في الأيام الأولى بعد إطلاق مرصد هابل الفضائي، كان علماء الفلك يتوقون لاكتشاف أبعد المسافات في الفضاء – وإلى أي مدى يعود الزمن – وقد صوبوا أجهزتهم إلى المساحات الخالية في السماء، وتحصلوا على صورة للفضاء مليئة بما أطلق عليه عالم الفلك آلان دريسلر من مراصد كارنيغي “حطام القطار”، وهي سُحب جزيئية غازية تعرف باسم المجرات البدائية.
كان المشهد متناسبا مع التصور السائد آنذاك عن كيفية تطور الكون: أجزاء صغيرة من المادة – الغاز والغبار وضوء النجوم – تشكلت ببطء وأدت في النهاية إلى ظهور مجرات حلزونية عملاقة، مثل مجرتنا درب التبانة، التي يبلغ قطرها 100 ألف سنة ضوئية وهي تضم مئات المليارات من النجوم
لكن اكتشافا فلكيا جديدا قد يجبر العلماء على مراجعة هذا التصور لنشأة الكون وتطوره. يوم الأربعاء، أعلن علماء الفلك في مرصد أتاكاما المليمتري في تشيلي (مرصد ألما)، أنهم اكتشفوا سحابة من الغاز في أقصى الكون، تبدو كأنها مجرة ناشئة تقترب في الحجم من نظيرتها الأقدم درب التبانة، وتعود تقريبا إلى وقت كان فيه عمر الكون يبلغ 1.5 مليار سنة، أي عُشر عمره الحالي.
هذه المجرة القرصية التي أطلق عليها رسميا اسم ألما ج081740.86 + 135138.2، وفق إحداثياتها في الفضاء، هي عبارة عن قرص دوار عملاق يتكون من غاز وغبار وضوء نجوم خافت. امتداد المجرة 100 ألف سنة ضوئية، وتعادل في حجمها 70 أو 80 مليار شمس على الأقل، وهي تماثل بذلك مجرة درب التبانة.
وقد علّق جيسون تشافي بروتشاسكا من جامعة سانتا كروز بكاليفورنيا، أحد مؤلفي الوثيقة المنشورة في مجلة “نايتشر”، على هذا الاكتشاف قائلا: “إن رؤيتها كانت مفاجأة”.
تعتبر المجرات بالنسبة لعلماء الفلك، بمثابة السكان الأصليين في هذا الكون. لكن لطالما كان بداياتها ومراحل تشكلها ألغازا مثيرة للجدل.
اعتقد العلماء لفترة طويلة أن هذه المجرات القرصية لم تكن تنمو بشكل كبير في بدايات الزمن الكوني. ويقول مارسيل نيليمان في بيان أصدره معهد ماكس بلانك لعلم الفلك في هايدلبرغ بألمانيا، والمؤلف الرئيسي للوثيقة: “معظم المجرات التي نعرفها في الكون المبكر تبدو وكأنها “حطام قطار” لأنها تعرضت لعمليات دمج متسقة وعنيفة في أغلب الأحيان. وبسبب هذه الاندماجات الساخنة، يصعب أن تتكون مثل هذه الأقراص الدوارة المنتظمة والباردة كما نلاحظها في كوننا حاليا”.
وفي مقابلة صحفية، قال الدكتور بروتشاسكا أن “حطام القطار” لا يزال يشكل 90 بالمائة من الحركة في الكون البدائي. لكن اكتشاف هذه المجرة يشير إلى أن الأقراص الدوارة الكبيرة كانت أيضًا جزء من تلك الحقبة، وأن الفلكيين سيجدون على الأرجح المزيد منها، على حد قوله. إذا كان الأمر كذلك، سيحتاج علماء الفلك إلى تعديل بعض نظرياتهم حول كيفية ظهور المجرات.
ويقول الدكتور دريسلر الذي وصف الاكتشاف الجديد بأنه “عمل رائع”، إن النماذج وعمليات المحاكاة التي تقدمها الحواسيب لم تستطع أبدا أن تفسر بالتفاصيل الدقيقة مراحل تشكل المجرات والنجوم دون الحاجة إلى تحديث البيانات بشكل مستمر. وأضاف: “يسرني أن أرى هذا الاكتشاف العلمي الذي يتحدى مجددا العقيدة الأرثوذكسية”.
تعتبر المجرات بالنسبة لعلماء الفلك، بمثابة السكان الأصليين في هذا الكون. لكن لطالما كان بداياتها ومراحل تشكلها ألغازا مثيرة للجدل.
اتفق الباحثون على أن القصة بدأت قبل 13.8 مليار سنة، عندما انبثق الكون من الانفجار الكبير. للأسف، بالنسبة لعلماء الفلك الذين لا يتوقفون عن اسكتشاف الظواهر الكونية، فإن الذرات التي تتكون منها النجوم ويتكون منها البشر، ليست سوى جزء صغير جدا من هذا الكون. فهذه المادة المرئية، تفوقها في الحجم بعدة مراحل المادة المظلمة الغامضة التي لم نعرف حقيقتها بعد، والتي يبدو أنها تتفاعل معنا فقط من خلال الجاذبية.
حسب النظريات المتعارف عليها، توفر المادة المظلمة الجاذبية للمجرات والهياكل الكونية العملاقة الأخرى. واستنادا إلى المحاكاة الحاسوبية، تتحول بعض حالات الاختلال الصغيرة في توزيع المادة المظلمة إلى سحب كثيفة متشابكة تشبه شبكة العنكبوت، تجذب ببطء المادة الذرية وتتحول في نهاية المطاف إلى نجوم مضيئة.
ركز الدكتور وولف على اكتشاف الغاز في المجرات القرصية البدائية من خلال مراقبة كيفية تأثيره على الضوء المنبعث من النجوم الزائفة البعيدة.
هنا تبدأ الفوضى. عندما يستقر الغاز في مجرة ما، يسخن ويصبح منفلتا، ثم تمتصه سحب أخرى من الغاز والغبار مما يتسبب في تشكل ما يُعرف بـ”حطام القطار”. قبل أن يصبح الغاز كثيفاً بالقدر الكافي لتشكيل النجوم، يجب أن يبرد الحطام مرة أخرى. يمكن أن تستغرق العملية وقتًا طويلاً – مليارات السنين – لتستقر وتشكل قرصًا ضخما بحجم مجرة درب التبانة.
هذا ما تتبناه النظرية القائمة اليوم، لكن تاريخ العلم مليء بالاكتشافات التي توجب مراجعة النظريات السابقة. فهناك على سبيل المثال ظاهرة تُعرف اليوم بـ”تقلص الحجم”، ومفادها حسب وصف الدكتور دريسلر أن المجرات التي ظهرت في زمن كوني مبكر، هي أكبر المجرات التي نشاهدها حاليا.
نتيجة لذلك، يعتقد بعض علماء الفلك أن هناك طريقة أخرى يتسرب بها الغاز البارد إلى المجرة غير تلك المتعارف عليها. ربما على سبيل المثال، عبر خيوط المادة المظلمة. كان آرثر وولف من جامعة كاليفورنيا في سان دييغو من العلماء الذين حاولوا طوال السنوات الماضية العثور على المجرات أو المجرات البدائية التي تكونت عندما كان عمر الكون مليار سنة أو ما يقارب ذلك.
يقول الدكتور وولف في بيان أصدرته الجامعة سنة 1997: “نحن لا ندّعي بأن علم الكونيات خاطئ، لكننا ندعو إلى تغيير المفاهيم فيما يتعلق بنظريات تَشكّل المجرات.
من الصعب رصد النجوم على مسافات بعيدة جدًا. وقد ركز الدكتور وولف على اكتشاف الغاز في المجرات القرصية البدائية من خلال مراقبة كيفية تأثيره على الضوء المنبعث من النجوم الزائفة البعيدة.
يقول الدكتور بروتشاسكا “إن النجوم الزائفة تعمل مثل المصابيح اليدوية التي تساعدنا في مراقبة الكون بيننا وبينها”. ستأخذ بعض الغازات مثل الهيدروجين درجة من طيف ضوء النجم الزائف عند أطوال موجية محددة.
باستخدام تلسكوب مرصد دبليو. إم. كيك وتلسكوب مسح سلووان الرقمي في مرصد أباتشي بوينت في نيو مكسيكو، بحث الدكتور وولف عن النجوم الزائفة التي أظهرت أنماط الامتصاص التي تشير إلى احتمال وجود مجرة مندمجة.
قد تكون هذه المجرة الأولى من نوعها من بين المجرات التي عثر عليها إلى حد الآن
بعد وفاة دكتور وولف في سنة 2014، استكمل طالباه الدكتور بروتشاسكا والدكتور نيلمان مسيرته. في 2018، استخدما تلسكوب ألما الراديوي العملاق في تشيلي لمراقبة ما اعتبروه أفضل مجرة ممكنة في القائمة التي جمعها دكتور وولف، وهو هيكل يُعرف ب دل أ0817ج. في غضون ساعة، شاهدا قرصا دوارا غازيّا كبيرا. لقد اكتشفوا المجرة التي طالما بحثوا عنها، وأطلقوا عليها اسم قرص “وولف”، تكريما لمعلمهم.
قد تكون هذه المجرة الأولى من نوعها من بين المجرات التي عثر عليها إلى حد الآن؛ ويقول الدكتور بروتشاسكا إن قائمة المجرات المرشح اكتشافها الآن يبلغ 20 مجرة. في العام الماضي، أبلغ الفريق عن اكتشاف جديد في الكون البدائي لما يبدو أنه زوج من المجرات المندمجة. ويؤكد الدكتور دريسلر “أن التفسير الذي يقول إن هذه الأقراص قد تشكلت من خلال تدفقات باردة هائلة في زمن مبكر للغاية يبدو معقولاً جدا”.
ويستذكر جيمس بيبلز، عالم الفيزياء في جامعة برينستون والفائز بجائزة نوبل للفيزياء السنة الماضية نظير اختراعه معظم التقنيات المستخدمة الآن في علم الكونيات، كم كانت أفكار الدكتور وولف مثيرة للجدل.
وقد قال بيبلز في رسالة بالبريد الإلكتروني: “أجل، أتذكر انزعاج وولف من طريقة التعامل مع أدلته على وجود مجرات قرصية عملاقة في انزياح أحمر كبير”. إن الانزياح الأحمر هو ما يستخدمه علماء الكونيات لقياس المسافة والوقت في الكون. “أعلن الشباب الأتراك استبعاد الأدلة الفنية من الناحية النظرية”.
وأضاف: “وبما أن بروتشاسكا كان طالب فنون، ويملك حسا فنيا، فإن قرارهما بتسمية هذا اللولب الكبير باسم “قرص وولف” تعتبر لمسة راقية.”
المصدر: نيويورك تايمز