تقتبس ألفارو كامبو في أحد كتبها عن المهاجرين العرب في المكسيك قصةً منسوبةً إلى المؤرخ الأمريكي أكرم فؤاد خاطر: “معظم هؤلاء الذين كانوا يركبون البواخر من بيروت لم يكونوا يعرفون سوى أنهم ذاهبون إلى أمريكا. ليس واضحًا ما إذا كانوا يعرفون الفرق بين الولايات المتحدة والمكسيك والبرازيل. كان أملهم الوحيد هو “الذهاب إلى أمريكا” لجمع ثروة والعود إلى ديارهم”.
وكان من بين هؤلاء، مهاجرون سوريون قطعوا شوطًا طويلًا نحو العالم الجديد، آملين أن يجدوا الثروات التي فتشوا عنها في بلادهم وحلموا بها، ولا تختلف تجربتهم في البحث عن مستقر آمن عن غيرهم من عرب الجنوب (الاسم الذي أطلق لاحقًا على المهاجرين العرب في أمريكا اللاتينية)، ولكن تفاصيل هجرتهم التي بلغت ذروتها بين عامي 1870 و1930 كشفت معلومات مثيرة للاهتمام في الذاكرة الشعبية، لا سيما أن الاقتصادات السورية بالتحديد حظيت بصدى واسع في الأمريكتين، فهم كانوا من فئة رواد الأعمال الذين سرعان ما تحولوا من باعة متجولين إلى أصحاب ملكية ورؤوس أموال هائلة من خلال افتتاح مصانع التطريز والدانتيل والقطن والحرير والجلود والخردوات أيضًا.
وبدأت هجرتهم إلى الأرجنتين عام 1876، وبلغ عددهم حسب إحصاءات الحكومة الرسمية عام 1914 نحو 139500، وبصفة عامة فإن معظم المهاجرين السوريين يعودون في أصولهم إلى الطائفة المسيحية الشرقية الروم الأرثوذكس، والسريان الأرثوذكس وطائفة الملكيين والطائفة الكاثوليكية وقلة من الطائفة البروتستانية، كما كان هناك حضور ملحوظ للطائفة الدرزية التي استقرت لاحقًا في فنزويلا، والطائفة العلوية التي انتقلت إلى الأرجنتين، حيث كان هؤلاء جزءًا من المهاجرين الذين تقدر أعدادهم بين 350 ألف و500 ألف مهاجر عربي وصلوا إلى الأمريكتين بين عامي 1880 و1926، حيث استقرت الغالبية منهم في الولايات المتحدة (165 ألف) والبرازيل (162 ألف) والأرجنتين (148 ألف)، ويمثل هذا العدد ما بين 18 و25% من إجمالي سكان سوريا العثمانية (بما في ذلك جبل لبنان).
بداية الرحلة
كانت المصاعب الاقتصادية في بلاد الشام والخوف من التجنيد تحت إدارة العثمانيين وإغراءات الرخاء والرفاهية في العالم الجديد هي العوامل الحاسمة لهذه الهجرة المبكرة، وإذا أردنا تناول هذه العوامل كل على حدة، فسنجد أن للركود الاقتصادي في سبعينيات القرن التاسع عشر دورًا جوهريًا في دفعهم إلى اتخاذ هذه الخطوة، بسبب ازدياد معدلات البطالة وتطبيق النظام الإقطاعي في الريف، مما زاد من نسب الفقر والحرمان في المنطقة، إذ يقول أحد المهاجرين السوريين الأوائل، بحسب كتاب “الحوار العربي الأمريكي: رؤية سياسية معاصرة”:
“كان كل شيء يدفعني لمغادرة حلب حيث الحياة من دون أي مستقبل، لم يكن بتلك المدينة ولو متجر واحد يفوق عدد المشتغلين فيه فوق عشرين شخصًا، ماذا يمكن أن يجد الإنسان هناك غير الفقر والحرمان؟”.
أما العامل الثاني، فقد أوضحنا تفاصيله وملابساته في تقريرين منفصلين من سلسلة ملف “أجدادنا المهاجرون”، والعامل الثالث يعود إلى استقلال واستقرار الدول اللاتينية في تلك الفترة وارتباط اسمها بالفرص الاقتصادية، وذلك بتآمر من التطورات في أنظمة الهجرة وتكنولوجيا البواخر والاتصالات والنقل بحلول عام 1836، وبالتزامن مع اختراع التلغراف وتطور الصحافة العربية التي شجعت إلى حد كبير المهاجرين العرب لاتخاذ هذه الخطوة بعد أن كانوا يعتمدون سابقًا بشكل رئيسي على المعلومات الشفهية التي يتلقونها من الدوائر والمعارف الشخصية.
بحلول العقد الأول من القرن العشرين، مثلت النساء أكثر من 35% من المهاجرين العرب بالعموم، وكان جزء كبير منهن يعملن في المنسوجات
إضافة إلى أن تكلفة تذكرة السفر صارت معقولة بالنسبة للأسرة السورية الطموحة في فترة ثمانينيات القرن التاسع عشر، مما أدى إلى زيادة الهجرة السنوية من سوريا العثمانية بشكل مطرد من تسعينيات القرن التاسع عشر حتى بداية الحرب العالمية الأولى عام 1914، وذلك إلى أن تحولت هجرة اليد العاملة إلى سمة أو ميزة دائمة للجغرافيا الاجتماعية في سوريا.
جدير بالذكر، أن الصحف العربية في ذاك الوقت كانت منشوراتها تحتوي بشكل رئيسي على إعلانات فرص عمل ودروس أساسية بشأن الثقافة الأمريكية، إضافة إلى بعض المعلومات عن أعداد وأوضاع الوافدين والمغادرين.
ولم يكن قرار الهجرة قرارًا فرديًا، بل تم اتخاذه على مستوى الأسرة كاملة، وبحلول العقد الأول من القرن العشرين، مثلت النساء أكثر من 35% من المهاجرين العرب بالعموم، وكان جزء كبير منهن يعملن في المنسوجات، وعادة ما كانت تجري خطة الهجرة ضمن عملية مدروسة تحددها إمكانية الوصول إلى شبكات رأس المال والمعلومات والثقة، لتحقيق طموحاتهم الاقتصادية التي أخرجت جيلًا كاملًا من أرض الوطن.
قيود سياسية
خلط ضباط الهجرة والمسؤولون بين المهاجرين العرب واجتهدوا في تصنيفهم، وكان العرب آنذاك مدركين للتمييز العنصري الذي قد يلحقهم لأنهم غير بيض أو غير مسيحيين أو آسيويين، وحتى عام 1899 ظلوا يُعرفون باسم “التركو”، لكن الضغط الناجح من المجموعات العربية الأمريكية، دفع الولايات المتحدة إلى إعادة تصنيف “السوري” كفئة خاصة بها في عام 1899.
الاندماج الاقتصادي كان مقدمة للاندماج الاجتماعي، يضاف إلى ذلك الورقة الاقتصادية وورقة تغيير الأسماء والكنية وعدم تمرير اللغة العربية الأم لأبنائهم وتدريسهم البرتغالية أو الإسبانية بدلًا عنها، إلى جانب تبديل المعتقدات الدينية
وسرعان ما حذت البرازيل والأرجنتين حذوها، لكن حتى مع وجود فئة قانونية جديدة، فإن ما يميز “السوري” عن “التركي” ظل غير مفهوم جيدًا في الأمريكتين قبل الحرب العالمية الأولى، وتحديدًا في الوسط الشعبي.
في هذا السياق يقول الأديب اللبناني ميخائيل نعيمة في كتابه “سبعون”: “حار المهاجرون العرب في بدء هجرتهم إلى أي الأمم ينتسبون. فهم بتبعيتهم أتراك، وبلسانهم عرب. ولكن كلمة “تركي” كانت تنطوي في أذهان أهل البلاد على شيء من الإهانة والتحقير. ولم تكن أفضل منها بكثير كلمة “عربي” فاختاروا أن ينتموا إلى سوريا لأنها القطر الأكبر من الأقطار الثلاثة التي نزحوا عنها. وهي لبنان وسوريا وفلسطين. ولأن اسمها معروف وقديم. أما في علاقاتهم بعضهم ببعض فما كان اللبناني يتخلى عن لبنانه، ولا الفلسطيني عن فلسطينه”.
علموا جميعهم في البداية كباعة متجولين، وحينها وصف أحد الشعراء المهاجرين الظروف الصعبة التي عمل بها المهاجرون آنذاك، قائلًا:
كم طويت القفار مشيا وحملي فوق ظهري يكاد يقسم ظهري
كم قرعت الأبواب غير مبال بكلال وقر فصل وحر
كم توغلت في البراري وقلبي سابح مثل زورق في النهر
كم تعرضت للعواصف حتى خلت أن الثلوج في القفر قبري
كم توسدت صخرة وذراعي تحت رأسي وخنجري وفوق صدري
وبعد تحسن أحوالهم، عملوا في إنتاج المنسوجات، كما كان يفعل الغالبية منهم في سوريا العثمانية، وهي الصناعات التي مهدت طريقهم للهجرة إلى الخارج، فقد وجد النساجون وصانعو الدانتيل الماهرون عملًا بسهولة في مصانع أمريكا الجنوبية، وقبل الوصول إلى وجهتهم الأخيرة اتخذ المهاجرون السوريون الأوائل مسارات واسعة، حيث قضى معظمهم أسابيع أو شهورًا أو حتى سنوات في بعض المدن التي تقع على الطريق مثل بيروت والإسكندرية والقاهرة ومرسيليا وبرشلونة، ولكثرة أعدادهم ظهرت صناعة ثانوية لوكالات الهجرة والسماسرة المتخصصين في تسهيل متطلبات أوراق السفر والتأمين ومساعدة الوافدين الجدد على إيجاد عمل.
مهاجران من سوريا، في بوينس آيرس، الأرجنتين عام 1906
بحلول تسعينيات القرن التاسع عشر، ظهرت تجمعات سورية في بوينس آيرس وساو باولو، وعندها بدأوا في مواجهة مجموعة مختلفة من التحديات التي تشمل الحوافز الاقتصادية وقيود الهجرة والتدقيق السياسي، وتبدأ القصة من عام 1920 حين قيد الانتداب الفرنسي في سوريا ولبنان حركة الهجرة الجديدة، وعمل بشكل مباشر ومتزايد مع وكالات الهجرة في كلا الأمريكتين لوقف هجرة العمالة العربية، ولكن تمكن المهاجرون من مواجهة هذه التقييدات وإدارة تبعاتها الاقتصادية باستخدام الصحافة العربية الأمريكية والمساعدة المتبادلة للمغتربين والمجتمعات الخيرية.
حاليًّا يوجد بالأرجنتين ثاني أكبر عدد من السوريين في أمريكا الجنوبية بعد البرازيل، بسبب ما ذكرناه من موجات الهجرة السابقة، إضافة إلى ما واجهته البلاد في السنوات الأخيرة بسبب الأزمة وتفاقمها
وكانت محاولات وقف الهجرة السورية واللبنانية الجديدة على حد سواء إلى الأمريكتين مصدر قلق رئيسي للانتداب الفرنسي، لأن الفرنسيين رأوا رحيل العمال إلى الخارج بمثابة استنزاف اقتصادي وديمغرافي للإدارة التي بنوها هناك، ولمنع ذلك وضع المفوض السامي لبيروت سياسات لتقييد مغادرتهم عبر الموانئ، وللتحفيز على إعادتهم من الخارج تعاونت مع البلدان المستقبلة.
حينها نسق الانتداب الفرنسي مع السلطات الأمريكية بترحيل الوافدين، وتكمن أكبر آثاره على الهجرة العربية في إنشاء سوق للهجرة السرية إلى الولايات المتحدة (عادة عن طريق عبور الحدود البرية مع المكسيك) وتوجيه معظم المهاجرين العرب نحو المحجر الجنوبي، وبشكل رئيسي إلى البرازيل والأرجنتين، وبحلول عام 1926، كان عدد المجتمعات العربية في أمريكا اللاتينية يفوق عدد سكان الولايات المتحدة، مما جعل المهجر الجنوبي أكثر أهمية نسبيًا.
وحاليًّا يوجد بالأرجنتين ثاني أكبر عدد من السوريين في أمريكا الجنوبية بعد البرازيل، وكان المهاجرون من حمص هم الأكثر عددًا بين السوريين في أمريكا اللاتينية، حيث أنشأوا العديد من الجمعيات بين عامي 1910 و1930، مثل جمعية شباب حمص الخيرية في سانتياغو دي تشيلي، ونادي حمص في ساو باولو عام 1920، وجمعية شباب حمص في بوينس آيرس عام 1925.
كما أنشأ أول المهاجرين الذين أسسوا مؤسساتهم الدينية الخاصة مؤسسات وطنية في الخارج، كما تأسست دار الأيتام السورية في ساو باولو عام 1923 من مجموعة من الشباب، جميعهم من مدينة حمص.
وظل المهاجرون السوريون مخلصين لدينهم وهويتهم العربية، بالإضافة إلى علاقاتهم العائلية عبر الشتات من خلال هذه الأنواع المختلفة من المنظمات المحلية والوطنية في أواخر العهد العثماني وخلال فترة الانتداب الفرنسي.
لكن مع انضمام جزء كبير من المهاجرين وأحفادهم تدريجيًا إلى الطبقة الوسطى والعليا من مجتمعاتهم المضيفة، ومزاولة مهن مختلفة مثل الطب والهندسة والمحاماة، بدأت الأواصر الثقافية تخف وتقل، ولا داعي للقول إن الاندماج الاقتصادي كان مقدمة للاندماج الاجتماعي في التربة اللاتينية، وذلك بعد سنوات من التهميش والتصورات السلبية، يضاف إلى الورقة الاقتصادية، ورقة تغيير الأسماء والكنية، وعدم تمرير اللغة العربية الأم لأبنائهم وتدريسهم البرتغالية أو الإسبانية بدلًا عنها، إلى جانب تبديل المعتقدات الدينية، مثلما فعل الرئيس الأرجنتيني الأسبق كارلوس منعم، السوري الأصل الذي اعتنق الكاثوليكية وقال معلقًا على ذلك الأمر: “كان والداي مسلمين، يصومان رمضان ويؤديان الشعائر بقية الشعائر، ولكنهما لم يطلبا منا أبدًا اعتناق الإسلام وإنما تركا لنا الحرية المطلقة لاختيار الديانة التي نريد، لذا أنا لم أتخل عن الإسلام لأنني لم يسبق لي أن كنت مسلمًا”.
وبذلك مرت علاقة العرب المهاجرين بالدول اللاتينية بمراحل عديدة على صعيد القبول الاجتماعي، حيث بدأت بالتهميش والتمييز في عهد الجيل الأول، ثم التعايش والتكامل، مرورًا بالاندماج والانخراط، وصولًا إلى الذوبان والانصهار في عهد الأحفاد، ما تسبب في اختفاء الهوية والعادات والموروثات الثقافية الأصيلة لبعض المجموعات المهاجرة، مع الحفاظ على بعض الجوانب مثل الموسيقى والمطبخ.