ترجمة وتحرير نون بوست
في أحد أيام شهر كانون الأول/ ديسمبر سنة 2016، قام فنان بريطاني يبلغ من العمر 37 عامًا يدعى سام وينستون بتجهيز سلم ومقص وعدة لفات من قماش التعتيم وإمدادات ضخمة من الشريط اللاصق، وبدأ مشروعًا كان يفكر فيه منذ فترة. كان وينستون قد انتقل إلى لندن من ديفون في أواخر التسعينات. لقد كان يكسب رزقه خلال العشرينيات والثلاثينيات من عمره عن طريق التدريس وإنجاز الرسوم التوضيحية للمجلات وبيع الأعمال الفنية، التي رسم الكثير منها بقلم الرصاص لهواة جمع العملات والمتاحف.
تعاون وينستون مع المؤلف أوليفر جيفرز على تأليف كتاب للأطفال بعنوان “تشايلد أوف بوكس” الذي كان من ضمن الكتب الأكثر مبيعًا. وعلى الرغم من أنه كان ناجحًا تجاريًا، كان وينستون لا يحب شركات النشر. لقد رأى نفسه فنانًا مولعًا بالرسم حتى النخاع. لقد كان يشعر بالانزعاج من الطاقة السلبية والعصبية والضغط النفسي منذ أن كان صغيرًا، وكان يعاني من نوبات أرق متقطعة، وصعوبة في فلترة الضوضاء والعوامل المشتتة للانتباه في الأماكن العامة. كان شخصًا – مثل الكثير منا – يعتمد بشكل متزايد على هاتفه وجهاز الكمبيوتر الخاص به. لكن قرر وينستون الانزواء لبضعة أيام دون استخدام الشاشات ولا الخروج للشمس والتخلص من أي تحفيز بصري، وقضاء بعض الوقت بمفرده في الظلام.
استغرق الأمر منه ساعات، وهو يتسلق صعودًا ونزولًا سلمًا في الاستوديو الخاص به، لتغطية كل فتحة من الضوء الداخلي. يحتوي الاستوديو، الذي يقع في مصنع تحويل في شرق لندن، على نوافذ مسطحة كبيرة وسقف مائل به مناور كانت صعبة الإغلاق بشكل خاص. حسب تقديرات وينستون المتحفظة، استخدم 200 متر من شريط لاصق قبل أن يشعر بالرضا التام عن أن الشقة أضحت مظلمة حقا. كان يجلس فيها يرسم بقلم الرصاص والورق ويمارس اليوغا ويتناول بعض الوجبات الخفيفة، وينتظر أن يرى ما إذا كان للظلام أي تأثير مُسكّن.
لم يعد العالم في القرن الحادي والعشرين أكثر ثراءً أو غرابة مما كان عليه من قبل. لكل شيء الرائحة ذاتها ولا توجد نكهات جديدة. منذ ظهور المصانع والطائرات والأجهزة المنزلية والطرق السريعة، باتت هناك زيادة كبيرة في التلوث الصوتي. مع ذلك، فإن تسرب المعلومات والعوامل المشتتة للعين تزايد بشكل مطرد على مدى العقدين الماضيين.
وجد وينستون أنه كان منتجًا في الظلام، حيث كان يرسم حتى ينتهي قلم الرصاص وأصبح يخلق سلسلة من الرسومات الضخمة – في أماكن واسعة أو مزدحمة بجمل متداخلة يكتبها بخط يده
هذا هو وقت الذروة، هناك عناصر مرئية لا حصر لها سواء عندما تتوقف الحافلات أو تشغل المنصات الاسطوانية إعلانات الفيديو، وترى وجه جدتك على هاتفك الذكي لتلقي التحية عليها. يشاهد الناس الأفلام المرشحة لجائزة الأوسكار أثناء وقوفهم في طوابير، ويتم تثبيت أجهزتهم على ارتفاع الخصر. يمكن للمدير التنفيذي في نتفليكس أن يسخر منا الآن لأنه نجح في اختلاس الساعات التي ننامها (الساعات التي لا نقوم فيها حاليًا بمشاهدة عروض نتفليكيس). وضعت شركة آبل شاشة إضافية على معاصمنا، في حين تأمل غوغل في أن نرتدي شاشة عوضا عن نظارة في نهاية المطاف. أصبحت الأخبار المهمة تعتمد 140 حرفًا فقط أو أقل مع صورة مذهلة أو مقطع فيديو. وفي حال لم تكن بهذه المواصفات فهي لا تعتبر أخبارا مهمة.
تميل أدمغتنا إلى التعويل على الرؤية وتفضلها على الحواس الأربعة الأخرى. منذ تطور الإنسان، ابتعدنا عن أرضي السافانا الغنية بالروائح، واعتدنا على رؤية المزيد من المخلوقات. سواء للأفضل أو الأسوأ، عادة ما نواجه المستقبل في هذا العالم من خلال الأطراف التي تختلس النظر إلينا. كفنان، غالبًا ما كان وينستون يبحث عن مشاريع وطرق غريبة وجانبية لتقليص العادات المألوفة أو دفع عمله في اتجاهات جديدة. لذلك أراد أن يعرف ما سيحدث له ولعمله إذا اختبأ بعيدًا عن الغارات البصرية لفترة من الوقت.
منذ أن بدأ وينستون يعمل وينام في مرسمه المعتم، بدأ يلاحظ أشياء جديدة. من دون ضوء الشمس كدليل، تمكن من معرفة إيقاعات اليوم عن طريق أدلة سمعية لم يكن يدركها من قبل: توقف حركة المرور الجوية في لندن بين عشية وضحاها، أو صوت المركبات المتوقفة التي تستغرق وقتًا أطول قليلاً للابتعاد عن إشارات المرور خلال ساعة الذروة. عندما كان يقوم بتخمير أكواب من الرويبوس خلال عمل له يتذكره جيدا أنجزه في محطة الشاي الخاصة به، لاحظ أنه يمكن أن يسمع الفرق بين السوائل الساخنة والباردة وهو يسكبها. في هذا السياق، سألني لاحقًا: “ما مدى ذكاء حواسنا…”.
وجد وينستون أنه كان منتجًا في الظلام، حيث كان يرسم حتى ينتهي قلم الرصاص وأصبح يخلق سلسلة من الرسومات الضخمة – في أماكن واسعة أو مزدحمة بجمل متداخلة يكتبها بخط يده – والتي ستصبح لاحقًا جزءًا من معرض في مركز “ساوث بانك” في لندن. بين رسم النتوءات، كان وينستون يسافر في أحلام اليقظة الواضحة، وحتى التهيؤات، “كما لو كان دماغي إذاعة رقمية تستمر في البحث عن قناة متاحة”.
أُجريت تجربة رائدة في الحرمان الحسي في جامعة مانيتوبا في كندا في الخمسينات، وطُلب خلالها من مئات الأشخاص الانعزال في غرفة مظلمة لأطول فترة ممكنة يمكنهم تحملها
في السنة السابقة، توفي شقيق وينستون الأكبر بشكل مفاجئ وقد أجبرته الفاجعة على العودة إلى الظلام. كان يتوقع استغلال وقته وهو منعزل لتجميع أفكار عميقة حول الحب والخسارة، ليشعر بالامتنان تجاه حبيبته وزميلته في الفن، ووالديه مرة أخرى القانطين في مقاطعة ديفون. وبدلاً من ذلك، كان هناك شخصية مختلفة تمامًا تطارد المشهد المظلم لعقل وينستون – شخص بدين يرتدي بدلة وأصبح مشهورا في الأخبار بعد انتخابه مؤخرًا رئيسًا للولايات المتحدة.
اعتبر وينستون نفسه مجرد مدمن متواضع على مشاهدة أخبار، يشاهدها كثيرا ولكنه ليس مدمنًا عليها. ومع ذلك، كان دونالد ترامب يغذي الاستوديو الخاص بوينستون. لقد شعر أن الأخبار كانت أمرا مبالغًا فيه، مضللة، مادة مسببة للإدمان وأنه أصبح مدمنا يمكن أن تخرج الأمور عن سيطرته فجأة.
خرج وينستون من الاستوديو المظلم قبل نفاد مخزونه الغذائي، وبالتحديد في فترة الغداء يوم السبت. لقد بقي هناك لمدة ستة أو سبعة أيام، لذلك شعر بالانزعاج من ضوء الشمس. كان وينستون لفترة طويلة يستمتع بمشاهدة مرور القطارات على السكة الحديدية خارج الاستوديو الخاص به، كان يستمتع بالمشاهد اليومية بينما كان يتضور جوعا، وفي نفس الوقت كان يحاول تحقيق السلام الداخلي.
يبدو أن التدفق المفاجئ للهرمونات التي يحفزها ضوء النهار جعله يشعر بالإغماء. في المرة التالية التي عاد فيها إلى الظلام، قرر وينستون الخروج بعد غروب الشمس حتى لا يشعر مرة أخرى بالانزعاج. مفتونًا بالتجربة والأفكار العميقة التي يمكن أن يصل إليها، قرر وينستون خوض هذه التجربة مرة أخرى.
ما بين 2017 و2018 وضع وينستون خططًا، حيث قام بالبحث وتقسيم الدارسة إلى أجزاء. أُجريت تجربة رائدة في الحرمان الحسي في جامعة مانيتوبا في كندا في الخمسينات، وطُلب خلالها من مئات الأشخاص الانعزال في غرفة مظلمة لأطول فترة ممكنة يمكنهم تحملها. استسلم حوالي ثلث المشتركين في غضون أيام، فيما استطاع البقية البقاء لمدة أسبوعين. وقد تساءل وينستون أنه في حال عاد إلى الظلام مرة أخرى، فهل يمكنه تحمل ذلك الوضع لمدة شهر؟ قام بالبحث أكثر وذهب للتسوق عبر الإنترنت، وطلب المزيد من القماش الأسود والمزيد من الشريط اللاصق.
أجرى رئيس شركة “بايسكس” للأبحاث جوناثان سبيرا، دراسة أشارت إلى أن مئات المليارات من الدولارات تُصرف في غير سياق الاقتصاد الأمريكي كل سنة، في تكاليف إنتاجية متنوعة، بسبب الحمل الزائد للبيانات.
صاغ عالم الاجتماع الأمريكي برترام غروس مصطلح الحمل الزائد للمعلومات في منتصف الستينات. وفي سنة 1970، قام كاتب يدعى آلفين توفلر، والذي كان معروفًا في ذلك الوقت بأنه مستقبلي يمكن الاعتماد عليه – كما أنه كان يتكهن من أجل كسب لقمة العيش – بتعميم فكرة الحمل الزائد للمعلومات كجزء من مجموعة من التنبؤات القاتمة حول الاعتماد البشري النهائي على التكنولوجيا.
كما أشارت مجموعة أخرى من الأكاديميين في دراسة نُشرت سنة 1977 إلى أن “الحمل الزائد للمعلومات يمكن أن يحدث لدى الإنسان أو الآلة، وذلك عندما يتجاوز مقدار المعطيات في النظام سعة المعالجة”. بعد ذلك، ظهر كل من نظام “في إتش إس”، وأجهزة الكمبيوتر المنزلية والإنترنت والهواتف المحمولة العادية والأخرى المجهّزة بشبكة الإنترنت – فضلا عن نوبات القلق من أننا قد نكون قد بلغنا حدود قدراتنا.
وجدت دراسة نُشرت في سنة 2011 أن الأمريكيين كانوا يحصلون في اليوم العادي على خمسة أضعاف كم المعلومات التي كانوا يحصلون عليها قبل 25 سنة – وكان هذا قبل أن يشتري معظم الناس الهواتف الذكية. في سنة 2019، حددت دراسة أجراها أكاديميون في ألمانيا وأيرلندا والدنمارك أن انتباه البشر يتقلص، ربما بسبب التدخل الرقمي، ولكنه برز “على شبكة الإنترنت وخارجها”.
في ذلك الوقت، أجرى رئيس شركة “بايسكس” للأبحاث جوناثان سبيرا، دراسة أشارت إلى أن مئات المليارات من الدولارات تُصرف في غير سياق الاقتصاد الأمريكي كل سنة، في تكاليف إنتاجية متنوعة، بسبب الحمل الزائد للبيانات. من ناحية أخرى، أُسّست منظمة أخرى تسمى مجموعة أبحاث المعلومات الزائدة في سنة 2007 من قبل سبيرا وناثان زيلديس، وهو مهندس كمبيوتر تحول إلى مستشار وكان قد طلب من شركة “إنتل”، شركة تصنيع شرائح الكمبيوتر، تقليل عبء البريد الإلكتروني المفروض على العمال.
بحلول نهاية سنة 2019، كان زيلديس جاهزًا للاعتراف بالهزيمة. كتب في مدونة “أحب أن أعطيك جرعة سحرية تعيد انتباهك إلى اهتمام أجدادك، لكنني لا أستطيع. بعد أكثر من عقد من استخدام الهواتف الذكية ومنصات التواصل الاجتماعي، ربما لا يمكن عكس الضرر”. وقد نصح الناس بممارسة هواية.
في صيف 2018، عمل وينستون على تأمين موقع للشهر الذي خطط لقضائه في الظلام. وافق أحد المعارف على إقراضه دار ضيافة مكونة من غرفة واحدة في منطقة ليك ديستريكت
في عصر التحميل الزائد يمكن أن تشعر كما لو أن التكنولوجيا كانت محظوظة ولاقت رواجا، بينما تسببت في إزالة الكثير من التقنيات بشكل نهائي. حتى قبل تفشي فيروس كورونا في جميع أنحاء العالم، بدأت أجزاء من الثقافة بتبني أسلوب العزلة والحرمان كمؤشر عيش مرغوب، حيث بات الوقت الذي يقضيه الشخص بمفرده دون استخدام أي جهاز بمثابة نزعة جديدة.
قبل أن يحد الوباء من جاذبية السباحة في مسبح شخص آخر، كانت مراكز خزانات التعويم تفتح في جميع أنحاء لندن. يوجد في جمهورية التشيك منتجعات توفّر للعملاء فرصة البقاء في الظلام لمدة أسبوع في أجنحة مغلقة ومنعزلة. من جهته، نشر إدوارد سنودن تغريدة في شكل نكتة على فيروس كورونا في آذار/ مارس 2020: “لا ينبغي الاستهانة بالتباعد الاجتماعي”. لكن كان من الممكن أن يتحدث إلى الزملاء التقنيين في وادي السليكون، الذين كان الانسحاب هو الخيار الأنسب لهم.
في الآونة الأخيرة، قابلت فتاة تُدعى سيلين في سان فرانسيسكو كانت قد نشرت تغريدة إلى متابعيها البالغ عددهم 2500 شخص حول صعوبة “محاولة مواعدة الشباب في سان فرانسيسكو في فترات تأملهم التي تستمر أسبوعًا، وعطلات نهاية الأسبوع في تاهو، وجلسات العمل عن بُعد لمدة شهر”. قام حوالي أربعة آلاف شخص بتأييد رأيها، وقاموا بمشاركة تغريدتها على عدد كبير من الصفحات الأخرى، بما في ذلك صفحتي. يأتي الصوت الافتراضي لأي تغريدة جديدة في شكل صافرة، تشبه كلمة “يو هوو”، وصوت صاحب الكلب عندما يصفر لنداء الكلب.
أخبرتني العالمة النفسية البريطانية هيلدا بورك التي كتبت عن إدمان الهواتف الذكية أن جزءًا من مشكلة هذا العصر فيما يتعلق بالحمل الزائد يكمن في الإصرار على اكتشاف كل جزء جديد من المعلومات التي تجذب انتباهنا. رنين مكبرات الصوت، وتبدل الصفحات بشكل سريع أو ارتداد الرموز، كما لو كانت إشارة إلى وجود مشكلة. ومن هنا، تنطلق رغبتنا الملحة للاستجابة عن سوء قصد.
عندما رن هاتفي على صوت تغريدة سيلين يوم الجمعة، لم أتمكن من فهم سبب إيجادي صعوبة في قراءتها. هل يكمن السبب في أنها جعلتني أشعر بأنني عجوز؟ أو أنني أملك ما يكفي من المشاكل التي يجب أن أفكر فيها؟ في النهاية، أدركت أن كل تغريدة بالنسبة لي مرهقة بعض الشيء. في هذا الإطار، تقول بورك، “بدا أن الصفير يعلن عن تحديث تافه مثل خروف يرتدي ملابس الذئب. ينتبه الجسم لذلك ويستعد للركض أو القتال، ولا شيء يستحق ذلك. هذا أمر مربك”.
في حالة سام وينستون، جاءت لحظة إدراك الحقيقة عندما أدرك مدى استمتاعه بآثار الكحول بعد قضاء ليلة في الخارج. كان يتدلى على الأريكة، ولم يشعر بأنه “مستهدف من تويتر وإنستغرام وفيسبوك وجميع هذه الخدمات المجهزة بخوارزميات مصممة عن قصد لتكون مثيرة للانتباه ومشتتة قدر الإمكان لتحفيز وصلاته العصبية قدر الإمكان. ما هذه الحقيقة البديهية؟ ‘احمني مما أريد’ “. أدرك وينستون أن لديه رغبة غريبة في أن يقضي مدة شهر كامل على متن شيء مثل سفينة سياحية، وذلك «لتجربة حل واضح لوضع حد لوضعه”.
في صيف 2018، عمل وينستون على تأمين موقع للشهر الذي خطط لقضائه في الظلام. وافق أحد المعارف على إقراضه دار ضيافة مكونة من غرفة واحدة في منطقة ليك ديستريكت، ولكن بشرط توقيع تنازل يتحمل فيه اللوم عن أي كارثة قد تحدث بمجرد تعتيمه لمكان الإقامة بالكامل بقطعة قماش أو شريط. اشترى وينستون خزانة مؤن وفطائر مجمدة وإمدادات ضخمة من المياه المعبأة. كما رتب مع مجموعة من الأشخاص الموثوق بهم للاتصال به عبر الهاتف وزيارته أحيانا للتحقق من أنه، كما قال أحد الأصدقاء “لن يتصرف كنورمان بيتس في هذا المنزل”.
حدد وينستون بعض القواعد الأساسية التي تمثلت في أنه سيقضي أربعة أسابيع تبدأ من يوم الاثنين في بداية تشرين الأول/ أكتوبر وتنتهي في أواخر يوم الأحد، ليسجل بذلك 672 ساعة في العزلة. كما سجل وينستون تدوينات صوتية على جهاز الدكتافون وسجل انطباعات أقل حرفية في سلسلة من الرسومات بقلم الرصاص.
تمشيا مع قيمة الجهد الذي بذله ليبقى منفردا، لم يهتم وينستون بالمخاطر الصحية الناجمة عن ذلك. في الواقع، قرأ قليلاً عن الميلاتونين والسيروتونين، أي الهرمونات التي يقع إنتاجها في الدماغ عن طريق الغدة الصنوبرية التي تعد بحجم حبة البازلاء، والتي تساعد الجسم على تنظيم دورة النوم والاستيقاظ.
اكتشف وينستون أنه سيعاني من نقص في السيروتونين إلى حد ما، والذي يقع إفرازه عادة خلال ساعات النهار ويساعدنا على الشعور باليقظة، لكنه سيحصل على كميات كبيرة من الميلاتونين الذي يحمل تأثيرا منوما. علاوة على ذلك، لم يستشر وينستون الطبيب، على الرغم من أنه طرح بعض الأسئلة على موظفة لدى “سبيك سايفرز” خلال موعد فحص روتيني. لكنها قالت إنها غير متأكدة مما يجب أن تقول له.
لم يستطع وينستون مقاومة كتابة تغريدة أخيرة قبل أن ينغلق على نفسه: “لا استقبال. لا وقت للشاشة. الرسم في الظلام. أراكم في تشرين الثاني/ نوفمبر”. في اليوم الأخير من شهر أيلول / سبتمبر، قام وينستون بنزهة مع غروب الشمس في الحقول المحيطة بالعقار الذي سيقطن فيه، وحدق في التلال والأبقار وحاول بشكل عام الاستمتاع بهذا الاستخدام التقليدي لمقلتيه. ثم عاد إلى الداخل ونام، لتختفي الأضواء من حياته بعد ذلك لمدة 28 يومًا.
كان بإمكانه التعامل مع قضاء الصباح في الظلام الدامس، بعد أن خاض نسخة أقصر من هذه التجربة من قبل. لذلك عندما استيقظ من النوم وتغلب على الذعر المؤقت – لم يفقد رؤيته بين عشية وضحاها – كان من السهل والمقبول العودة إلى مرحلة النوم الثانية المحفزة بسبب الظلام. عندما نهض من الفراش، واستشعر طريقه إلى المطبخ الصغير والثلاجة، استغرق إعداد الإفطار واستهلاكه وقتًا أطول من المعتاد.
تشير النتائج التي توصلوا إليها إلى أن التحسين الحسي غير البصري يحدث بسرعة في الظلام
ساهم كل ذلك في حدوث تأخيرات زمنية معينة. حتى في تلك الأيام القليلة الأولى، تخيل وينستون أنه كان مستيقظًا وفي طريقه للقيام ببعض الأنشطة الصباحية، أو الرسم على طاولة عمله أو القيام بتمارين اليوغا على السجادة، فقط ليتلقي مكالمة من صديقته التي أخبرته أنه كان متأخرا بضع ساعات. دون إحساس دقيق بالوقت، استسلم وينستون مرة أخرى إلى الإيقاعات الغامضة الهادئة لشيء يشبه الصباح، وشيء يشبه بعد الظهر وشيء يشبه المساء وشيء يشبه الليل.
كان الجو أكثر هدوءًا في بيت الضيافة الريفي مما كان عليه في استوديو المدينة. كان على أذني وينستون أن تسمع نغمة دلائل سمعية أبعد. قبل فترة طويلة، أدرك وينستون قدرته على معرفة الفرق بين النهار والليل من خلال شدة ضوضاء حركة المرور على طريق آي الذي يبعد نصف ميل عنه.
لقد مرّ بمراحل انتقالية أخرى من قبل، مثل ذلك البروز الغريب للأخبار والأحداث الجارية حيث تخلص عقله من الحكايات المهمة والأشخاص، و”الأغاني المتراكمة ودوامات الأفكار الصغيرة ومختلف الأشياء”، وذلك حسب ما ذكره وينستون في تسجيل صوتي سجله في اليوم الخامس. بعد ذلك بيوم واحد، سجل وينستون تسجيلا آخر يقول فيه: “لقد اكتشفت أن طريقة المشي في الظلام لا تهم، سواء إلى الأمام أو الخلف، فلا يوجد فرق. في كلتا الحالتين لا يمكنك رؤية أي شيء. يُعد المشي للخلف أمرا جيدا”.
نظرا لعدم قدرته على الرؤية، حصلت حواسه الأربعة الأخرى على فرصة التطور وإظهار قدراتها. قيل منذ فترة طويلة إن الأشخاص الذين لا يستطيعون الرؤية قد يتمتعون بمزايا حسية أخرى. مع التقدم في تكنولوجيا مسح الدماغ في التسعينات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بدأ الأكاديميون في اختبار فهمنا القصصي من خلال البحوث التجريبية.
تشير النتائج التي توصلوا إليها إلى أن التحسين الحسي غير البصري يحدث بسرعة في الظلام. حتى بعد 30 أو 45 دقيقة من انطفاء الأضواء، فإن أطراف أصابعنا تستجيب بطريقة أكبر ونصبح أفضل بشكل ملحوظ في تحديد اتجاه انتقال الصوت. ولكن لا يزال البحث في هذا المجال متواصلا، ولا يزال يمثل موضوعا يثير العلماء المتخصصين في الحواس لأنه يشير إلى أن الدماغ أكثر قابلية للتكيف مما كان يُعتقد سابقًا.
يتحدث تشارلز سبنس من قسم علم النفس التجريبي في جامعة أكسفورد عن اللدونة العصبية للدماغ كما لو كان اللب الأساسي، فيقول “عندما يغرق الجسم في الظلام، لا يقوم هذا الجزء البصري الضخم من الدماغ بفعل نفس الأشياء المعتادة… كأننا نعيد تجهيز هذه المساحة الشاسعة الاحتياطية بأدوات معينة أو نعيد استخدامها بسرعة مدهشة” ثم تتولى الحواس الأخرى ببساطة الأمر بعد ذلك.
تثير بعض المتخصصين مثل سبنس فكرة استحواذ الحواس غير البصرية على مساحة الدماغ بسرعة، ويتم ذلك في غضون ساعة وفقا لبعض الدراسات، إذ أنّ ذلك يشير إلى أننا نستخدم روابط مستترة بدلا من تطوير روابط جديدة، من شأنها أن تستغرق وقتا أطول لتتشكل.
بطريقة أوضح، عندما تنطفئ الأضواء فنحن لا نطور الحواس الأخرى ضرورة وإنما ينصب تركيزنا على باقي الحواس وطريقة عملها الفعلي. عندما دخل وينستون أسبوعه الثاني في الظلام، قضى الكثير من الوقت في تمرير أصابعه على الأشياء المشتركة، وحوافها وعلى الأسطح، مستمتعا بمكونات تفاصيلها الدقيقة وشاردا فيما يمكن أن يميزه. فكان يرسم معالم الأشياء في الظلام. الآن، كلما التقط قلم رصاص، كان متأكدًا من أنه يمكنه الاعتماد على حدسه ليعرف كثافة الرصاص داخل القلم بناء على درجة اهتزازه على الورق، وكذلك “الصوت الذي يصدر منه، والطاقة التي يفرزها عبر الصفحة”.
أفرزت بعض التجارب التي ركزت على اللمس انطباعات بصرية مثيرة. أثار الغسيل اهتمام وينستون بشكل خاص، وتشابه تأثير الاستحمام بالمتعة التي يضفيها “ألتون تاورز” حيث تستدعي كل قطرة ماء في الذهن لونا في ذهن وينستون. عندما تلقى اتصالا هاتفيا من صديقته من حافلة في لندن، اكتشف أنّ أصوات الضوضاء المرافقة للاتصال، وصوت الركاب يشعرانه بمتعة كبيرة. كان الأمر أشبه بالحصول على مسلسل تلفزيوني قصير للتفكير فيه بعد ذلك”. وقد دفعه صقل حواسه الأخرى إلى تقديم تنازلات كثيرة والشعور بالإحباط كذلك.
لم يعد وينستون قادرا على النوم على أغطية الأسرة بسبب رائحة العطر القوية التي تفوح منها، وهو ما اضطره إلى وضع كمامة على أنفه. حتى أطعمته المفضلة لم يعد يستسيغ مذاقها وخاصة الأطعمة الجاهزة. يعود وينستون بالذاكرة إلى يوم لا ينسى، وتحديدا بعد الظهر حين كان يتناول طعام ماكوي، يومها اقتنع أنه قادر على اقتفاء أثر الدهون المشبعة وهي تتقدم عبر المريء.
كانت الآثار الجسدية للخلوة غريبة، فإنها كانت محدودة مقارنة بالتأثيرات العقلية
يوما ما، أحس بالاضطراب جراء عسر الهضم، فتمثلت في ذهنه صورة معدته المنتفخة والمتضخمة، وهو ما دفعه إلى التقليل من كمية الطعام التي يتناولها. كذلك قلت وتيرة ممارسته للرياضة، وقلّ بكاؤه. غُمر وينستون بتطوّر وعيه بحواسه بشكل كبير. ولم يعد يقبل على هذه الأنشطة البدنية الأساسية لأنها أصبحت في نظره دراماتيكية جدا، وغريبة أكثر من اللازم. لقد التجأ إلى الظلام للهروب لكن هذا لا يشبه ما كان يبحث عنه.
مع بداية الأسبوع الثالث، وتحت تأثير الميلاتونين، كان وينستون يقضي المزيد من الوقت على الأريكة غارقا في الذكريات وفي أحلام اليقظة والهلوسة. رأى المناظر الطبيعية تنجرف، وتمثلت في ذهنه كخطوط ساحلية، بها بحار متلألئة. يمكن أن تكون هلوساته حافلة بروتين الحياة اليومية كما كان عقله يتلهف لإعادة رسم الصالون من حوله، والجدران البيج، والمطبخ الصغير المغطى بالبلاط في الزاوية الأخرى. بعد هذه المشاهد المبتذلة يمكن أن يتخيل سماء مملوءة بالغيوم أو حقلا نجميا.
إذا كانت الآثار الجسدية للخلوة غريبة، فإنها كانت محدودة مقارنة بالتأثيرات العقلية. في أعقاب ذلك، سيواجه وينستون صعوبة في تلخيص التجارب التي مر بها في كلمات وسنجري محادثات طويلة لتحديد أقصى التمثلات في مخيلته، محاولًا التمييز بين الهلوسة أثناء النهار وأحلام الليل، وسنتطرق في بعض الأحيان للملاحظات التي سجلها وينستون في الظلام على الدكتافون.
لقد اندهش من كمّ الغموض الذي أحاط به ومن قطار الذكريات الذي انبثق فجأة مثل “فقاعات الهواء الصغيرة الغريبة التي سافرت من الماضي ثم أصبحت هباء”. تماما كما هو الحال مع الأشخاص الذين أظهروا الولاء لترامب، وكانوا يهلوسون في بعض الأحيان، وأحيانًا أخرى يشعرون بأنهم كائنات طيفية. عندما كان في السابعة عشرة من عمره، تصرف وينستون بالقليل من السذاجة إزاء صديقته الأولى التي لم تخطر بباله منذ عقود، لكن عادت تجول داخل رأسه للانضمام إليه في السواد القاتم.
عندما تقوم بإيقاف الإدراك بالدخول في الظلام، فإن التصوير العقلي لا يملك أي شيء للمنافسة ويصبح ذلك الشيء الأكثر كثافة هناك
استغرق وينستون أربعة أو خمسة أيام، وهو يعبث بيديه، ويعيد النظر في الأفكار غير الموفقة والكسل والقسوة العرضية التي تصيب المراهقين لاستعادة ذكرى مفيدة. وتذكر أنها ذات مرة كتبت له رسالة لكنه لم يجبها. “لقد كانت أول شخص كتب لي على الإطلاق وقال لي: “أنا أحبك”. لكن كانت إجابتي: “ما هذا الهراء، لقد انتهت القصة”. “حينها كنت أفتقد الألفة والحنان. وها أنا بعد عشرين عامًا، في الظلام الدامس – أدرك كم كنت أنانيا بشكل لا يصدق”.
اضمحلت صورة الصديقة الطيفية. بعد ذلك، وجد وينستون نفسه يعيد النظر في جميع المشاجرات والخلافات السابقة. واستحضر اللحظات الممتعة كذلك. فكر في صديقته كثيرا. وتساءل عن السبب الذي منعه من طلب يدها للزواج. وجد أنه ينغمس أكثر ويصبح أكثر فضوليًا، ومتعاطفا مع الأحداث العاطفية الطاغية في ذلك الوقت.
لم يكن هذا دائمًا أمرًا جيدًا. لقد كان وينستون يفكر كثيرًا في أخيه المتوفي: “لقد سقط فحسب، كان في منتصف حياته يبلغ من العمر 40 سنة وكان لديه زوجة وابنة صغيرة. لم يكن ذلك عادلا”. ويقول وينستون إنه عندما يموت شخص ما “هناك جزء عقلاني منك يعرف أنه ميت، وهناك ذلك الجانب اللاعقلاني الذي يجعلك تتساءل إلى أين ذهبوا؟ في الظلام، مع عدم وجود صباح أو بعد ظهر اليوم، أصبح المتخيل والحقيقي له حواف غامضة وبدأ وينستون يشمشم ما حوله بطريقة واضحة. “لقد عشت تجارب بعيدة إلى حد كبير على البحر. وجزء مني كان يفكر كما تعلمون “سأذهب وأجد بن” ولم يحدث ذلك.
لم يكن هناك لقاء روحي، ولا لم شمل مقبول لوينستون. بدلاً من ذلك، بدأ يشك خلال أحلامه على أريكة بيت الضيافة في ما أسماه “الوجود الحاضر الغائب للموت”. حتى أن وينستون تساءل مرة أو مرتين عما إذا كان قد مات هو نفسه وقد كان يشعر بالقلق من أنه قد يصاب بالجنون.
قال لي تشارلز سبينس: “عندما تقوم بإيقاف الإدراك بالدخول في الظلام، فإن التصوير العقلي لا يملك أي شيء للمنافسة ويصبح ذلك الشيء الأكثر كثافة هناك. وبالتالي ترى تخيلات وأشخاصا يخلطون بين الواقع وصورهم العقلية، والصورة العقلية للواقع”.
إن العالم الحقيقي بصباحه ومسائه واضح المعالم، يطلبه من جديد
حذر صديق وينستون، مارتن أيلوارد، الذي جرب بنفسه ملاذ مظلمًا لمدة أسبوع، من مدى خطورة التجربة قائلا: “حتى إذا قضيت بعض الوقت مع نفسك، فسوف تلاحظ كيف يصرخ صوت داخلك – وتبدأ في سماع المونولوج الداخلي. وفي الظلام يمكن أن يكون ذلك الصوت عاليا للغاية ومملا للغاية أيضا”.
عند السماع بشأن اللحظات التي قضاها وينستون في الظلام، أتساءل عما إذا كان بإمكاننا جميعًا اتباع طريقته وقضاء شهرنا الخاص في سرية. في عالم مضيء، خاصة في هذه الأوقات المتوترة والمغلقة، ألا يكون الظلام نوعًا من العلاج المتاح بسهولة؟
عاش وينستون في الظلام لمدة شهر في محاولة للهروب من دقات الأجراس الرقمية، والأيقونات المرتدة، والبيانات – أي متابعة الأخبار اليومية المرهقة. اعترف لي وينستون مؤخرًا بأنه “عندما تعيش في الظلام لفترة طويلة لن تدخل في فراغ بل تبحر داخل نفسك، وحظا طيبا في وجود الهدوء والطمأنينة في ذلك الفراغ”. لم يكن هناك شيء يُضاهي المونولوج الداخلي المتواصل. تساءلتُ إذن عما إذا كنا قد أنشأنا وصقلنا كل هواياتنا الرقمية البراقة، ذلك أنه في مرحلة ما نعلم أن ضغط اللاوعي له قدرة على التحمل.
مع بداية الأسبوع الرابع، بدأ وينستون يفقد إدراكه لعدد الساعات التي يقضيها في النوم. كانت لديه أحلام مبهرة، ثلاثية الأبعاد لدرجة أنه حتى بعد أشهر كان من الصعب عليه أن يسميها أحلامًا. وفي صباح أحد الأيام في نهاية الشهر، استيقظ وينستون وسجل ملاحظة ديكتافون مليئة بالخوف: “يوم 19 … كان هناك حدث صغير غريب، جاءت الملكة للزيارة، وكنت عاريا، وكانت هي هناك بالفعل”. في هذا الوقت، توجه صديق إلى بيت الضيافة لرؤية وينستون الذي أجاب عند المدخل وهو معصوب العينين وتبدو بشرته شاحبة وهزيلة وكان يتحدث ببطء قائلا إنه لم يكن يتوقع أي شخص قبل الظهر، ولكن قال صديقه: “إنها الساعة الخامسة مساءً”.
إن العالم الحقيقي بصباحه ومسائه واضح المعالم، يطلبه من جديد. كان من المقرر أن تصل صديقته إلى بيت الضيافة قبل بضعة أيام من نهاية التجربة، لمساعدة وينستون على التأقلم من جديد مع المجتمع البشري وتيسير عملية مروره إلى الخارج. لقد سجل ملاحظة صوتية: “إذن هذا اليوم، أعتقد، 26؟ 27؟ ستصل في بضع ساعات. كل شيء أصبح يتحرك بسرعة. كل شيء تحت طائلة الضغط. تبا أنا بحاجة لمسح الأسطح أو ترتيب الفراش. لا شيء منها كبير. ولكن [لا يزال الأمر يبدو] مثل الخروج من الفضاء الفائق”.
العيش في الظلام باعتدال كان أداة إبداعية قوية. فمن خلال حرمان دماغك من التحفيز البصري، كان على العقل أن يترك أخاديده المريحة
في اليوم 28، قبل الغروب بقليل، ساعدته صديقته على الخروج من دار الضيافة، وقادته معصوب العينين إلى أريكة إلى الحديقة. كان وينستون هستيريًا، يصرخ ويصفق برفق، ويجثو لملامسة الأرض تحت قدميه، ممررًا يده على لحاء الشجرة متمتمًا “من صنع هذا؟”. عندما أزال عصابة عينيه بحذر وفتح عينيه لأول مرة بعد 672 ساعة وقام بإدارة رأسه تحت تأثير الإشعاع. كان يحدق في الأفق لفترة طويلة موضحا لاحقًا ما كان يجول في رأسه: “أعيد تشغيل النظام بأكمله … كما لو أنك ولدت من جديد، ولكن هذه المرة مع نضج في الإدراك…. أتذكر أنني شعرت بالبراءة مثل رواد الفضاء الذين ينظرون من الأعلى إلى الأرض ويتساءلون كيف يمكن أن تحدث حرب في أي وقت وكيف يمكن أن نصبح جميعًا مرتبكين جدًا. [كان هناك] شعور بالضياع الوشيك من جراء ذلك. كنت أعلم أنه قبل فترة طويلة سأعود إلى الخط المركزي، معتقدًا أن شخصًا غريبًا كان أحمق كان يقف في المكان الخطأ في العربة”.
قبل أن يفقد الشعور بالبراءة، أراد وينستون الاستفادة من تجربته. أخذ صديقته في نزهة واقترح عليها الأمر فوافقت. على مدار الشهر، فقد وزنه وتحولت بشرته النحيلة إلى وردية في النسيم الخارجي. لطالما عرفت أن وينستون عيناه رمادية زرقاء غير ملحوظة. وعندما أزال العصابة عن عينيه، شهقت. وهرعت لالتقاط صورة. فقد صارت عيناه بعد 28 يومًا زرقاء زاهية.
بعد ذلك بوقت قصير، وضع وينستون الصورة الغريبة لعينيه المشرقة على تويتر، ليراها متابعوه. قام بتسجيل الدخول وكل ما يشير إلى أنه عاد إلى العالم. بعد ظهر أحد أيام شهر كانون الثاني/ يناير من هذه السنة، قابلت وينستون في قناة ريجنت في شرق لندن. كان قد قدم للتو درسًا فنيًا في مكان قريب وكان من المقرر أن يعود إلى الاستوديو الخاص به، حيث ينتظره المشرف. لقد مرت أكثر من سنة منذ نهاية تجربته وعودة عيناه إلى اللون الأزرق الرمادي العادي. كان وينستون يحمل حقيبة كبيرة مليئة بأنابيب من الورق المقوى وعندما سألته عن محتوياتها قال إنها من عمل طلابه. بعد ظهر ذلك اليوم، شجع طلابه على وضع عصابة على العينين للرسم.
لقد أصبح مدافعا عن صنع الفن في الظلام. ترك هذا التراجع وينستون بمشاعر متضاربة، لكنه كان مقتنعًا بشيء واحد: أن العيش في الظلام باعتدال كان أداة إبداعية قوية. فمن خلال حرمان دماغك من التحفيز البصري، كان على العقل أن يترك أخاديده المريحة. كان سعيدًا برسومات قلم الرصاص الكبيرة التي رسمها في الظلام وكان لديه خطط لعرضها في باربيكان في لندن والمركز الوطني للكتابة في نورويتش. حثّ وينستون الشعراء والروائيين بالقيام بخلوات مظلمة، وأعرب عن رضاه بقولهم إن آثار التحرر الناتجة عن العمل في الظلام تنتقل إلى أشكال أخرى من الإبداع.
أكد وينستون أنه لن ينصح أحدا بخوض تجربته. بعد مرور سنة، وجد وينستون أخيرًا الاتجاهات مرة أخرى، لكن الأمر استغرقه شهورًا، وربما ستة، لاستعادة توازنه
على حاسوبه الخاص، كان يتلقى الكثير من رسائل البريد الإلكتروني التي تحتاج إلى إجابة عن العروض المزدوجة، فمرة يتلقى 200 رسالة ومرة 300. واعترف وينستون بأن إحدى أكثر المهام التي تستغرق وقتًا طويلاً، كانت جهوده لإقناع القيّمين في لندن ونورويتش ببناء مساحات مغلقة معتمة، بحيث يمكن للزوار تجربة الانغماس في الظلام بأنفسهم، واقترح وينستون القيام بذلك ساعة أو ساعتين على الأكثر.
أكد وينستون أنه لن ينصح أحدا بخوض تجربته. بعد مرور سنة، وجد وينستون أخيرًا الاتجاهات مرة أخرى، لكن الأمر استغرقه شهورًا، وربما ستة، لاستعادة توازنه. لفترة طويل، لم يستطع التوقف عن ملاحظة كل انطباع وارد صغير. في مدينة صاخبة وذات رائحة كريهة مثل لندن كان تحمل ذلك صعبا. بعد الانسحاب، غالبًا ما كان يشعر بالغموض، شبه مفجع، لأنه بسبب كل أهواله، يمكن أن يكون الظلام إدمانيًا. كان يتوق إلى تكرار تلك التجربة وهذا أزعجه.
مرة أخرى في الاستوديو التقينا صديقته. كالمعتاد، لتسجيل محادثاتنا، وضعت جهاز آيفون الخاص بي على الطاولة، بجانب جهاز آيباد. وخلفنا جهاز الكمبيوتر الخاص بالاستوديو مضبوطا على شاشة التوقف يخفي برنامج البريد الإلكتروني الذي يحتوي على المهام، ونظرا لانعدام رغبته في مواجهة ذلك، قام وينستون بمشاكسة صديقته باستخدام أنبوب من الورق المقوى بدلاً من ذلك، وبعدها انفجر قائلا: “لماذا لم نتزوج بعد؟”. ابتسمت صديقته وقالت: “لا أدري”.
ألقيت نظرة غامضة على وينستون وكانت ذات مغزى: “لأنك من النوع الذي قد يختفي في أي لحظة”. تنهد وينستون. بدت الأمور أكثر بساطة مع إطفاء الأنوار. “أردت أن أعرف، كيف تم الخلط بيننا جميعًا؟ لأنني لم أتمكن من رؤية الارتباك والآن لا أستطيع أن أرى البساطة”. جلس على حاسوبه وكتب قليلا. كان وينستون قلقا وتساءل بعد ذلك: “هل أريد فعل ذلك مرة أخرى؟”. كانت الشمس تغرب خارج نوافذ المسكن. كان بإمكاننا التسلل في غضون ساعتين قبل أن أضطر إلى العودة إلى المنزل، حسب تقديره. كان وينستون متحمسًا، أمسك بعصابة عين وبدأ في دفع الأثاث إلى الجدران. وبينما اعتذرت صديقته، وافقت على محاولة القيام ببعض الكتابة بينما يتأمل وينستون ويغفو على الأريكة القريبة. يتذكر وينستون أن الشاعر جورج سزيرتس كان مرتاحًا جدًا بشأن الظلام القادم، لدرجة أنه احتاج لشيء يحمله. اعترف دون باترسون، شاعر آخر، بأن ما أخافه حقًا هو رفقته الخاصة التي لا تنقطع. قال لي وينستون: “سأكون هنا للتو”. كان هناك نقرة وانطفأت الأنوار.
انطلاقا من صوت حفيف الأريكة، حاولت أن أتصور الوضعية التي اتخذها وينستون. ثم استمعت إلى صرير نظام التدفئة في المبنى والقطارات البعيدة. عندما أخذت قلمًا، بدأت في جعل البدايات المشوشة لهذه القصة (ما سيصبح في النهاية الفقرة الثالثة). بعد انقضاء نصف ساعة لا أكثر، سمعت ضجة وينستون. لقد أزال عصابة العينين وتثبت من الوقت. مرت ساعتان. مع بعض التردد، أخرجت نفسي من مكان كانت فيه الألوان باهتة، والصوت الواضح والفكر البطيء. لقد ودعت وينستون وتوجهت إلى المحطة القريبة. كان يظهر على اللوحة رسائل إلكترونية تفيد بأن القطار التالي كان على بعد 15 دقيقة: غير مقبول. لقد أرسلت شكوى في هذا الصدد.
المصدر: مجلة 1843