تسع سنوات ونصف مرت على انطلاق الثورة التونسية وهروب زين العابدين بن علي، سنوات عرفت فيها البلاد هزات كبيرة كادت سفينة الديمقراطية أن تغرق فيها لولا تنازلات الحزب الأول في البلاد المتمثل في حركة النهضة التي آثرت وفق العديد من التونسيين المصلحة العليا على مصلحة الحزب وقياداته.
تجربة الترويكا وبداية التنازل
يرى العديد من المراقبين أن هذه التنازلات التي جاء أغلبها طوعًا، جنبت تونس ويلات كبرى كانت بعض القوى في الداخل والخارج تسعى إليها حتى تفقد الديمقراطية الوحيدة في العالم العربي بوصلتها وتنتكس معها باقي الشعوب الحالمة في غد أفضل.
التنازلات التي قامت بها حركة النهضة طيلة السنوات التسع الماضي، كانت وفق زعيم الحركة راشد الغنوشي، “من أجل مصلحة تونس ومن أجل إرساء ديمقراطية ناجحة ووضع البلاد على السكة الصحيحة”.
أكتوبر/ تشرين الأول 2011، فازت حركة النهضة التي كانت جزءاً من المعارضة الديمقراطية التي قاومت النظام البوليسي السابق، بأغلبية مقاعد المجلس الوطني التأسيسي ووصلت إلى السلطة عن طريق صناديق الاقتراع في أول انتخابات حرة وشفافة تعرفها البلاد منذ الاستقلال.
كانت تستطيع الحركة حينها أن تحكم لوحدها، فالشعب قد اختارها لذلك حتى ترجع البلاد إلى الطريق السوي بعد 23 سنة من حكم بن علي، إلا أنها ارتأت أن تتنازل للبلاد وتفتح أبواب الحكم للجميع إلا من أبى.
عند تيقنها من ضرورة الانسحاب، قررت النهضة تسليم مفاتيح القصبة والتنازل عن الحكم بداية سنة 2014 لفائدة حكومة مستقلة
مثلت هذه بداية تنازلات الحركة الإسلامية لفائدة تونس. العديد من القوى رفضت عرض النهضة فقد كان همها أن تحكم لوحدها، إلا حزبي حزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات والمؤتمر من أجل الجمهورية.
تنازلت النهضة عن رئاسة البلاد ورئاسة المجلس الوطني التأسيسي، وتشكلت ترويكا نهاية 2011، لتحكم البلاد التي كانت في وضع سيء، فنظام بن علي أنهك كل القطاعات والمجالات نتيجة الاستبداد والقمع والديكتاتورية والفساد والمحسوبية وتدخل العائلة في الحكم وفي الشأن العام.
عمل الجميع في تلك الفترة على إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وإرجاع البلاد إلى السكة الصحيحة، نجحوا في بعض مساعيهم وفشلوا في البعض الآخر، فقوى الشد إلى الخلف كثيرة ومحاولاتهم لعرقلة نهوض البلاد متواصلة في العلن والخفاء.
أهم ما نجحت فيه النهضة وشركاؤها في الحكم صياغة دستور، أشادت به كل الدول والمنظمات، دستور قال فيه رئيس المجلس التأسيسي مصطفى بن جعفر إنه “سيبني دولة مدنية ديمقراطية ويحقق حلم التونسيين وعدة أجيال”.
التنازل عن الحكم
تنازلات النهضة لم تتوقف هنا، ففي فبراير/شباط 2013 شهدت البلاد أزمة سياسية حادة عقب اغتيال السياسي اليساري شكري بلعيد. للخروج من تلك الأزمة اختارت النهضة التخلي عن الوزارات السيادية في الحكومة التونسية في قبول لمطلب أساسي للطبقة السياسية.
انفرجت الأزمة قليلًا، ثم ازدادت حدتها أكثر فقوى الثورة المضادة في الداخل والخارج لا تريد خيرًا بالتجربة التونسية، ووصل التصعيد إلى حد اغتيال النائب القومي في المجلس التأسيسي محمد البراهمي، لتدخل البلاد على إثر ذلك في دوامة من عدم الاستقرار في معظم المناحي.
حملت قوى الثورة المضادة، حركة النهضة مسؤولية ما يحصل في البلاد، وهددت بأنهار دم إذا لم تخرج الحركة من الحكم وتسلمه لهم، أبت النهضة ذلك في البداية خوفًا على مستقبل البلاد الذي اؤتمنت عليه في انتخابات 2011.
عند تيقنها من ضرورة الانسحاب، قررت النهضة تسليم مفاتيح القصبة والتنازل عن الحكم بداية سنة 2014 لفائدة حكومة مستقلة وهي التي فازت بالانتخابات، لكن مصلحة البلاد وفق زعيم الحركة راشد الغنوشي فوق كل اعتبار، فالبلاد كانت متجهة نحو السيناريو المصري.
يقول الغنوشي إن النهضة استيقنت أن البلد بفعل التحولات الدراماتيكية التي عصفت بالإقليم متجه قدمًا نحو الهلاك، وأن السبيل الوحيد لنجاته ونجاة التجربة الديمقراطية الهشة هو تقديم التضحيات من مثل مغادرة النهضة للحكومة جملة، حكومة في نظام شبه برلماني تملك فيها كل السلطات تقريبًا.
في تلك الفترة أيضًا، اختارت النهضة عدم التصويت لقانون “العزل السياسي” الذي يتعلق بإقصاء رموز وأنصار النظام السابق ومنعهم من الترشح للانتخابات، وفضّلت انتظار ما سيفرزه قانون العدالة الانتقالية من محاسبة للمورّطين في الفساد من رموز نظام بن علي.
لم تصادق النهضة على هذا القانون، لأنها تعلم يقينًا أن المصادقة عليه ستدخل البلاد في دوامة من العنف لا تعرف لها نهاية، فقوى الثورة المضادة تنتظر ذلك لتمارس دور الضحية وتروج لخطاب المظلومية والإقصاء، رغم أنهم سبق أن أقصوا أعضاء النهضة وأنصارها ونكلوا بهم داخل البلاد وخارجها أزيد من ربع قرن.
القبول بمشاركة رمزية في الحكم
في انتخابات أكتوبر/تشرين الأول، حلت حركة النهضة في المرتبة الثانية وفازت بـ 69 مقعدًا في البرلمان خلف نداء تونس، إلا أن النهضة قبلت مشاركة جزئية محدودة وصفها بعضهم بالمهينة في حكومة السيد الحبيب الصيد، لتنتقل علاقتهم بنداء تونس من موقع الصدام إلى موقع التوافق والعمل المشترك.
هذه التنازلات لحركة النهضة على مدار التسع سنوات الماضية، جنّبت البلاد بعض الويلات التي كانت ستحصل في غيابها
لم يكن مهمًا عند قيادات النهضة حجم المشاركة في الحكومة مع نداء تونس، بقدر أهمية المشاركة نفسها، فقد كانت تسعى لترسيخ التوافق السياسي في البلاد، خاصة وأن هذا التوافق أغلق مساحات كبرى من الفراغات التي كان يمكن للانفلات النفاذ من خلالها حيث ضيق من هوامش المناورة من قبل الأطراف وسد منافذ التلاعب على المتناقضات.
اختارت النهضة هذا النهج لأنها تعلم أن المحيط الإقليمي غير مستقر وغير ملائم لأي صدام، فنهج التشارك والحكم المشترك أفضل للجميع، حتى تمر تونس بسلام وتنجح في تجاوز كل العراقيل التي تسعى قوى الثورة المضادة لوضعها في سكة الديمقراطية.
رغم المرتبة الأولى رضيت بما قُدم إليها
أكتوبر/ تشرين الأول 2019، فازت حركة النهضة التونسية بالمرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية. القانون يمنحها حق تشكيل الحكومة وتعيين رئيس وزراء من داخلها إلا أنها ارتأت عكس واختارت نهج التوافق، وتقديم شخصية مستقلة لقيادة البلاد.
فشلت الشخصية التي اقترحتها النهضة في تمرير حكومتها، لأسباب عديدة، فقرر رئيس الجمهورية تعيين رئيس حكومة جديد لم تقترحه النهضة وهو إلياس الفخفاخ، ومع ذلك قبلت بمشاركته الحكومة تغليبًا لمصلحة البلاد.
هذه التنازلات لحركة النهضة على مدار التسع سنوات الماضية، جنّبت البلاد بعض الويلات التي كانت ستحصل في غيابها، وأفرز دستور عصري، أشادت به الدول وانتخابات برلمانية ورئاسية سنتي 2014 و2019 وانتخابات محلية سنة 2018، وساهمت في تخفيض منسوب التوظيف الأيديولوجي، الذي كاد أن يوقف قطار الديمقراطية التونسية ويدخلها في صراعات حادة.
نجحت النهضة من خلال هذه التنازلات في التصدي لمحاولات ضرب التجربة التونسية، وإرباك الانتقال الديمقراطي في البلاد، بثّ الفرقة بين أبناء الشعب الواحد والنفخ في الانقسامات الايديلوجية، فهذه التنازلات المؤلمة وضعت حدًا لمحاولات استدعاء صراعات الماضي بين مختلف التيارات الفكرية والدينية والحزبية.