم نموذج إيجابي في التعاون وحل النزاعات في القارة الإفريقية.
ورغم أهميته، لم تعرض مصر ذلك الخطاب إلا في سياق آخر متقاطع معه، وبشكل مقتضب، في اليوم التالي لنشر الصحيفة الإثيوبية تفاصيل الخطاب، حيث أفادت وزارة الخارجية المصرية أن الوزير سامح شكري، تلقى اتصالًا هاتفيًا بتاريخ الـ6 من مايو/آيار، من نظيره السلوفيني يورماس رينسالو، بحثا خلاله عددًا من القضايا الثنائية والدولية، وتطرقا إلى تلك الشكوى، باعتبار أستونيا ترأس مجلس الأمن هذا الشهر، فيما أعرب الوزير الأستوني عن استعداد بلاده إلى دفع القضية لمداولات مجلس الأمن.
كيف ردت إثيوبيا؟
الرد الإثيوبي على الخطاب المصري الموجه إلى مجلس الأمن، جاء على أربع مراحل متتابعة، كان أولها ما صرح به المتحدث باسم وزارة الخارجية الإثيوبية عن كون أديس أبابا على علم بالتصعيد المصري الأممي الجديد، معتبرًا إياه خطوةً غير ذات جدوى، لأن ما أوردته مصر في الخطاب لا أساس له من الصحة، على حد قوله.
وفي وقت لاحق، قال وزير الخارجية الإثيوبي، جيدو أندارغاشيو، إن إثيوبيا لا تجد مبررًا لتأخير عملية ملء الخزان، والمقرر لها أن تبدأ في شهر يوليو القادم، كما أنها ليست ملزمة بالحصول على موافقة مصر قبل الشروع في الملء، خاصةً بعد أن بذلت جهودًا استثنائية لاستيعاب مطالب مصر التي لا تنتهي وسلوكها الذي لا يمكن التنبؤ به، مشيرًا إلى إعداد بلاده خطابًا مقابلًا للخطاب المصري المرفوع إلى مجلس الأمن.
وبالتزامن مع ذروة هذا التصعيد المتبادل، عقدت اللجنة الفنية لسد النهضة، التي يرأسها رئيس الوزراء آبي أحمد، اجتماعًا حضره وزير الخارجية وقائد أركان الجيش آدم محمد، عرض خلاله وزير الطاقة والمياة والري سيلشي بيكيلي، تقريرًا عن آخر تطورات العملية الإنشائية في السد، الذي أظهر انتهاء 87% من أعمال الهندسة المدنية، ونحو 73% من الأعمال التقنية.
حتى هذه النقطة، كانت ردود الفعل الإثيوبية متسقةً مع الخط العام الذي تنتهجه أديس أبابا من بداية الأزمة تقريبًا، لكن المفاجئ كان ما أعلنته وزارة الموارد المائية والري في السودان عن رفض رئيس الوزراء عبد الله حمدوك طلبًا مقدمًا من نظيره الإثيوبي، لصياغة اتفاق جزئي بين البلدين، دون مصر، لملء بحيرة الخزان بشكل أولي.
وقد فُهم من ذلك البيان أن إثيوبيا تسعى إلى صياغة اتفاق يُشرعن خطوتها المرتقبة في ملء الخزان، وهي تخالف بذلك ما تدعيه عن إمكانية شروعها في الملء الأولي دون اتفاق، كما فُهم من طرح الرفض السوداني بشكل علني أن تغيرًا نوعيًا ما طرأ على سياسة الخرطوم تجاه هذا الملف، بما يساهم في إضعاف موقف أديس أبابا السياسي، خاصة بعد انسحابها بشكل منفرد من محادثات واشنطن.
لماذا تغيَر الموقف السوداني؟
لا شك أن إعلان الرفض السوداني للمقترح الإثيوبي بعقد اتفاق ثنائي يشرعن عملية ملء الخزان المرتقبة دون مصر يمثل تحولًا نوعيًا في الموقف السوداني من الملف، خاصة بعد الانتقادات التي تعرضت لها الخرطوم جراء رفضها التوقيع على اتفاق واشنطن مع مصر، ومعارضتها مشروع قانون عربي لدعم مصر في جامعة الدولة العربية مارس الماضي.
ولم يظهر هذا التغير السوداني في هذا الإجراء وحده، بل ظهر أيضًا على مستوى “الخطاب” الرسمي تجاه هذا الملف، حيث بات المسؤلون السودانيون ينوهون نصًا عن أن “معظم القضايا مطروحة للتفاوض، وأن التفاوض لا يتعلق بالمرحلة الأولى من الملء فقط، بل يشمل كل مراحل التشغيل التي لا يمكن أن تتجرأ”، بل عاد الخطاب السوداني الرسمي للحديث عن سلامة السد وآثاره البيئية والاجتماعية وآلية التنسيق وتبادل البيانات.. فكيف حدث هذا الاختراق السياسي؟ وما دلالاته؟
يرجع بعض المحللين هذا التحول إلى ثلاثة أسباب: يتعلق الأول بمخاوف الحكومة السودانية الانتقالية من طموحات إثيوبيا التوسعية، التي ظهرت بوضوح في الفترة الأخيرة، من خلال مشهدين، هما مشهد توغل بعض القوات الإثيوبية داخل مناطق حدودية سودانية، مما دفع رئيس المجلس السيادي عبد الفتاح البرهان إلى زيارة هذه المناطق لتأكيد السيادة السودانية عليها، ومشهد إعلان إثيوبيا اعتزامها بناء سد على نهر عطبرة، دون إخطار كل من السودان وإريتريا، دولتي المصب.
فيما يرتبط السبب الثاني بنجاح مصر في تسويق نفسها كحليف سياسي موثوق لدى الحكومة السودانية الجديدة، بعد إسراعها في إدراج الخرطوم ضمن العواصم المستحقة لمساعدات “كورونا” خارجيًا، واتخاذها خطوات جادة في طريق تحقيق الربط الكهربائي بين البلدين، بما يقطع على إثيوبيا الطريق في تسويق السد كطوق نجاة للجيران المحرومين من إمدادات الطاقة، بما في ذلك السودان.
أما السبب الثالث، قد يكون رغبة الحكومة الانتقالية الجديدة في كسب ود الداعم الخليجي، بما يتضمنه ذلك من تنسيق سوداني عربي في مجمل القضايا السياسية والاقتصادية والأمنية، بالمخالفة لسياسة “المحاور” التي كان ينتهجها نظام البشير، كما قد يعني تعبيرًا عن الوفاء لواشنطن، التي رعت المفاوضات الثلاثية، في ظل حاجة السودان إلى دعمها في ملف رفع اسمه من قوائم الإرهاب.
الخطة الإثيوبية
تعتمد إثيوبيا في معركتها ضد مصر على سياسة الأمر الواقع، لذلك، ورغم ضعف موقفها السياسي، فإنه من المرجح أن تفي بوعودها في ملء الخزان خلال أقل من شهرين، لذلك تواصلنا مع محمد حافظ، أستاذ هندسة السدود في جامعة يونتين الماليزية، لنسأله عن إمكانية الملء الأولي، في ظل عدم اكتمال بناء السد بنسبة 100% كما تؤكد تقارير الحكومة الإثيوبية نفسها.
وفي حديثه لـ”نون بوست” شرح لنا حافظ، أن السد يطلق تحديدًا على بنائين لا بناء واحد كما يشاع، حيث يعتبر السد الأول سدًا ركاميًا مساعدًا، يبلغ طوله نحو 5200 متر تقريبًا، وقد اكتمل بناؤه منذ فترة، وهو السد الذي يُعوَل عليه في مسألة التخزين.
أما السد الأساسي، فهو بناء خرساني يسد مجرى النيل، ليس من الضروري أن يكتمل حتى تتمكن إثيوبيا من التخزين، وما يهمها منه أن تسد الممر الأوسط الذي كان تغمره المياه خلال موسم الفيضان، وما إن تصب إثيوبيا “خرسانة” الممر الأوسط، وهو ما يعني بلوغ البناء ارتفاعًا تقريبيًا يقدر بـ70 مترًا فوق قاع النيل، فإن إثيوبيا سيكون بمقدورها تخزين 4.9 مليار متر مكعب من المياه خلال فيضان عام 2020.
وبسؤاله عن السبب وراء اقتصار التخزين الأولي على 4.9 مليار متر مكعب بدلًا من نحو 18.5 مليار متر مكعب وافقت عليها كل أطراف مفاوضات واشنطن في التخزين المبدئي، أخبرنا حافظ أن “ذلك موقف عليه عشرات علامات الاستفهام، ويعكس في حقيقة الأمر، عدم ثقة الحكومة الإثيوبية في أساسات سد النهضة، خاصة بعد تعرض الخرسانة للتآكل والتفتت خلال فيضان العام الماضي”.
ويرجح حافظ أن هذا التراجع مناورة إثيوبية لمنح المهندسين الإيطاليين الذين يشرفون على المشروع، بعضًا من الوقت لعمل “تجربة محاكاة عملية” للأساسات من خلال هذا التخزين البسيط في موسم الفيضان القادم.
وفي حالة نجاح التجربة، سوف تستمر إثيوبيا في التخزين خلال تدفقات شهري سبتمبر وأكتوبر، لحجز ما يعادل 18.5 مليار متر مكعب، وإيصال منسوب بحيرة السد إلى 595 قبل شهر مارس القادم، بحيث يتمكن السد من تشغيل “توربينات” الكهرباء وتوليد 750 ميجاوات طاقة، بالتزامن مع العيد العاشر لتدشين السد، وبذلك يضمن “آبي أحمد” فوزًا سهلًا على “تحالف التيغراي” الذي ينافسه في الانتخابات القادمة.
اضطراب في الأولويات
بعض المتخصصين في الملف الدبلوماسي، وعلى رأسهم السفير محمد العرابي وزير الخارجية الأسبق ثمنوا الخطوة المصرية في التوجه إلى مجلس الأمن، معتبرين إياها “تصعيدًا دبلوماسيًا محسوبًا بدقة”، بالتزامن مع التطور الملحوظ في قوة الخطاب السياسي الذي بات يشدد على أن الحق في التنمية لا يمكن أن يأتي على حساب الحق في الحياة، كما رأوها امتدادًا لخطوات أخرى سابقة بدأت عندما تحدث السيسي عن ملف سد النهضة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، سبتمبر الماضي.
فيما رأى آخرون تتقاطع تخصصاتهم مع الملف المصري، مثل الدكتور محمود وهبة أستاذ الاقتصاد الجزئي، أن عامل “التوقيت” ليس في صالح مصر، فقد بدأ العد التنازلي للتخزين بالفعل، وإثيوبيا لا تكتفي بذلك، بل تروج حملات علاقات عامة تتحدث عن قوتها العسكرية، لذلك فإن السيسي لم يعد أمامه إلا قلب الطاولة، عبر الانسحاب من اتفاق الخرطوم الذي شرعن بناء السد بشكل أحادي، ثم طلب التحكيم الدولي في القضية.
ما أثار التعجب، أنه رغم هذه التطورات الخطيرة من الجانب الإثيوبي، فإن جدول أعمال السيسي خلال الأيام الماضية كان مشغولًا بملف آخر، وهو الملف الليبي، على وقع نجاح قوات حكومة الوفاق الوطني في اقتحام قاعدة الوطية الجوية الواقعة غرب ليبيا، على الحدود التونسية، على بعد نحو ألفين كيلومتر من الحدود الغربية المصرية.
فبعد اجتماعه العاجل مع كبار رجال الجيش عقب هذا التطور الليبي، الذي وجههم خلاله إلى ضرورة “التحلي بأقصى درجات الجاهزية والاستعداد القتالي لحماية أمن مصر القومي”، عقد السيسي اجتماعًا جديدًا يوم الثلاثاء، مع مجموعة الاتصال الإفريقية عن ليبيا، أكد فيه أن “أمن ليبيا من أمن مصر القومي، وأن مصر لم ولن تتهاون مع الجماعات الإرهابية ومن يدعمها”، بينما غاب ملف سد النهضة عن جدول أعماله، موكلًا إياه إلى رئيس مجلس الوزراء الذي بحث مع حمدوك محاولة إقناع آبي أحمد بالعودة إلى المفاوضات من جديد.