حقبٌ عدة مرت على سوريا – البلد العربي الذي يرزح اليوم تحت وطأة حرب مفتوحة يشنها نظام الحكم وحلفاؤه منذ نحو عقد -، ولعل حقبة ما بعد الاستقلال عن فرنسا فترةٌ بارزةٌ، مسارٌ متشابك للأحداث، انقلابات وبروز للطائفية وحالة حزبية تتراوح إيجابًا وسلبًا، شخصياتٌ ورموز، حياةٌ سياسية واقتصادية واجتماعية جديدة، عكس تلك التي كانت معاشة قبل الاستقلال أو حتى في العهد العثماني، وهي بالتالي ستكون مغايرةً لما بعدها، ونقصد بذلك فترة استلام حزب البعث لمقاليد الحكم وبروز سوريا جديدة محكومة بالعائلة والطائفة والحديد والنار.
نفرد في “نون بوست” مساحة لنسلط الضوء على تلك الفترة التي غُيبت عنا بفعل فاعل، عبر ملف “سوريا بعد الاستقلال” الذي يضم عدة تقارير تتحدث عن الحالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وعن الحالة الحزبية وزمن الوحدة حتى استلام البعث للحكم.
لعل أفضل ما نبدأ به هذا الملف المشوق، حوارٌ مع شخصية تبحرت في تاريخ سوريا وبحثت فيه وتعمقت بتفاصيله وحالته، فكان لنا هذا اللقاء مع الدكتور بشير زين العابدين وهو الباحث والأكاديمي والكاتب السوري والمتخصص في التاريخ السياسي للعالم العربي، حصل على شهادة الدكتوراه في التاريخ السياسي من كلية الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن، ويشغل الآن مديرًا للمرصد الإستراتيجي ومشرفًا عامًا على مركز “شارك”، للدكتور زين العابدين عدة مؤلفات لعل من أهمها “الفساد في سوريا حقائق وأرقام” و”الجيش والسياسة في سوريا 1918-2000″.
يحدثنا زين العابدين فيما يلي عن فترة ما بعد الاستقلال السوري عن فرنسا، وقائع وحقائق ومجريات عن تلك المرحلة.
د.بشير زين العابدين
بدایةً: كیف تنظر إلى الفترة التي مرت على سوریا بعد الاستقلال حتى انقلاب البعث؟
على الرغم من أن الفترة 1946-1963 كانت قصيرة في التاريخ السوري المعاصر، فإنها كانت حاسمة في صياغة الهوية السياسية السورية لعقود مقبلة، خاصة أنها مثلت مرحلة انتقالية من الانتداب الفرنسي الذي استمر لمدة ربع قرن من الزمان (1920-1946) إلى الحكم الاستبدادي المتمثل بانفراد حزب البعث بالسلطة لنحو نصف قرن (1963-2011).
كانت سوريا في تلك الفترة العصيبة على مفترق طرق بين بناء الدولة العصرية وتعزيز مؤسسات الحكم الجمهوري من جهة، وتأسيس سلطة الاستبداد من جهة ثانية، ففي تلك الفترة نشطت الحياة الحزبية، متمثلة في ظهور الحزب الوطني وحزب الشعب والحزب القومي السوري والحزب الشيوعي وحزب البعث العربي الاشتراكي والإخوان المسلمين وعدد كبير من المستقلين الذين تنافسوا في عدة انتخابات نيابية ورئاسية.
إلا أن ضعف التجربة الحزبية والنيابية للأحزاب السورية حديثة التشكل أفرزت ظاهرة تقلب الولاءات السياسية بين أعضاء البرلمان وتذبذب السياسة السورية بين اليمين واليسار دون وجود عنصر توازن للنظام الجمهوري، فيما انتشرت ظاهرة الارتباط بالعسكر والتغلغل في صفوف الجيش السوري، كطريق أقصر للوصول إلى سدة الحكم، فقد كان الشعور السائد لدى أغلب السياسيين بأن مفاتيح السلطة بيد المؤسسة العسكرية، ما دفع بالعديد من المغامرين السياسيين لزج الجيش في أتون المعارك الانتخابية وتشجيع الفكر الانقلابي، وكان لزعماء حزب البعث والحزب القومي السوري الدور الأكبر في هذا الرهان العبثي.
من المؤسف القول إن المؤسسة العسكرية عمدت إلى تضييع تلك الفرصة السانحة وأغرقت البلاد في فوضى الانقلابات العسكرية ضد الحكم المدني، حيث شهد عام 1949 ثلاثة انقلابات قام بها رؤساء الأركان: حسني الزعيم وسامي الحناوي وأديب الشيشكلي، تبعتها حركات انقلابية أخرى في عامي 1951 و1954، ومحاولات انقلابية فاشلة في 1956 و1957، فضلًا عن انقلاب الانفصال 1961 والمحاولات الانقلابية والعصيان العسكري التي شهدها عام 1962، وانتهاءً بانقلاب البعث 1963.
أدت هذه الانقلابات إلى شل حركة المؤسسات الدستورية وتعطيل الحريات العامة وفرض الرقابة على الصحف وأجهزة الإعلام وتعزيز دور أجهزة الأمن والاستخبارات، حيث أقدم في هذه الأثناء ثلاثة من رؤساء أركان الجيش السوري على تولي سائر السلطات التشريعية والتنفيذية وتبوء رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة، ما أدى إلى انتشار الفوضى وبروز ظاهرة الاغتيالات والتصفيات داخل المؤسسة العسكرية، بينما أصبحت وزارات الحكومة ألعوبة بيد قادة الجيش الذين انفتحت شهيتهم لتولي مقاليد السلطة وأصبح التنازع فيما بينهم لتولي المناصب المدنية من أهم سمات عقد الخمسينيات من القرن العشرين.
لا شك أنها كانت سنوات عصيبة فقدنا فيها فرصًا مهمة للتقدم النُظمي والدستوري، لكنها تمثل رصيدًا مهمًا للتفاعلات المجتمعية في سوريا ما قبل الاستبداد، ومن المتعين دراستها بتأنٍ من الأجيال الشابة لفهم الظواهر السياسية في المشهد السوري والتعامل مع تحديات المرحلة المقبلة.
كیف تقترح أن نقرأ تاریخ سوریا في تلك الفترة؟
لا يمكن قراءة التاريخ السوري خلال الفترة 1946-1963 بمعزل عن التطورات الإقليمية والدولية، حيث شهدت تلك السنوات الحاسمة انعتاق سائر الجمهوريات العربية من الحكم الاستعماري/الانتدابي، وخوض الشعوب العربية معركة التأسيس النُظمي بعد انتهاء معارك التحرر فيها.
ومن المؤسف القول إن جميع النظم الجمهورية العربية وقعت ضحية الظاهرة الانقلابية العسكرية، حيث ارتبط التشكل الجمهوري في معظم الدول العربية بالانقلابات العسكرية (الجمهورية المصرية عام 1953، جمهورية السودان عام 1956، الجمهورية التونسية عام 1957، الجمهورية العراقية عام 1958، كل من الجمهورية العربية اليمنية والجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية عام 1962، جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية عام 1967، الجمهورية العربية الليبية عام 1969) التي تربع على الحكم الجمهوري فيها ضباط انقلابيون.
وقد أحصت إحدى الدراسات وقوع أكثر من 120 انقلابًا في العالم العربي منذ منتصف القرن العشرين، منهم نحو 40 انقلابًا ناجحًا لتغيير الحكم، وأكثر من 80 عملية انقلاب فاشلة، وشاب التوتر العلاقات بين هذه الدول منذ السنوات الأولى للتأسيس، حيث وقعت عدة حروب نتيجة تدخل بعض الدول في شؤون جيرانها، فضلًا عن الصراعات الحدودية وطموحات الهيمنة والتوسع.
وبحلول عام 2020 أي في غضون 65 سنة من التأسيس، انهارت المنظومة الجمهورية العسكرية على وقع الاحتجاجات الشعبية، باستثناء الجمهورية العربية السورية التي لا يزال الصراع قائمًا فيها حتى الآن.
ومن خلال تتبع نسق التشكل السياسي للجمهوريات العربية يمكن ملاحظة بروز عوامل: ضعف الحكم المدني وهيمنة العسكر على الحكم وغياب مفاهيم التداول السلمي للسلطة وتدهور العلاقة بين السلطة والمجتمع وتراجع الدبلوماسية واللجوء إلى القوة العسكرية لمعالجة الخلافات بين تلك الدول وتفشي ظاهرة المحاور المتنازعة بدلًا من منظومات إنشاء الشراكات الإقليمية، حيث انقسمت الدول العربية منذ السنوات الأولى لتأسيسها إلى معسكرين متنافسين إحداهما جمهوري والآخر ملكي.
وفي عام 1958، ظهر كيانان اتحاديان عربيان، أحدهما جمهوري بين سوريا ومصر، والآخر ملكي بين الأردن والعراق، إلا أن الكيان الفيدرالي بين المملكتين الهاشميتين انهار في غضون خمسة أشهر إثر انقلاب عبد الكريم قاسم بالعراق في شهر يوليو من العام نفسه، بينما انهارت الجمهورية العربية المتحدة نتيجة انقلاب عسكري في شهر سبتمبر 1961.
وعلى الرغم من قيام نظامين انقلابيين بعثيين في سوريا عام 1963 والعراق عام 1968، فإن العداوة صبغت العلاقة بين السلطتين حتى انهيار حكم البعث في العراق عام 2003.
استلام أديب الشيشكلي للحكم
هل نستطیع – كما يُشاع – أن نعتبر تلك الفترة فترة ذهبیة في تاریخ البلاد السیاسي والاقتصادي والعسكري؟
لا أعتقد أنها فترة ذهبية في تاريخ البلاد السياسي والاقتصادي، فبالإضافة إلى تفشي ظاهرة الانقلابات العسكرية، كان لسلسلة الانقلابات التي شهدتها سوريا خلال الفترة 1949-1963، آثار مدمرة على الحياة المدنية والسياسية، فيما أسفرت الانتخابات عن تشكيل حكومات ائتلافية ضعيفة يتراوح عمر الواحدة منها بين ستة أشهر ويوم واحد فقط.
أما على الصعيد الخارجي فقد هرعت القوى الإقليمية والدولية إلى الاستفادة من حالة الفوضى وانعدام الاستقرار في الداخل السوري، حيث بادر الجيران الهاشميون (في العراق والأردن) إلى محاولة تحقيق طموحات “سورية الكبرى” ووحدة “الهلال الخصيب”، عن طريق دعم مؤيديهم داخل المؤسسات العسكرية والمدنية في سوريا، وبذل المحور السعودي المصري جهودًا موازية للحد من طموحات منافسيهم، ولم تبخل سفارات كل من أمريكا وبريطانيا وفرنسا بما تملكه من معلومات استخباراتية وتسهيلات فنية لصالح ضباط الجيش المتنازعين وفق ما تقتضيه مصالح تلك الدول.
لقد أدت هذه الانقلابات إلى إغراق سوريا في دوامة من المؤامرات التي كانت تحركها أطراف محلية وخارجية، وبحلول منتصف الخمسينيات أصبح واضحًا للعيان أن المؤسسة العسكرية فقدت السيطرة على نفسها وأن الكيان الجمهوري أصبح غير قابل للاستمرار، ولم يبق للقيادة العسكرية خيار آخر إلا الهروب نحو الأمام والدفع بصورة حثيثة نحو إعلان الوحدة مع مصر (1958).
أما على الصعيد العسكري فإن هزائم عامي 1948 و1967 خير دليل على أننا لم نكن نمر بمرحلة ذهبية، فقد أنفقت سوريا أكثر من نصف إيراداتها منذ الاستقلال على الجيش ولكن المردود لم يكن متناسبًا مع حجم الإنفاق، حيث أخذت الجبهة الجنوبية الشرقية للكيان الجمهوري تتقلص بصورة تدريجية منذ حرب 1948، حتى فقدنا الجولان بالكامل، بينما انشغلت فرق الجيش في دمشق باحتلال رئاسة الأركان ومبنى الإذاعة وصياغة البيان رقم (1).
حسني الزعيم في احتفالات عيد الجلاء
ماذا عن الحالة الاجتماعیة في تلك الحقبة؟
مثلت تلك الحقبة مرحلة تحول اجتماعي لم تشهده البلاد منذ عدة قرون، إلى درجة دفعت بعض الباحثين إلى اعتبار الانقلابات العسكرية وحركات التمرد التي أعقبت الاستقلال أنها أول بوادر ثورة الفلاحين على الإقطاعية أو ما اصطلح عليه فيما بعد بثورة الريف على المدينة.
والحقيقة أن سلطة الانتداب الفرنسية (1920-1946) أحدثت شرخًا اجتماعيًا خطيرًا من خلال سعيها لتعميق الفروق الدينية والعرقية والطائفية في سوريا وتبني سياسة تقسيمية من خلال إنشاء دول علوية ودرزية ومسيحية، ودولتين في حلب ودمشق.
هل الحالة الدینیة في تلك الفترة كانت ذات تأثیر على الجو العام سیاسیًا واجتماعیًا؟ وهل نستطیع مقارنتها بما قبلها أو ما بعدها؟
بالتأكيد، مثّل العامل الديني عنصرًا مهمًا في التطور السياسي لسوريا دون شك، وقد كتب القنصل العام لفرنسا في بيروت معلقًا على دور الدين في المجتمع السوري بقوله: “يتزايد اعتقادي بأن الدين في الشرق هو حقًا أساس كل شيء، وبرأيي لا ينبغي أبدًا أن يغيب الدين عن بالنا عندما نحكم على الأحداث والمشاعر والتيارات. بالطبع لا بد من أن نأخذ بعين الاعتبار هنا كما في كل مكان آخر المصالح المادية، لكننا مضطرون في آخر التحليل إلى الاعتراف بأن الدين يتدخل دائمًا”.
وقد فرض التيار الديني نفسه خلال العهد الفيصلي، وكان على رأسه الشيخ محمد رشيد رضا الذي ترأس المؤتمر السوري (1919-1920)، وكذلك الشيخ عبد المحسن الأسطواني الذي كان نائبًا لرئيس مجلس الشورى الذي تشكل بأمر من الحاكم العسكري الفريق رضا الركابي، فيما تزعم الشيخ كامل القصاب “لجنة الدفاع عن الاستقلال” التي تشكلت في أبريل 1919، وكانت من أنشط اللجان السياسية في دمشق، حيث أدت مهمة التنسيق بين الثوار ومدهم بالسلاح والعتاد لمقاومة الاحتلال الفرنسي.
وعندما اجتمع رؤساء الأحزاب وزعماء الجمعيات الوطنية بغرض تأسيس “الجمعية الوطنية العليا” لمقاومة التدخل الفرنسي، انتخب الشيخ كامل القصاب رئيسًا لهذه الجمعية اعترافًا بسبقه في ميدان العمل الوطني، ووصفه يوسف الحكيم في مذكراته بقوله: “كان الأستاذ الشيخ كامل القصاب رئيس أكبر جمعية وطنية، جعلت همها الذود عن وحدة سوريا واستقلالها ومناوئة الفرنسيين لاحتلالهم المنطقة الغربية واستهدافهم الانتداب على سوريا، فكان بخطبه الحماسية المثيرة يلهب عواطف مستمعيه فيهتفون ويصفقون ثم يتبعونه في كل تظاهرة يقوم بها، وقد دعي بحق الزعيم الشعبي”.
وفي مرحلة ما بعد الاستقلال تبوأ الشيخ مصطفى السباعي مكانة شعبية كبيرة من خلال تزعم حركة إسلامية كانت تعتبر امتدادًا لجماعة الإخوان المسلمين في مصر، حيث أصبح المراقب العام للجماعة في سوريا (1944)، وتمكن من جعلها قوة سياسية فاعلة في البرلمان السوري.
وظهرت في تلك الفترة العديد من الجمعيات الدينية التي مارست نفوذًا سياسيًا في المدن الرئيسية، منها: “جمعية شباب محمد” التي برز فيها الشيخان: الصابوني والطنطاوي وترأسها الشيخ عبد الوهاب الأزرق، وكذلك “جمعية الشريعة” التي ترأسها الشيخ علي الدقر، و”جمعية العلماء” التي كان على رأسها الشيخ كامل القصاب.
مصطفى السباعي مع حسن البنا
ما رأیك بالادعاءات التي تحيل الحالة الطائفیة في سوریا إلى تلك الفترة؟
عانت سوريا في مرحلة ما بعد الاستقلال من الإرث الفرنسي المتمثل في إنشاء كيان جمهوري ضعيف في مواجهة مؤسسة عسكرية تهيمن عليها الأقليات، حيث عمد الفرنسيون إلى ترسيخ العداء بين الحكم المدني والأقليات التي كانت تكن مشاعر الضغينة للحكم المركزي، ودأبت على المطالبة بامتيازات خاصة في الأقاليم التي تشكل فيها أغلبية سكانية، وانعكس ذلك بصورة سلبية على استقرار الكيان الجمهوري في مرحلة ما بعد الاستقلال.
وقد وجدت هذه النزعة الطائفية ما يغذيها في الساحة السورية، ومن ذلك ضعف بنية الأحزاب المدنية وغياب الإيديولوجية في المعترك السياسي لصالح التكتلات الإثنية والطائفية، إذ لم تكن الصفة الحزبية للزعيم الشيوعي خالد بكداش تساعده كثيرًا في الحملات الانتخابية بل كان يترشح بصفته نائبًا مستقلًا عن الحي الكردي في دمشق، وكان يعتمد على أصوات حي الأكراد في قاعدته العائلية أكثر من اعتماده على قاعدته الإيديولوجية.
وفي الوقت الذي هيمن فيه أبناء العوائل السنة على زعامة الأحزاب التقليدية كالحزب الوطني وحزب الشعب، كانت أغلب العوائل من الأقليات تحرص على تنسيب أبنائها بصورة منظمة في الجيش وفي الأحزاب “التقدمية” كحزب البعث والحزب القومي السوري، دون قناعة بالفكر الذي تحمله هذه الأحزاب، فقد كانت عائلة الأطرش الدرزية تستحوذ على تمثيل في قيادة المؤسسة العسكرية وعلى رأسهم محمد وحمد وزيد الأطرش، وفي زعامة حزب البعث متمثلة في منصور بن سلطان الأطرش.
وكذلك كانت أسرة جديد العلوية التي استحوذت على تمثيل في قيادة الحزب القومي السوري من خلال غسان جديد وفؤاد جديد بينما كان شقيقهما صلاح جديد وقريبهما عزت جديد من أركان المجموعة العسكرية في حزب البعث.
وظهر الإرث الفرنسي بصورة واضحة في انقلاب حسني الزعيم (مارس 1949) الذي ظهر فيه العنصر الكردي بصورة واضحة في قيادة الجيش، إذ كان عدد الضباط من أصول كردية يزيد على عشرين ضابطًا منهم خمسة في القيادة العامة.
وكذلك الحال بالنسبة للمجلس العسكري الذي نفذ الانقلاب الثاني في العام نفسه (أغسطس 1949)، الذي كان من أبرز أعضائه العقيد علم الدين قواص والرئيس محمد معروف (علويان)، والمقدم أمين أبو عساف (درزي)، والعقيد بهيج كلاس (مسيحي)، والرئيسان حسن الحكيم ومحمد دياب (إسماعيليان)، وخالد جاد (شركسي).
صلاح جديد
وكان للعنصر الدرزي الدور الأبرز في الانقلاب ضد الشيشكلي (1954)، متمثلًا في: أمين أبو عساف وفضل الله أبو منصور ومحمد الأطرش، فيما برز من المدنيين: منصور الأطرش وناصر الأطرش ونايف جربوع، وأظهر انقلاب فبراير 1954 هشاشة الكيان الجمهوري بصورة خاصة، فقد انهارت مؤسسات الحكم المدني أمام طغيان العسكر خلال الفترة 1949-1954، ثم انهارت المؤسسة العسكرية أمام عامل كان أكثر تأثيرًا في الحياة العامة آنذاك وهو ما يمكن أن نطلق عليه تسمية “مؤسسة الطائفة” التي كانت محركًا أساسيًا لأغلب ضباط الجيل الأول من الجيش السوري.
یوجد لكم كتاب عن الجیش والسیاسة في سوریا، كیف ترى دور الجیش في مسار الأحداث بتلك السنوات وتأثیره على الاقتصاد والسیاسة؟
تتحمل الجيوش العربية بالدرجة الأولى مسؤولية الحالة المزرية التي آلت إليها جميع الجمهوريات العربية عام 2020، وعلى رأسها سوريا التي اعتلى فيها العسكريون سدة الحكم وجعلوا مناصب الدولة ألعوبة بأيديهم في الوقت الذي كانوا يمثلون فيه أسوأ الأمثلة على الصعيد المهني، فقد عمد حسني الزعيم (1949) إلى تعطيل الحياة السياسية وإلغاء الأحزاب ونصب نفسه رئيسًا للبلاد بدعم خارجي، وارتكب الشيشكلي الخطأ نفسه (1952-1954)، حيث تعامل مع مؤسسات الحكم المدني بطريقة عبثية، فبعد ستة أشهر من تولي رفيقه اللواء فوزي سلو سائر الصلاحيات التنفيذية والتشريعية (يونيو 1952) قرر المجلس الحربي الأعلى تشكيل مجلس وزراء ليساعد الزعيم سلو في الحكم، وكان على رئيس الدولة أن يختار رئيس مجلس الوزراء الذي يختار بدوره الوزراء.
ويبدو أن سلو لم يكن مستعدًا لتفويض أي سلطات، فقرر أن يتولى منصب رئيس مجلس الوزراء إضافة إلى منصب رئيس الدولة، ثم أعلن استحداث منصب نائب رئيس الوزراء، وقرر الشيشكلي أن يتولى هذا المنصب بنفسه، ثم تتابعت القرارات التي جعلت مناصب الدولة ألعوبة بيد العسكريين، فقرر الشيشكلي ترقية نفسه إلى رتبة زعيم (عميد) فيما رفع سلو نفسه إلى رتبة لواء، وقرر أن يتولي منصب وزير الدفاع إضافة إلى توليه رئاسة الدولة ورئاسة مجلس الوزراء، وتولى الشيشكلي منصب وزير الداخلية إضافة إلى نيابة مجلس الوزراء.
وفي الـ24 من شهر يوليو 1952 أُعلن تشكيل حزب سوري جديد باسم “حركة التحرير العربي” الذي أصبح التنظيم السياسي الشرعي الوحيد في البلاد برئاسة الشيشكلي نفسه.
وفي أعقاب انقلاب عام 1963، أصبحت المناصب المدنية والعسكرية ألعوبة بيد الضباط البعثيين، وكانت المناصب التي تولاها أمين الحافظ مثار سخرية الشارع السوري، حيث أسندت إليه أكثر من عشرة مناصب في آن واحد منها: رئيس مجلس قيادة الثورة وقائد الجيش ورئيس الجمهورية ونائب رئيس الوزراء ووزير الدفاع ووزير الداخلية ونائب الحاكم العسكري، كما أصبح في الـ12 من شهر نوفمبر 1963 رئيسًا للوزراء بالإضافة إلى الاحتفاظ بمناصبه السابقة، وذلك بالإضافة إلى عضويته في كل من القيادة القومية والقيادة القطرية لحزب البعث.
ويجدر التنبيه إلى وجود ارتباط وثيق بين مرحلة حكم حافظ أسد (1970-2000) والمراحل السابقة، فقد كانت النتيجة الحتمية لحالة الفوضى التي انتابت سوريا في مرحلة ما بعد الانتداب هي ظهور الديكتاتوريات العسكرية، إذ كان حكم كل من: الزعيم حسني الزعيم والزعيم أديب الشيشكلي نماذج مبكرة للصورة التي اكتملت أبعادها عقب مخاض عسير للوصول إلى حكم الفريق حافظ أسد الذي استفاد من تجارب سابقيه لتأسيس نظام شمولي يقوم على الحزب القائد في الميدان السياسي والطائفة المسيطرة في الميدان الأمني والعسكري.
كیف یمكننا الحدیث بإنصاف عن فترة الوحدة؟ وكیف أثرت على حالة البلاد؟
يمكن الحديث عنها بإنصاف من خلال استقراء مصادر تلك المرحلة، وتقييمها صورة صحيحة، فمن خلال الرجوع إلى الوثائق الغربية، وقراءة مذكرات المسؤولين السوريين في تلك الفترة مثل خالد العظم وأكرم الحوراني (على سبيل المثال لا الحصر)، يتبين أن تجربة الوحدة مع مصر (1958-1961) لم تكن أكثر من مغامرة ارتجالية قام بها العسكريون ضد الحكم المدني، وعمد أقطاب الحكم المدني بدورهم إلى محاولة استثمارها لإضعاف نفوذ الجيش.
لم تكن مفاوضات الوحدة في حقيقتها أكثر من سباق بين الزعامة المدنية والقيادة العسكرية، يهدف كلا الطرفين من خلالها إلى تحقيق أكبر قدر من المكاسب على حساب الطرف الآخر، وكانت النتيجة خسارة الطرفين.
ونظرًا لأن ترتيبات المرحلة الانتقالية لم تنشأ على أسس سليمة، فقد أثبتت تجربة الوحدة فشلها، وظهرت أول بوادر هذا الفشل في سلسلة الاستقالات التي تقدم بها المسؤولون السوريون، فكان نائب رئيس الجمهورية صبري العسلي أول المستقيلين، حيث خرج من الحكم في أوائل أكتوبر 1958، ثم تبعه الوزراء البعثيون وعلى رأسهم أكرم الحوراني وصلاح البيطار وعبد الغني قنوت الذين استقالوا احتجاجًا على منح المشير عبد الحكيم عامر السلطة التامة للإشراف على القطر السوري، وكان البعثيون يمنون أنفسهم بالسيطرة على الاتحاد القومي، ولكنهم أدركوا أن هذه الخطوة جاءت للحد من نفوذهم، ثم تتالت بعد ذلك الاستقالات، وتبعها الانقلاب العسكري الذي دشن ما اصطلح على تسميته “عهد الانفصال”.
لقد كان حكم عبد الناصر شموليًا عسكريًا يقوم على إلغاء الأحزاب وخنق حريات الصحافة، وكان السياسيون في سوريا يشعرون بالحنق الشديد من إسناد المناصب الوزارية إلى ضباط صغار وإهمال العناصر المدنية الخبيرة والمحترفة للعمل السياسي، كما عانى الموظفون المدنيون في سوريا من نقل عدد كبير من الموظفين المصريين إلى دمشق وإسناد المراكز الحساسة لهم، وإشغال المراكز الحساسة في السلك الخارجي من الموظفين المصريين وذلك في نفس السفارات التي كان السوريون يشغلونها قبل الوحدة.
ولعل المشكلة التي عانى منها الشعب السوري بصفة رئيسة كانت تتمثل في توسيع سلطة الأجهزة الأمنية وتسلط عناصرها إلى درجة أدت إلى ارتكاب جرائم أخلاقية وسياسية بحق المجتمع السوري، بالإضافة إلى كتم الأفواه وكبت الحريات العامة.
كما كان ضباط الجيش الدافع الأساسي لإعلان الوحدة مع مصر (فبراير 1958)، فإنهم كانوا السبب الرئيس في إعلان الانفصال (28 من سبتمبر 1961)
وكان لتبني السياسة الاشتراكية، من تطبيق قانون الإصلاح الزراعي وتأميم الشركات الصناعية دور سلبي في تدهور الاقتصاد السوري، مما أدى إلى تذمر طبقة التجار ورجال الاقتصاد وهروب رأس المال بسبب هذه السياسات المجحفة.
ولكن جميع هذه العوامل لم تكن سببًا في المبادرة بإعلان انفصال مفاجئ على شاكلة إعلان الوحدة المفاجئة قبل ذلك بثلاث سنوات، فقد رأى الكثير من المحللين بأنه كان من الممكن إنقاذ المشروع الوحدوي بمبادرات سياسية وحوار وطني، ولكن الجيش السوري أبى إلا أن يصيغ نهاية الوحدة بطريقته الخاصة وعلى ظهور المدافع والدبابات.
وكما كان ضباط الجيش هم الدافع الأساسي لإعلان الوحدة مع مصر (فبراير 1958)، فإنهم كانوا السبب الرئيس في إعلان الانفصال (28 من سبتمبر 1961)، حيث تحركت قطعات الجيش السوري لتفرض سيطرتها على العاصمة السورية، وأعلنت الإذاعة – للمرة السادسة خلال تسع سنوات – البلاغ رقم (1)، حيث تبين للضباط أنهم فرضوا على البلاد صيغة اتحاد غير قابل للحياة وزجوا بالسياسيين في مفاوضات شابتها الشعارات الرنانة والعواطف الجياشة دون استكمال البنية الوحدوية السليمة التي تحقق الإنصاف والمعاملة المتساوية بين طرفي الاتحاد.