1ـ لا يشك منصف بأن المملكة هي قلب العالم الإسلامي، ومرمى أفئدة المسلمين، فمسؤوليتها لا تتعلق بشعبها فقط، بل تتعدى ذلك إلى الإحساس بأهمية دورها في بقاع العالم العربي والإسلامي.
2ـ وهذا العبء الكبير تطلب من الدولة القيام بأدوار مختلفة، سعياً منها لاحترام المكانة التي لها في قلوب المسلمين.
3ـ ولكن سياسة الحكومة -في نظر المراقبين- بلا هدف استراتيجي، وبلا قوة تحميها من أعاصير الفتن والمتغيرات التي تتشكل على نحو قد تتغير به خريطة العالم.
4ـ الدولة لن تحمي وجودها ما لم يكن لديها طموح الاستقلال وبناء القوة التي تحمي وجودها المستقل.
5ـ فالمسلمون في بقاع العالم يتطلعون إلى المملكة لتقوم بدور سياسي وحضاري ونهضوي، وينتظر منها تحقيق طموحاتهم وقيادة المنطقة ضد الهيمنة الاستعمارية الغربية عبر ذراعها المتمثل في الكيان الصهيوني من جهة، والتمدد الصفوي الإيراني من جهة أخرى، والذي نجح في تكوين جبهات مسلحة في لبنان واليمن والعراق وسوريا.
6ـ ليس بالضرورة أن تقوم بدور أكبر من إمكاناتها بتحدي المخاطر التي تحيط بها أو بالأمة، ولكن هو تذكير بأن إيران التي لديها طموح إمبراطوري وهلال شيعي وخليج فارسي قد بدأ بعض طموحها يصبح واقعاً على الأرض.
كتب جمال خاشقجي معلقاً على الأحداث السورية وخطر إيران القادم مقالاً هاماً بجريدة الحياة يقول:
“… نعود جنوباً نحو الرياض، هادئة مغبرة، ولكنها قلقة بعدما حُسمت المعركة لمصلحة بشار الأسد وحلفائه، تعلم أنه انتصار إيران ومشروع الخميني القديم وليس انتصاراً لبشار الذي أصبح مجرد ممثل للولي الفقيه. في دمشق، يقلقها تزايد النشاط الإيراني من حولها، تخشى على البحرين، الحوثيون باتوا مسيطرين بلا منازع على نصف اليمن الشمالي القديم، والجنوب اليمني الذي كان أهله حلفاء تقليديين للسعودية يتآكل تدريجاً لمصلحة إيران. اختفت مشاريع الوحدة الخليجية، فحتى بعض دول الخليج بات تحرص على إرضاء طهران حفظاً لما تبقى من سيادته. تلاشت فكرة السوق العربية المشتركة والهلال الخصيب، وسقط معها حلم إحياء سكة حديد الحجاز التي تمتد من إسطنبول حتى مكة المكرمة عبر سورية والأردن. حتى الأوروبيون باتوا يشترون النفط الإيراني الذي يصل إليهم عبر خط أنابيب عبدان – طرطوس، ويدرسون مع الإيرانيين ربط شبكة الغاز الأوروبي بنظيرتها الإيرانية. نسوا عقوباتهم القديمة، فالعالم يفضل التعامل دوماً مع المنتصرين”.
ويواصل: داخلياً موجات هائلة من الغضب وسط الشباب الذي يشعر بأن حكومات المنطقة فشلت في التصدي للمشروع الإيراني. يموج الشباب بحالة احتقان طائفي شديد. تزيد الطين بلة ضغوط اقتصادية. أفكار التطرف انتشرت وانشغلت الأجهزة الأمنية بتعقب أكثر من تنظيم. كابوس مخيف… أليس كذلك؟ لذلك أعتقد بأن السعودية تحديداً لن تسمح بانتصار إيران في سورية…”.
7ـ من مصلحة المملكة أن تفكر في مستقبلها الخارجي بمشروع يحميها من قيود الدول الكبرى، ويحقق لها الاستقلال. فالأيام القادمة حبلى بالملاحم الطائفية، وإيران لن تتراجع عن مشروعها الفارسي في المنطقة. والعالم لا يفضل التعامل مع المنتصرين فقط، بل يتآمر مع خصومنا لأجل مصلحته، ولن تبقى مصلحة أمريكا دائمة في الشرق الأوسط.
الجميع لا يزال يستذكر أن أمريكا التي كانت في يوم من الأيام مع العراق ضد إيران في الثمانينيات الميلادية، هي أمريكا التي سلمت العراق لإيران في الألفين الميلادية كما صرح بذلك وزير الخارجية سعود الفيصل قبل ثمانية أعوام في 27 سبتمبر 2005م، الوزير الفيصل يؤكد أن المنطقة ستدفع ثمن السياسة الأمريكية في العراق، بل ستدفع إلى كارثة، ونحن العرب سنجر إلى الصراع.
الوزير لم يكتفِ بذلك، بل قال بمرارة للأمريكان: “لقد خضنا معاً حرباً لإبعاد إيران عن العراق بعد إخراج العراق من الكويت، والآن نحن نسلم البلاد كلها إلى إيران من دون مبرر”. ثم يواصل: “الإيرانيون يذهبون إلى المناطق التي تؤمنها القوات الأمريكية، ويدفعون أموالاً وينصبون حلفاءهم وينشئون قوات للشرطة، ويسلحون الميليشيات هناك، ويحتمون أثناء قيامهم بكل هذا بالقوات الأمريكية والبريطانية”.
في ذات السياق كتب الدكتور خالد الدخيل الأكاديمي والباحث في الشؤون السياسية مقالاً ينبه فيه لخدلان الأمريكان للرياض، وفشل السياسات الخارجية التي بدورها مكنت لإيران من اغتنام العراق. ومن أهم ما ورد في مقاله:
ـ إن أوباما لم يعد يأبه بالدور الروسي والإيراني أو بأعداد القتلى في سوريا وما يجره ذلك على مصالح أصدقاء أمريكا في المنطقة. وهو ما خشي منه الفيصل وبدأ يتحقق.
ـ الصمت الإسرائيلي والحرب على حدودها يؤكد أن مصلحة إسرائيل وأمنها يقع في القلب من قرار الإدارة الأمريكية.
ـ إن واشنطن التي سلمت العراق لإيران لم تأبه لمصالح الحلفاء. وتصريحات الفيصل تؤكد أن واشنطن لم تأخذ في اعتبارها مصالح الرياض لا حينما تواطأت وتقاسمت النفوذ مع إيران، ولا عندما رسمت سياساتها في احتلال العراق، والشيء نفسه يتكرر في موقف أوباما الذي يتخذ موقفاً متردداً من الحدث السوري. وهي تصطف مع إسرائيل في موقف مدمر للجميع.
ـ إن واشنطن تدرك الانقسام الطائفي في المنطقة وهي تفضل بعد الحادي عشر من سبتمبر كسر هيمنة السنة على الحكم في المنطقة، ولذلك أعطت حكم العراق لحلفاء إيران الشيعة.
ـ بات من الواضح أن السياسة الخارجية السعودية ليست أمام تحد إيراني فقط، بل أمام تحدي السياسات الأمريكية التي أدت لفشل طموحات السعودية في خروج إيران من العراق، وهي تواجه اليوم سياسات أمريكية قد تؤدي إلى تسليم سوريا لإيران، مما يجعل الفشل السياسي الخارجي مضاعفاً، ومؤلماً على مكانة السعودية داخل العالم الإسلامي، وهو يؤكد أن السياسات الأمريكية لا تأبه بمصالح حلفائها. وإذا أضيف إلى ما سبق فشل السياسة السعودية في لبنان وبروز حزب الله كقوة عسكرية ضاربة تحت إمرة القيادة الإيرانية، وعدم استقرار اليمن والبحرين، فإن المملكة هي الخاسر الأكبر.
ـ ويعود سبب الفشل السياسي إلى سياسات المجاراة والمسايرة لكسب مواقف الآخرين وليس إلى مراكمة أوراق ضغط… وإلى عدم استنادها لقوة عسكرية تتناسب مع حجم المصالح ودور المملكة.
ـ النتائج على المدى المتوسط والبعيد ليست في صالح المملكة، فبفضل أمريكا خرجت العراق من المعادلة الإقليمية، وأدخل النظام السوري في أتون حروب أهلية مدمرة، وفتح الباب أمام نفوذ إيراني، ومصر لم تعد قوة إقليمية، بسبب أزماتها الحالية والمستقبلية، ولم يبق في دول المشرق العربي الكبرى إلا المملكة. وهي متغيرات تشير إلى أن خريطة التوازنات والخريطة السياسية وربما الجغرافية للعالم العربي ستختلف عما كانت عليه قبل ثورات الربيع العربي. ويضاف إلى ذلك تراجع السياسات الأمريكية في المنطقة، وانتقال بؤرة اهتمامها من الشرق الأوسط إلى جنوب شرق آسيا.
ـ يفرض كل ذلك على المملكة مراجعة سياساتها الخارجية والاستراتيجية، ولأن السياسات الخارجية امتداد للسياسات الداخلية، فإن ضعف السياسات الخارجية انعكاس لضعف سياسي وإداري واستراتيجي أشمل في الدولة، وله علاقة مباشرة بمفهوم الدولة لأمنها الوطني وطبيعة علاقاتها مع مجتمعها والعلاقة مع سلطاتها ومؤسساتها الدستوري.
9ـ لقد كتب الكثير من المفكرين والعلماء والمثقفين في لفت الانتباه للأخطار والمطامع الخارجية، منذ عبد الله الطريقي أول وزير نفط سعودي وحتى د.عبد العزيز الدخيل وكيل وزارة المالية السابق الذي نبه إلى المستقبل الكارثي المجهول من الناحية الاقتصادية وهي لا تزال تعتمد على 93% من مداخيلها على النفط في ظل ظروف دولية متغيرة ومصادر طاقة بديلة، بما يعني أن سبب بقاء الدولة هو النفط لا غير، ولا توجد لديها أسباب كمكتسبات أخرى للتماسك والبقاء، وبما يعني أن انخفاض أسعار النفط قد يضع الدولة في حرج كبير، فالعلاقة بالمواطن ليست علاقة شراكة في مسؤولية القرار، فيتحمل المواطن جزءاً من الفشل لأنه شريك، وعادة الشريك أن يدافع عن شركته في السراء والضراء.
أما عبد الله الطريقي وزير النفط السابق: فقد كتب عدة مقالات نُشرت منذ العام 1971م ونبه فيها إلى خطر القوى الاستعمارية ممثلة في أمريكا وانجلترا وإيران الشاة وإسرائيل، وقدم للدولة النصائح تلو النصائح عن خطر بقاء العرب مشتتين دون وحدة تلم شتاتهم وفرقتهم. كما نبه الطريقي وغيره على الدور الإيراني منذ الصراع العربي الإسرائيلي وتزويد إيران إسرائيل بالنفط الإيراني، ونبه إلى تخويف الغرب المستمر بإيران كأحد وسائل الضغط من أجل الهيمنة، وانتهى إلى القول بأن وحدة العرب إن لم تتم فمن غير المستبعد أن يجد العرب أنفسهم يموتون عطشاً وجوعاً في الصحراء بسبب المطامع الإيرانية والإسرائيلية في المنطقة.
كل هذه الكتابات لم تلاق صدىً أو تأثيراً أو حواراً داخل الجهاز السياسي، بل واجه أصحابها التهميش والإبعاد من أصحاب القرار. وربما أسيء الظن بمن كتب أو ناصح، ولكن الشمس لا يمكن تغطيتها بغربال، فأمريكا لن تدوم، ومصالحها أهم من بقاء الكيان السعودي، وهي لا زالت تخطط وتبحث عن بديل النفط الخليجي، وإيران قد نالت بعض استقلالها، وهي تبني قوتها الجديدة معتمدة على سواعدها في الداخل، وعلى التغيرات الدولية، والمصالح المشتركة. ونحن لا نطالب الدولة إلا بالتفكير الجاد في المستقبل. فالآخرون يفكرون في مصالحهم، ونحن لسنا بأقل منهم.
** ** **
أما ما يتعلق بالسياسة الداخلية:
1 ـ فالمرحلة الحالية والقادمة ستكون مرحلة الدولة التعاقدية بين الحاكم والمحكوم التي تقوم على مفاهيم المساواة في الحقوق، والمشاركة الشعبية، وتحقيق المطالب الإنسانية الكبرى كالعدل والحريات الأساسية، للوصول لمرحلة الدولة الدستورية.
2ـ قد تنجح بعض الدول التي تعرضت للثورة في التحول السياسي وقد تتأخر، وقد تطول المراحل الانتقالية، إلا أن من المجمع عليه أن المنطقة العربية بدأت فصلاً جديداً في الإصلاح السياسي، يرتوي بتأييد شعبي داخلي، ويجد له امتداداً أفقياً داخل كل دولة، وقد ينتهى إلى استنساخ تجارب سياسية يعلو فيها صوت الشعب.
3ـ والسؤال المحوري: هل ستنجح سياسة الدولة بالتفرد بالقرار في ظل محيط عربي بدأ عملياً بالاتجاه للمشاركة السياسية ومواجهة التفرد بالسلطة؟
4ـ لدى الحكومة قناعة راسخة بمركزية القرار السياسي لإدارة الدولة.
5ـ وهي قناعة تولدت بحكم الطابع الأمني الذي طبع شخصية الدولة، وبحكم التجربة الطويلة التي خاضتها في مواجهة كافة أشكال المعارضة مع سياسة التفرد، أو من ينتقد الدولة أو يطالبها بالتغيير.
6ـ ولا يعني إيمان الدولة بمركزية القرار أنها على خلاف جذري مع الإصلاح.
7ـ لكن الدولة لا ترى الإصلاح إلا بمركزية القرار فقط، وهي وترى أن المطالب الإصلاحية التي تطالب بتوسيع المشاركة الشعبية المتدرجة، والتحول لدولة دستورية، وفصل رئاسة الوزراء عن الملك، وفصل السلطات الثلاث، ومجلس شورى منتخب يمثل كافة توجهات الشعب، وحكومة منتخبة، وجهاز رقابي شعبي مستقل عن الدولة، والسماح بجمعيات مدنية مستقلة لحقوق الإنسان، وتحويل الدولة لدولة حقوق ومؤسسات، ولكافة أوجه ونشاطات المجتمع المدني… تنظر إليها كمطالبات لا تستحق الالتفات أو حتى الحوار حولها.
8ـ مركزية القرار في إدارة الشؤون العامة، لا يعني عدم الإيمان بالإصلاح، والتطوير والتنمية الشاملة، والتطلع للريادة في مجالات الحياة المختلفة… مع محيطها العربي والدولي والإسلامي.
9ـ إلا أن ذريعة الإصلاح التي تراها لتحقيق الإصلاح تتجسد كما سبق في التفرد بكامل القرار، والتصدي لكافة الجهود الإصلاحية التي تطالب بالمشاركة.
10ـ وبما أن لكل شيء مهما اختلفنا حوله إيجابياته:
11ـ فمركزية القرار السياسي نجحت نسبياً في تحقيق الاستقرار السياسي على مدى عقود طويلة، شهدت البلاد خلالها بعض المنحنيات السياسية الداخلية والخارجية، ولكنها لم تؤثر في بنية النظام السياسي.
12ـ ولأن الدولة استطاعت التصدي للحركات المسلحة في الداخل، وإخماد جميع الأصوات الإصلاحية السلمية، فلا زالت تشير تلك الحوادث كشاهد ودليل على صمودها، ونجاح سياستها الداخلية في تجاوز العواصف التي تضاف لرصيد النهج السياسي المركزي.
13ـ هذه النجاحات النسبية أكدت لدى الدولة صحة النهج السياسي السعودي، والتي عززت ثقتها لمواصلة ذات النهج المركزي، مهما كانت المعطيات الجديدة على الساحة العربية والدولية.
14ـ وهنا تكمن المعضلة، فالنجاح النسبي الذي تحقق في الاستقرار السياسي لم يُحقق معه تنمية اقتصادية شاملة، ولم يحقق معدلات نمو تتلاءم مع واردات الدولة النفطية، ولم يكن لسلطة التفرد بالقرار تأثير في منع الانتهاكات الحقوقية التي تزايدت سنة بعد أخرى، كما تؤكدها كثير من التقارير الدولية وتقارير جمعية حقوق الإنسان السعودية، وتواتر شهادات الموقوفين.
15ـ بل وجميع الإصلاحات الداخلية التي بدأت في عهد الملوك السابقين -رحمهم الله- واستمرت في عهد الملك عبدالله -حفظه الله- لم تؤثر في تخفيف حدة الانتهاكات الحقوقية التي تراكمت، ولم تؤتِ إصلاحاً حقيقياً لمؤسسة القضاء والتعليم والصحة…، ولم تُثمر التحول من الدولة الريعية لدولة إنتاجية والدولة الصناعية والريادة الاقتصادية التي تنعكس على انخفاض معدلات الفقر والبطالة، أو الوصول لمعدلات تنمية حقيقية تعكس ثروة الدولة الهائلة، بل أصبح الفساد المالي والإداري لا يقل خطراً عن بقية التهديدات التي تتعرض لها الدولة، ومعدلات الفساد بأنواعه والجريمة تتزايد وتتراكم سنة بعد أخرى.
16ـ كما وصلت معدلات الفقر حالياً كما في تقرير وزارة الشؤون الاجتماعية إلى 22%، وفي أحد تقارير جريدة الاقتصادية: 4% من الشعب يملكون 78% من الثروة، وهي نسبة تراكمت عبر عقود من الزمن، دلت بوضوح على سوء توزيع الثروة، واستئثار طبقي في أكبر دولة مصدرة للبترول، ورابع دولة في احتياطي الغاز. وكل ذلك يضع الدولة في حرج مستقبلي في حال انخفاض أسعار النفط أو حدوث تغيرات عالمية في مصادر الطاقة، أو تغيرات إقليمية ودولية، أو تبدل في مراكز القرار الدولية.. فمن الواضح أن العامل الأساسي للبقاء هو النفط، ولا توجد عوامل أخرى تدعو للتماسك والبقاء.
فالعلاقة بين الدولة والمواطن علاقة مرتب وسكن وعلاج وطعام، وليست علاقة مسؤولية مشتركة، تتطلب تقسيط التبعة وتوزيع الفشل على الحاكم والمحكوم في حالة حدوث اضطرابات داخلية.
17ـ الدولة قبل مجلس الشورى وبعده لا يكاد المتابع يجد فيها فرقاً مؤثراً في بنية القرار السياسي، أو في إصلاحات داخلية تخفف معاناة المواطن في شؤونه المعيشية والصحية والتعليمية.
** ** **
18ـ إن إصرار الدولة على نهجها القديم في التفرد التام بالقرار، والتصدي للجهود الإصلاحية السلمية بالمواجهة الأمنية.. يأتي في ظل معطيات متعددة يمكن رصدها على النحو الآتي:
أولاً: في ظل تحولات عربية ذات أصداء عالمية وليست فقط عربية/عربية.
ثانياً: في ظل تزايد الوعي العام بالحقوق وتنوع أساليب الإصلاح.
وثالثاً: في ظل تشجيع قوى مختلفة محلية ودولية، وتأييد لمسار المقاومات السلمية التي تطالب بالتغيير والإصلاح، وهو تحدٍّ لأنظمة الدول التي لازالت تمنع وتحرم أدوات التعبير السلمي.
وهذا التأييد مشجع أساسي للإصلاح، فلم يعد يبالي الكثير من الشباب على وجه الخصوص بالرفض الداخلي المحافظ، أو بفتاوى الممانعة، أو بنوايا الدولة لمزيد من التشريع لحماية سلطة القرار المركزي.
فالترحيب الشعبي العام بالمنهج السلمي، وتضامن الإعلام الجديد بات حافزاً وحامياً لمطالب الإصلاح، ومتحدياً لقوانين أي دولة، ومحرجاً لها في المحافل الدولية والعالمية مهما بلغت البراجماتية الدولية مبلغها.
رابعاً: أن السبب الرئيس في قيام الثورات العربية يتمحور حول الاستبداد بالقرار السياسي، والتعنت والعناد في رفض وقمع كل مبادرات الإصلاح.
خامساً: أن الاستقرار السياسي الحالي قد تحقق في ظل معطيات تختلف عن واقعنا، وفي ظل سكون وهدوء عربي، وبغفوة حقوقية وسياسية عامة، مع تخلف في أكثر الميادين، وفي ظل إعلام حكومي ليس له منافس، مما ساعد الدولة على تحكمها التام بمركزية القرار، لكن الآن وقد اختلفت هذه المعطيات ولم تعد الدول تحتكر سلاح الإعلام في توجيه الشعوب، فهل سيتحقق الاستقرار السياسي الذي تريده الدولة بالتفرد بالقرار السياسي في ظل شعبية الوعي السياسي والإعلام مفتوح؟!
ألم يكن العامل المشترك بين الدول التي ثارت فيها الشعوب ذلك الطابع الأمني القمعي الذي تحكم بالقرار، واستأثر بشؤون الحياة، وانتهى إلى هروب وسجن وقتل وحرق وتفكيك لأنظمة محمية من أنظمة عالمية؟
سادساً: أدى التضامن مع المطالب الإصلاحية في الداخل والخارج، والإسناد الإعلامي من خلال أدوات الإعلام الجديد، إلى تعبئة الرأي العام في قضايا حقوقية، كقضية المعتقلين الأمنيين والسياسيين، وقضية الأراضي، وملف البطالة، والتوظيف، وحقوق المرأة،… ونحوها، وكل ملف من هذه الملفات يعبر عن شريحة اجتماعية وطبقة من طبقات المجتمع، وبمجموعها يصبح كل فرد من المجتمع له قضية مع الدولة.
وهذا يشير إلى القدرة على تجاوز أطر الدولة التقليدية في المنع والاعتقال والمحاكمات، وعلى إمكانية تحدي سلطة القرار المركزي، كما يشير إلى القدرة على تجاوز نمط الدولة القديم في الترهيب والترغيب، بما يعني أن حواجز الخوف الغليظة بدأت تتهشم، وهذا يعني:
– أن أدوات الدولة القديمة ومن أهمها سلطة القرار المركزي لن تؤتي مفعولها مع المعطيات الجديدة.
– كذلك يعني نهاية المجتمع الذي يخاف من سوط الحاكم، وبداية تشكل لمجتمع جديد يساير التغيرات الاجتماعية والسياسية الإقليمية والعالمية.
– كما يعني أن القمع والاعتقال أصبح أداة فاعلة في التغيير والإصلاح وتشكيل رموز وطنية لتصبح في المستقبل محل ثقة الجمهور في مقابل ضعف ثقة الرأي العام بكل أجهزة الدولة وحواشيها.
– ويعني أيضاً أن أدوات المطالبة السلمية لا يمكن إدانتها أو تبديعها أو تحريمها مهما كانت مساعي الدولة والفتوى، ولا يمكن مواجهتها وهي سلمية، فهي لا ترفع سلاحاً، وهي تواجه قمع الأمن بصدور مفتوحة، وهو أمر في غاية الإحراج مهما كانت المحاولات السياسية والدينية.
إن الدولة اليوم بكل ما أوتيت من قوة أمنية وعسكرية وأدوات إعلامية وتكنولوجية وقوانين جديدة تصنف العمل السلمي في الإرهاب.. سوف تعجز مستقبلاً عن ملاحقة التنوع في أساليب النقد المدجج بالسخرية، وسوف تصاب بالشلل في متابعة هدير الملايين التي تشاهد مقاطع اليوتيوب، وتشارك في مواقع التواصل الاجتماعي، وتعلق على المقالات، والمقاطع، وتقتني الكتب، وتتلقى التثقيف السياسي والحقوقي من مصادر متنوعة، وتتداول الكتابات والتعليقات الساخرة في وسائل الاتصالات الحديثة…
فالتدفق المعلوماتي الهائل سوف يجعل الدولة بلا قدرة على المتابعة الدقيقة، وهي اليوم تصبح وتمسي على حشد عام ضد السياسات الاقتصادية والمعيشية والصحية والخارجية.. إلخ.
سابعاً: لم تعد الوسائل التشكيكية والدعاية السوداء التي تنتهجها أجهزة الأمن تجدي أمام المد التوعوي، فالوعي ذاته قد فكك تلك الأفكار التقليدية التي لا زالت أجهزة الأمن تؤمن حتى اللحظة بكفاءة التشويه والدعاية السوداء ضد الرموز والتيارات في تخفيف الاحتقان.
ثامناً: إن سلطة القرار المركزي واجهت في السابق معارضة مسلحة، وأحياناً كانت تواجه معارضة سلمية نخبوية ليس لها امتداد شعبي، فيما تواجه اليوم سيلاً من الفرق الإصلاحية المتنوعة التي لا يربط بينها رابط محدد، وهي فرق من مختلف الأعمار من الجنسين.
تاسعاً: تحولات السياسة العالمية من دول راعية لأنظمة قديمة لدول باحثة عن حليف جديد.
عاشراً: وهو المعطى الأهم أن التسخط من الفساد والفقر والبطالة، لم يعد تسخطاً مجرداً، يطالب بحلول تقضي على الفساد، بل يتطور بشكل نوعي، ويرتبط التسخط بالوعي الإصلاحي والحقوقي والسياسي، فالعاطل، يطالب بوظيفة لأنها حق من حقوقه، وليست مِنّة من أحد، أو ليملأ بها بطنة.
ومحاربة الفساد ليست لأنها كارثة وطنية فقط، بل لأن الوعي السياسي والإصلاحي الجديد بدأ بثقيف الشعب بحق المشاركة المدنية والسياسية في إدارة الدولة، ومحاسبة كائناً من كان.
الحادي عشر: أن محاولات الجهاز السياسي بث الرعب من حركات الإسلام السياسي إن لم تسمع وتطيع لسلطة التفرد بالقرار، وإضافة خطر جماعة الإخوان للأخطار الأخرى التي تهدد أمن الخليج كالخطر الإيراني، وخطر القاعدة، وصناعة تيارات حكومية لحماية مركزية القرار سوف تنمي الكره والتعصب والبغض بين أبناء الوطن بالتصنيف والتقطيع والتفريق، وهي مقامرة سياسية؛ لسبب هام:
وهو أن الرهان على فشل حركات الإسلام السياسي لن يؤثر على قناعة الشعوب بالتخلي عن حقها في المشاركة السياسية، فهو وعي قد ولد، ولا زال في عنفوان شبابه، والثقة في حق المشاركة أكبر من الثقة في مركزية القرار التي تستند لمعطيات تاريخية تغيرت بتغير الزمن، وأكبر من الثقة في تلك التيارات المترهلة التي لا تعني شيئاً للجيل الجديد، ولو فقدت الشعوب الثقة في جماعة الإخوان وخسرت في تجربتها السياسية في كل الدول التي فازت فيها بالانتخابات، فلا زال الوقت مبكراً لدفن وعي الشعوب بالحقوق والإصلاح.
الثاني عشر: إن المفاهيم السياسية والحقوقية والقانونية قد دخلت الحيز العام، ولم تعد المداولات في نظريات الدولة الحديثة ونظريات الأمة مصدر السلطة، وتحول الدول من ملكيات مطلقة لملكيات دستورية مداولات خاصة في مجالس النخب المثقفة، بل أصبحت تكتسب مع الوقت المزيد من التداول الشعبي العام.
الثالث عشر: أن المجتمع السعودي على قناعة تامة بأن الحديقة الخلفية التي تغذي الإرهاب هو الفكر الوهابي الذي ترعاه الدولة، وتقدمه للغرب كبديل عن الإسلام السياسي في نسخته المعدلة. إلا أن النسخة الوهابية الأصلية والمعدلة قد تجاوزهما الوعي المجتمعي العام بمراحل، ولم يعد لدعاة السلفية الوهابية المعدلة سوى قوة النفوذ والسلطة لجبر المجتمع على الانقياد لمنهج طالما كان سبباً في خلق الانقسامات والتشدد في الداخل والخارج.
فداعش ليست سوى امتداد طبيعي للوهابية في نسختها الأصلية.
وأما النسخة المعدلة فلا زالت تعطي شرعية للدعوة الوهابية وتهاجم كل من ينتقد الدعوة، والمجتمع لم يعد يطيق الصبر على إسلام وهابي جاف، تارة يقتل ويكفر وتاره يبرر ويفتح الذريعة للاستبداد، ولا يستطيع الصمود إلا بسيف السلطة.
هذه بعض المعطيات العامة المتداولة في أوساط الناس وهي معطيات باتت تزاحم سلطة القرار المركزي الذي دام لعقود، وحقق بعض الاستقرار النسبي في ثبات كرسي الحكم.
وقد لا ترى الدولة والمحيطون بها أهمية كبرى لما سبق؛ لثقتها بأجهزتها الأمنية والإعلامية والدينية لمواجهة موجات الجهود الإصلاحية، ولإيمانها بالحلول “الترقيعية” التي تسترضي بها عامة الشعب دون وعي بأن جزءاً من عامة الشعب لم يعودوا عامة.
وأخشى أن تكون الدولة مستقبلاً أمام استجابة متأخرة تمنعها من القدرة على قياس دقيق لردود أفعال غير متوقعة لعدة أسباب:
أ ـ بسبب إصرار الدولة على منع الصدع بالحق الذي ينبه الدولة للمخاطر المستقبلية.
ب ـ وبسبب ثقتها اللامتناهية بقدراتها المختلفة التي ليس فيها خيار إشراك الشعب في القرار السياسي.
ج ـ بسبب الخيار الأمني والإعلامي والديني في التعامل مع الجهود الإصلاحية.
دـ وبسبب عدم القناعة بأن المجتمعات تخرج من طور وتدخل في طور جديد، له معطياته المختلفة التي توجب على صاحب القرار أن يتعامل مع الحاضر بأدوات الحاضر وبعقل المتغيرات.
أتمنى وافر الاستقرار للجميع، وأتمنى أن يحظى المطلب الإصلاحي السياسي والحقوقي والنهضوي الذي يتضمن مشاركات شعبية بالقبول، وأتمنى أن نتجاوز (الوهم) الذي يقول بأن كل شيء يسير على ما يرام، فالعجز والشلل في إصلاح الفساد والذي تسبب في تعطل المشاريع، وسوء الخدمات، واستفزاز مشاعر الناس بالتصريحات الباهتة والأجوبة المكررة، وتراكم الأخطاء التي تحولت لأورام سرطانية تصعب معها الحلول التقليدية القديمة.
نحن في مركب واحد ولو قدر الله تعالى لهذه البلاد الطيبة المباركة سوءاً قد يصيبها بسبب كثرة المظالم فيها، فالكل سيخسر.
كل أيادي المخلصين من الإصلاحيين ممدودة لأجل بقاء المملكة السعودية بلداً آمناً مستقراً يبني للمستقبل ويتحدى كل دول العالم في كل المجالات.
نُشر هذا الموضوع في موقع التقرير