فرضت أزمة كورونا ظروفًا استثنائية وتحديات قاسية على جميع دول العالم، بما في ذلك أكثر الدول تقدمًا وثراءً، ولكن المخاوف تضاعفت حدتها في البلدان التي تعاني بالأساس من أزمات داخلية ومشاكل اقتصادية، حيث طرحت العديد من التساؤلات والسيناريوهات حول مصير قطاع غزة في هذا السياق، ولم تكن المعطيات والتوقعات إيجابية، بل زادت الأجواء توترًا دون وجود سبيل لمواجهتها أو تجنبها، لا سيما مع استمرار الحصار الإسرائيلي في تضييق الخناق على سكان أهالي القطاع منذ 13 عامًا.
نلقى الضوء على هذه المسألة بشكل أوسع في حوار خاص لـ”نون بوست” مع الطبيب محمد عبد القادر أبو ريا الذي يعطينا نظرة أقرب للواقع الصحي في قطاع غزة ومدى جاهزيته لمواجهة فيروس كورونا المستجد؛ خصوصًا مع تسجيل أول حالة وفاة بكورونا في القطاع وظهور حالات إصابة جديدة.
محمد عبد القادر أبو ريا، طبيب حاصل على بكالوريوس الطب والجراحة العامة، مع درجة الماجستير في الصحة العامة وعلم الأوبئة، حاصل أيضًا على دبلوم عالي في صحة الطفل والأغذية، ودبلوم آخر في إدارة الأزمات. عمل في مؤسسات حكومية ودولية في مجالي الصحة والصحة العامة، وشارك في إعداد بعض البروتوكولات الصحية وتحديدًا في مجال الطوارئ والدراسات والخطط الإستراتيجية، وهو عضو في جمعية أرض الإنسان الفلسطينية الخيرية، وعضو مجلس إدارة مدرسة أزهار فلسطين للتعليم الخاص (الأطفال أصحاب المتلازمات الصحية)، واستشاري في جمعية العون والأمل لرعاية مرضى السرطان.
كيف تصف الواقع الصحي في قطاع غزة؟
الواقع الصحي في قطاع غزة مرّ بأربع مراحل أساسية أدت إلى هشاشته؛ الأولى الحصار الإسرائيلي المستمر، الثانية الإنقسام الفلسطيني الطويل، الثالثة وقف الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (يو أس إيد) عن دعم القطاع الصحي في فلسطين، أما الأخيرة فهو تقليص دعم الدول المانحة لوكالة الغوث وتشغيل اللاجئين.
ي نهاية مارس/آذار الماضي، تم البدء بتجهيز مستشفى الصداقة التركي في قطاع غزة الذي تم انهاء إنشائه عام 2017
أثرت هذه العوامل بشكل كبير على الوضع الصحي في الضفة والقطاع تحديدًا، ووضعت الجهاز الصحي أمام تحديات انعكست على أدائه في تقديم الخدمات للمواطن، وازداد العبء الآن في مواجهة خطر فيروس كورونا المستجد.
ويمكن الحديث بلغة الأرقام بالاستناد إلى تقرير وزارة الصحة الفلسطينية السنوي 2018-2019، ففي العام 2018 بلغ عدد الكوادر البشرية الطبية المسجلة في النقابات الطبية المختلفة في قطاع غزة 7.441 كادرًا بنسبة 23.3% من مجمل كوادر فلسطين ككل، وتتوزع هذه الكوادر على كل من وزارة الصحة، والمؤسسات الصحية غير الحكومية، والخدمات الطبية العسكرية، ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (UNRWA )، والقطاع الخاص.
فيما بلغ عدد الأطباء العاملين في مختلف مراكز ووحدات وزارة الصحة 2.525 طبيبًا، بمعدل 5.2 أطباء لكل 10.000 نسمة من سكان فلسطين، بمعدل 4.6 طبيبًا في الضفة الغربية و6.1 طبيبًا في قطاع غزة، يتوزعون حسب الاختصاص.
كما بلغ عدد الممرضين والقابلات العاملين في وزارة الصحة 4.362 ممرضًا وقابلة، 1.330 أي 30.5% في قطاع غزة، موزعين حسب الاختصاص إلى 3.911 ممرضًا بمعدل 8.1 لكل 10.000 نسمة، و41 قابلة بمعدل 0.9 لكل 10.000 نسمة، بينما يوجد 13 مستشفى من مستشفيات وزارة الصحة في قطاع غزة؛ حيث يبلغ عدد أسرة مستشفيات وزارة الصحة في قطاع غزة 1664 سريرًا.
وبالنظر إلى هذه الأرقام التي تترجم قلة الإمكانات والخبرات الطبية، فإن انتشار الفيروس المستجد ليس خبرًا سارًا للاثني مليون فلسطيني في القطاع، لأن الجهاز الصحي في وضعه الطبيعي، قبل ظهور فيروس كورونا، يعاني من الضعف الشديد، بسبب كل تحديات العجز التي تشمل نقص الأدوية والعلاجات (قد يبلغ حجم النقص نحو 50% في بعض الأحيان) والأجهزة الطبية وانقطاع التيار الكهربائي المتواصل.
حاليًا تعمل مستشفيات القطاع على استقبال الحالات وتجري لها الفحوصات اللازمة، ولو ثبتت الإصابة يتم تحويل هذه الحالات إلى المستشفى الأوروبي جنوب القطاع،
ما تقييمك لاستعدادت غزة لمواجهة فيروس كورونا؟
وقف الحظ في صف غزة لأول مرة في تاريخها، لأنها خالية نوعًا ما من فيروس كورونا، حيث أن الإصابات كانت بين القادمين من خارج القطاع، وذلك بفعل الإجراءات المبكرة التي اتخذتها وزارة الصحة، في محاولة السيطرة على الجائحة. ومن الجدير ذكره أن الضفة والقطاع، كانت من أوائل المناطق التي بدأت باتخاذ خطوات جدية، ونجحت إلى حد كبير في التغلب على انتشار فيروس كورونا، وذلك بشهادة منظمة الصحة العالمية.
ويمكن الحديث هنا عن تجربة فلسطينية ناجحة. ففي فبراير/شباط الماضي، تم افتتاح مراكز حجر صحي في خانيونس ورفح جنوب القطاع عند معبر رفح على حدود مصر، وفي شمال القطاع عند الحدود مع “إسرائيل”، مع تخصيص بعض الفنادق لاستقبال المسافرين القادمين من الدول التي تفشى فيها الفيروس، كالصين وإيطاليا وإيران، وتم فرض الحجر الإجباري على العائدين لمدة 14 يومًا، فضلًا عن إغلاق أماكن العمل والمدارس.
وفي نهاية مارس/آذار الماضي، تم البدء بتجهيز مستشفى الصداقة التركي في قطاع غزة الذي تم انهاء إنشائه عام 2017، وتخصيص مقدَّراته لتعزيز قدرة المنظومة الصحية في مواجهة كورونا، بموافقة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، فضلًا عن إرسال تركيا المساعدات الطبية للفلسطينين في الضفة والقطاع.
ويُعتبر هذا المستشفى بعد افتتاحه، من أكبر المشافي في فلسطين، حيث تحدثت التقارير أن مساحته تبلغ حوالي 44 ألف متر مربع، ويضم 8 بنايات، ويحتوي على 4 صالات كبرى مخصصة لإجراء العمليات ووحدات العناية المركزية ومختبرات، إلى جانب و18 غرفة للمرضى.
تم تدريب الكوادر الطبية قدر الإمكان على محاكاة التعامل مع مرضى فيروس كورونا، ورعايتهم ومتابعتهم
هل مستشفيات القطاع جاهزة للتعامل مع الفيروس؟
يمكننا القول إن المستشفيات جاهزة مرحليًا، ولكي لا يتدهور الأمر إلى سيناريوهات كارثية، أرى أن الحل الوحيد أمام مستشفيات قطاع غزة هو الوقاية، خصوصًا وأن تأخر وصول فيروس كورونا إلى القطاع، أكسب الجهاز الصحي الوقت لإجراء بعض التجهيزات الإضافية لمواجهة الفيروس وحصره.
وحاليًا تعمل مستشفيات القطاع على استقبال الحالات وتجري لها الفحوصات اللازمة، ولو ثبتت الإصابة يتم تحويل هذه الحالات إلى المستشفى الأوروبي جنوب القطاع، الذي تم تجهيزه كمستشفى رئيس لاستقبال الحالات المصابة بفيروس كورونا بجميع مستوياتها الثلاث من البسيطة الى الأكثر خطورة.
كما تم تدريب الكوادر الطبية قدر الإمكان على محاكاة التعامل مع مرضى فيروس كورونا، ورعايتهم ومتابعتهم، وكيفية إجراء المسح لتشخيص الحالات، ولكن المشكلة تكمن في قدرة المستشفيات على مواجهة هذا الوباء في حال تفشيها بصورة أوسع في القطاع، فالأمر ليس متعلقًا فقط بعددها، وإنما بالإمكانات والمؤهلات التي تملكها لصد هذا الخطر.
علمًا، أن الإسعاف الفلسطيني مجهز قدر الإمكان لنقل الحالات، ولكنه يفتقر إلى المواد المعقمة والكحوليات، وملابس وقاية الأوبئة، وكذلك لأفضل أنواع الكمامات.
أنوه أن جميع المؤشرات حول تفشي الفيروس في “إسرائيل” ومصر، هي مؤشرات مقلقة للقطاع وتنذر باحتمالية انتشاره فيه
ماذا سيحدث لو تفشى الفيروس داخل القطاع؟
هناك تخوف شديد من تحول هذا الاحتمال إلى أمر واقع، لأنه سيكون بمثابة كارثة بيئية مدمرة لا تقل خطورة عن الزلازل وما شبهها من كوارث أخرى، فلا شك أن كورونا سيحصد أرواح الكثير من الغزيين، ومن المتوقع أن تصل عدد الحالات المصابة إلى نصف مليون حالة خلال أسابيع قليلة، بسبب أن الفيروس يتفشى بشكل ليغوريتماتي، وسنحتاج حينها إلى تدخل دولي لإنقاذ القطاع من الهلاك.
ولا سيما أن هناك عوامل عديدة ستساعد الفيروس على الفتك في القطاع، أولها الكثافة السكانية العالية، حيث يعيش 6000 نسمة في 1 كيلومتر مربع فقط، وهذا بدوره سيوفر البيئة المناسبة للفيروس بأن يطور نفسه ويتفشى، فضلًا عن طبيعة المجتمع الغزي الذي يتسم بما يُعرف بـ”العائلة الممتدة”، فحالة واحدة فقط كفيلة أن تعدي عائلة كاملة.
أما العامل الثاني، فهو ضعف الجهاز الصحي في قطاع غزة، وانعدام قدرته الإستيعابية من سرائر وأدوية ومعدات وكوادر طبية، حيث أن قدرة قطاع غزة قد تكفي لعدد من 100-150 حالة مصابة بالكورونا فقط. ولتوضيح الصورة أكثر ثمة من 120-130 سرير مجهز -في حال خلوها أصلًا- بجهاز أوكسجين في غرف العناية المركزة، وذلك يعني 3 أسرة لكل مئة ألف حالة.
وأنوه أن جميع المؤشرات حول تفشي الفيروس في “إسرائيل” ومصر، هي مؤشرات مقلقة للقطاع وتنذر باحتمالية انتشاره فيه، وما يؤكد هذا الاعتقاد أن أغلب فحوصات مسح الكورونا للمسافرين العائدين من مصر هي إيجابية، مع عدم وجود أعراض الفيروس، لذلك سيتم تشديد فترة الحجر ليكون ما بين 21-45 يومًا.
على الرغم من التحذيرات وحملات التوعية التي أطلقتها الحكومة الفلسطينية في غزة، ووزارة الصحة الفلسطينية، إلا أن الشعب الفلسطيني في القطاع ما زال يتعامل مع أمر فيروس كورونا على أنه “مزحة”
كم عدد حالات الإصابة المسجلة في القطاع؟
يبدو أن الحصار المفروض على قطاع غزة كان له إيجابية واحدة، وهي تأخير وصول وحركة سير تفشي فيروس كورونا إلى القطاع، والخوف يتمثل في العائدين إلى القطاع من الخارج، وكان من السهل على الجهاز الصحي السيطرة على حركة العائدين.
وقد بلغ إجمالي الحالات المسجلة 23 إصابة منذ مارس/آذار الماضي حتى 19 مايو/أيار، وتعافى منها 16 حالة ولا زالت 7 حالات مصابة تحت العلاج بمستشفى العزل، وفي 20-21 مايو/أيار تم تسجيل 13 حالة جديدة، وهذا ما نعتبره خطر حقيقي ويجب حصر منحنى تفشي الفيروس قبل أن يرتفع ويخرج عن السيطرة، لأن ذلك ليس بمصلحة أحد.
هل يبدي أهالي القطاع تعاونًا مع مسألة الجائحة؟
مع الأسف الشديد، على الرغم من التحذيرات وحملات التوعية التي أطلقتها الحكومة الفلسطينية في غزة، ووزارة الصحة الفلسطينية، إلا أن الشعب الفلسطيني في القطاع ما زال يتعامل مع أمر فيروس كورونا على أنه “مزحة”، وما عزز ذلك هو أن الفيروس تأخر في الوصول للقطاع.
الكرة الآن في ملعب الشعب، ونطلب منهم أخذ أعلى تدابير الوقاية والحيطة والحذر
ومن الممكن ملاحظة هذا الاستخفاف في أسواق القطاع المكتظة، وعدم الالتزام بالحجر المنزلي أو التباعد الاجتماعي وإجراءات الوقاية مثل ارتداء الكمامات. والكارثة الأكبر هي حالة التراخي التي كانت في أماكن الحجر المخصصة للعائدين من الخارج، من حيث عدم الاكتراث بمعايير النظافة الأساسية، وتعاملهم مع البائعين المتجولين عبر شبابيك الغرف.
ويزداد تخوف الأطباء في القطاع مع اقتراب عيد الفطر، حيث أن الحكومة أعلنت أنها ستقوم بفتح الجوامع، ولكن في ذلك مخاطرة كبيرة على حياة 2 مليون إنسان، كما تم افتتاح بعض المطاعم والمقاهي في القطاع، التي يقصدها الناس بكثافة، فضلًا على أن الزيارات التي يقوم بها الناس لأقاربهم شمالًا وجنوبًا.
الكرة الآن في ملعب الشعب، ونطلب منهم أخذ أعلى تدابير الوقاية والحيطة والحذر، ونتمنى أن لا تزيد عدد حالات الكورونا في القطاع، وفي حال أن تفشى في القطاع، نتمنى أن يكون ذلك في فترة الصيف على الأقل، وذلك لأن أغلب التقارير تدل على أن الحرارة المرتفعة تثبط من نشاط الفيروس.