خلال الأيام الماضية شهد النظام السوري تصدّعًا وزلزالًا شديدًا، فأقطاب سلطة آل الأسد يتنازعون على المال والشركات الكبرى وأبرزها شركات الاتصال والتقانة، والقضية باتت حديث الشارع ومعروفةً للقاصي والداني، في ظل هبوط عنيف وغير مسبوق للعملة السورية مقابل الدولار وتراجع الاقتصاد إلى مستويات مخيفة، مع تزايد الكارثة المعيشية التي تنذر بالأخطر والأسوأ.
استطاع رامي مخلوف من خلال ثلاثة مقاطع فيديو مع بعض المنشورات على الفيسبوك، أن يحدث خلخلةً في النظام والاقتصاد على حد سواء، زادت هذه الأزمة مصائب النظام التي تتوالى تباعًا شهرًا بعد شهر، خاصةً أن البلاد على أعتاب أكبر عقوبات ستفرضها الولايات المتحدة الأمريكية على الأسد وأعوانه وكل من يتعامل معه من الخارج، تحت مسمى قانون قيصر.
في تقارير سابقة أفردها “نون بوست” عن المعركة الحاليّة بين آل مخلوف وآل الأسد والأقطاب التي تسند كل فريق، تحدثنا بإسهاب عن نشوء عائلة مخلوف تحت كنف النظام السوري وبمساعي الأسد الإبن كواجهة اقتصادية له، نتيجة صلة الرحم التي نتجت عن المصاهرة بين حافظ الأسد وأنيسة المنحدرة من عائلة مخلوف، لتستغل الأخيرة نفوذها بتوظيف مالها سياسيًا وفي خدمة نظام الحكم، كما أن أفراد هذه العائلة وعلى رأسهم رامي مخلوف ابن خال بشار الأسد كانوا سرطانات فساد الدولة الذين تحكموا بكامل مفاصلها ونهبوا خيراتها وتسيّدوا إدارة النفط والاتصالات والنقل وغيرها من الشركات والمؤسسات.
يقول الدكتور أسامة قاضي في حواره مع “نون بوست“: “ظل رامي مخلوف برعاية القصر الجمهوري على مدى الـ20 سنة الماضية منفرًا لرأسمال السوري الوطني وممسكًا بزمام مفاصل الاقتصاد السوري، وواجهة لمعظم النشاطات الاقتصادية، حيث لديه أكثر من 30 شركة على رأسها شركة سيرياتيل وصروح العقارية والبتراء العقارية ومدرسة الشويفات ومعمل حديد الساحل وجميع الأسواق الحرة وغيرها الكثير من المصارف وأسطول نقل بحري وسواها”.
يضيف قاضي “تعطيل هذه الشبكة الأخطبوطية المسيطرة على ما تبقى من اقتصاد هش، يُنذر بارتفاع مستوى البطالة التي تجاوزت الـ20% عام 2005، حيث كان في سوريا يومها مليون عاطل عن العمل أما اليوم فهي تتجاوز حاجز الـ80%”.
إذًا، برز هذه القضية عدّة تساؤلات، لعل أبرزها: هل سيكون هذا النزاع مسمارًا في عرش النظام ككل، خاصةً أن الأنباء تتحدث عن خلاف روسي مع نظام الحكم السوري بشأن طريقة حكمه للبلاد وما صدر عن إشاعات مؤخرًا بهذا الخصوص، أم أن النظام يعيد بناء شبكة رجال أعماله واستبدال بالرجال القدماء آخرين جدد بعد أن “احترق كرت مخلوف”؟ في هذا التقرير نناقش هذه الأسئلة ونحاول الإجابة عليها.
شبكة جديدة
يبرز اسم رامي مخلوف بين الشخصيات التي فُرضت عليها عقوبات دولية نتيجة لمشاركته في قمع ثورة السوريين عام 2011، لم يكن ذلك فحسب بل إن وزارة الخزانة الأمريكية أدرجت اسم رامي مخلوف ضمن عقوباتها منذ عام 2009، ويرى مراقبون أن الوقت حان لأن يستبدل بشار الأسد بواجهته الاقتصادية التي حملت ما حملت من تبعات الفساد والحرب بأخرى جديدة تستطيع مواجهة المرحلة التي يمر بها النظام حاليًّا، إلا أن فرضية إنشاء شبكة رجال أعمال جديدة في هذا الوقت قد يضر بالأسد الذي بنى الأساس الاقتصادي السوري على رامي مخلوف.
فرضية صعود طبقة جديدة على حساب انهيار رامي مخلوف ومملكته أشار لها الكاتب والباحث السوري أحمد أبازيد بقوله: “في عهد الأسد الأب كان هناك صعود لطبقة رجال أعمال جدد مع تصدي الأسد لانتفاضة الثمانين، وبناء تحالف مع طبقة من التجار والمشايخ السنة في دمشق وحلب، اغتنت لاحقًا على حساب طبقة تقليدية أقدم من التجار ورجال الأعمال من البورجوازية التقليدية”.
يضيف أبازيد أنه وبعد 2011 “ظهرت طبقة أخرى من رجال الأعمال المغتنين عبر اقتصاد الحرب والميليشيات، مثل آل القاطرجي وسامر فوز وغيرهم، صفقات نقل المقاتلين والميليشيات المحلية والأجنبية، وعقود النفط وحواجز المناطق المحاصرة ونهب المناطق المهجرة، إلخ، وهي الطبقة التي أشار إليها رامي مخلوف منزعجًا من صعودها على حسابه هو كممثل لطبقة رجال أعمال ما بعد 2000 ومصالح الجناح الطائفي لعائلة مخلوف ومن استثمر معهم، وهو نفسه كان قد حلّ سابقًا محل طبقة رجال أعمال سبقته”.
يذهب أبازيد إلى أن بعد 2020 وإقرار قانون قيصر سيتم استبدال شبكة رجال الأعمال القدامى وحلول استثمارات ومجموعات جديدة من طفيليات السلطة أو الأموال الأجنبية التي ستصبح إمدادًا عزيزًا مع انهيارات الاقتصاد الكبرى.
عند هذه النقطة من المرحلة الجديدة المفترضة توجهنا بالسؤال للباحث والكاتب السوري عباس شريفة الذي بدوره قال لـ”نون بوست”: إن “النظام يحاول أن يؤسس نفسه اقتصاديًا على نحو يكون فيه قادرًا على مواجهة طويلة مع العقوبات الاقتصادية المتخذة بحقه، وبناء عليه فهو يبحث عن الاستيلاء على الأصول المالية لرامي مخلوف كأكبر مالك ومستثمر في الاقتصاد السوري، وتأسيس هذه المرحلة عنوانها هو مقاسمة النظام للتجار بأموالهم وأرباحهم وتصفية كل من يرفض الصفقة الجديدة لصالح طبقة جديدة من تجار الحرب المتعاونة مع النظام”.
يقول فراس فحام الباحث في مركز جسور للدراسات الإستراتيجية في حديثه لـ”نون بوست”: “يسعى النظام لإعادة توزيع الثروة لأسباب عديدة أهمها المراهنة على علاقة زوجة بشار الأسد أسماء ببعض المؤسسات المالية الغربية، وبالتالي تقديمها كوجه جديد خاصة مع اقتراب حلول موعد تطبيق العقوبات المتعلقة بقانون سيزر”، يضيف فحام “لذلك بدأ منذ صيف 2019 بمحاولة تحصيل الأموال من شبكة الاقتصاديين القديمة وتحويلها لصالح الفريق الجديد من آل الأخرس الذي يتألف من أسماء وعمها طريف وابن خالتها مهند الدباغ رئيس مجلس إدارة شركة تكامل التي احتكرت مشروع البطاقة الذكية، كما أن هذا الفريق بات يمتلك شركة اتصالات تدعى إيماتيل”.
الخلاف بين نظام الأسد ورامي مخلوف حاليًّا لا يتعلق فقط بالضرائب، وإنما بعشرات مليارات الدولارات نقلها مخلوف على مدار 15 سنة إلى خارج سوريا، ويرى النظام أنه لا بد من استعادتها لدعم الاقتصاد.
انهيار النظام
توجد آراءٌ على الضفة المقابلة لنظرية تشكيل هيكلية اقتصادية جديدة للنظام برجال أعمال جدد، وتلك الآراء تقول بوجود تصدع فعلي في بنية النظام السوري الأساسية، خاصةً أن رامي مخلوف أحد أكبر ممولي النظام بحربه منذ اليوم الأول وهو ما أكده بأحد فيديوهاته، ناهيكَ بتجنيده لشباب من أجل القتال ويجري ذلك عبر العديد من مؤسساته، ولا ننسى أن فساد رامي مخلوف كان أحد عناوين هتافات المظاهرات في مارس/آذار 2011.
هذه النظرية التي تقول بانهيار في أجزاء النظام يؤيدها الباحث في المجال الاقتصادي خالد تركاوي الذي يرى خلال حديثه لـ”نون بوست”، بأنه لا يوجد إنتاج لمنظومة جديدة إنما هي بحسب وصفه “اشتداد لرياح الأزمة وضيق الحبل حول عنق النظام خاصةً أن الموارد تقل بشكل كبير، إذ إن الفساد كان يتمحور حول 22 مليون نسمة قبل الأزمة والآن لا يوجد نصف هذا العدد في البلاد”.
يضيف تركاوي أن من تبقى من شعب داخل سوريا “غالبية فقيرة”، وبالتالي لم يعد يستطيع النظام تحصيل موارد من خلال فساده على رقاب الناس هؤلاء، إضافةً إلى أن خيار إعادة الإعمار لم يعد متاحًا أمام النظام خاصة أنه كان معولًا عليه بشدة في السنوات الماضية ولكنه لم ينجح، وبحسب تركاوي: “كانت الحكومة السورية تتوقع دخول الاستثمارات الأجنبية مجددًا وهو الذي لم يحصل ولم يعد هنالك أمل من وجوده خاصة مع اقتراب تطبيق قانون سيزر، هذه الأسباب كلها دفعتهم لتحصيل مبالغ من مخلوف حتى لو كانت تلك المبالغ صغيرة ولا تمثل شيئًا في ميزانيات الدول”.
يفرق الأستاذ عباس شريفة بين الانهيار والسقوط، لكنه يؤكد أنه و”بلا شك أن النظام بدأ بالانهيار فعليًا” ويشير إلى أنه “غير قادر على تأمين الاحتياجات الأساسية للشعب الذي يحكمه وسعر صرف الليرة هبط لمستويات غير مسبوقة ومسألة مخلوف تأتي ضمن هذه السلسلة من الانهيار الاقتصادي الذي يعاني منه النظام”، لكن أهمية مخلوف وفقًا لشريفة تأتي كون الرجل من ضمن الدائرة الضيقة والعصبة الطائفية الحاكمة وهذا يعني ضربة في البيت الداخلي للنظام و”المعروف أن رامي له العديد من الأتباع داخل الطائفة العلوية والمؤيدين الذين يرون أن المشكلة بين رامي مخلوف رجل الأعمال العلوي المحسوب على الطائفة وجماعة أسماء الأخرس المحسوبة على الطائفة السنية وهو ما يعني إعطاء بعد طائفي للخلاف”.
رامي مخلوف جزء من النظام ومكون أساسي والسلطة كانت معتمدة عليه بشكل كبير وبالتالي فإن خروجه من السلطة يعتبر انهيارًا بجزء من أجزاء السلطة، ومخلوف ليس بـ”الشخص السهل” والحديث هنا لتركاوي الذي قال إن مخلوف “لديه أتباع ونفوذ وكانت له أعمال قديمة ولديه عشرات آلاف الموظفين في سوريا وهؤلاء من الممكن أن يكونوا نارًا تحت الرماد كورقة له”.
ضائقة اقتصادية
تكثر التحليلات والتكهنات إلا أنه يكاد يجمع المحللون والباحثون على أن أصل هذه المشكلة هي الضائقة الاقتصادية الخانقة التي يمر بها النظام السوري، وهو ما أشار إليه الباحث الاقتصادي خالد تركاوي بقوله: “السبب الرئيسي في هذه المشكلة له علاقة رئيسية بشح الموارد لدى النظام، وربما يدلل على ذلك أن موازنة عام 2010 لحكومة النظام السوري كانت 16 مليار دولار، فيما كانت موازنة عام 2011 تساوي 16.5 مليار دولار، أما بالنسبة لموازنة سنة 2020 فيمكن أن تصل إلى 3 مليارات دولار فقط و40% منها غير موجود من طرف الموارد الذي يوجد يكون في طرف الإنفاق وبالتالي يوجد عجز”.
هنا يجدر التساؤل من أين يجب على النظام أن يجلب الأموال؟ في الحالة الطبيعية وقبل سنوات كان لدى الحكومة السورية موارد عدّة كالنفط وتصدير الغذائيات والضرائب على الشركات والمؤسسات ومع بدء الثورة السورية لم يعد للنظام أي سيطرة على الكثير من هذه الأمور وخاصة النفط الذي أضحى بيد أمريكا، ومن موّل النظام السوري هم رجال الأعمال كرامي مخلوف.
كان مخلوف الوجهة التي يتجه إليها النظام لدعم نفسه، ومن أجل ذلك نرى رجل الأعمال السوري مخلوف يرفض وجود شخصيات غيره في الاقتصاد السوري، خاصةً أنه يعتبر نفسه الممول الأساسي خلال السنوات الماضية ولا يريد لأحد أن يستفيد الآن مما دفعه هو خلال العقد الماضي.
النظام بصدد إجراء مفاوضات مع رامي مخلوف للتخلي عن جزء من شركاته وأرباحه وثروته لصالح النظام وهو ما يرفضه مخلوف حتى الآن
إذًا المشكلة ليست مشكلة شخصيات إنما مشكلة أموال، والنظام الآن بحاجة للمال وأي شخص يستطيع أن يجلب ليرة للنظام فلن يرده، ويضرب تركاوي مثلًا على ذلك شخصية أحمد درويش الذي عمل بالتهريب بين مناطق النظام والمعارضة والنظام استوعبه وأحس بأنه مكسب له وهو الآن عضو مجلس شعب وكذلك حسام قاطرجي الذي كان يعمل بتهريب النفط بين داعش والنظام وهو الآن عضو في مجلس شعب.
هذا الكلام يؤيده الباحث عباس شريفة الذي يقول إن الفرضية الأقرب للواقع في تفسير ما يحصل بين رامي مخلوف الذي جمع ثروته من خلال استغلال وضعه العائلي والقرابة التي تربطه برأس السلطة، “تعود أساسًا للضائقة الاقتصادية التي يعيشها نظام الأسد والانهيار الكبير في قيمة الليرة السورية، واشتداد الخناق عليه، ما دفع النظام إلى الاستعانة برجال الأعمال الذين نمت ثروتهم بتسهيل من النظام نفسه”.
لكن على ما يبدو أن الطلبات كانت أكبر من قدرة مخلوف على الدفع أو أنه رأى فيها طلبات كبيرة ومجحفة، وهنا يمكن أن نقول إن المواجهة تطورت من مجرد طلب مبالغ مالية إلى الاستحواذ على ثروة مخلوف لصالح رجال أعمال مقربين من زوجة الرئيس أسماء الأخرس التي ترغب بنقل مراكز النفوذ والتأثير من يد رامي مخلوف إلى يدها، بحسب شريفة.
حاليًّا.. النظام بصدد إجراء مفاوضات مع رامي مخلوف للتخلي عن جزء من شركاته وأرباحه وثروته لصالح النظام وهو ما يرفضه مخلوف حتى الآن، وهذا يعني أن النظام ماضٍ بتنفيذ المطالب من مخلوف بالقوة، وفرضية الاستعاضة عنه بواجهات اقتصادية جديدة تعمل كقناة خلفية تساعد النظام في التهرب من العقوبات الاقتصادية واردة جدًا.