نجحت روسيا بوتين خلال السنوات الخمسة الأخيرة في تحقيق العديد من النجاحات على مستويات عدة، على رأسها المستوى السياسي والاقتصادي، مستندة في ذلك إلى بعض المستجدات الإقليمية والدولية التي ساعدتها في تحسين صورتها الدولية كأحد أبرز اللاعبين على الساحة في عدد من الملفات.
ومنذ مارس 2015 وفي أعقاب دخول موسكو على خط الأزمة السورية، داعمة لنظام بشار الأسد في وجه شعبه، رُجحت كفة روسيا بصورة كبيرة، وباتت ضلعًا مهمًا في أحد أبرز الملفات التي تتشابك فيها العديد من الخطوط الدولية، وهو ما أضفى قيمة ومكانة للدور الروسي بعد غياب دام عقود طويلة منذ سقوط الاتحاد السوفيتي.
ومع تصدر اسم بوتين قوائم نشرات الأخبار العالمية وموائد النقاش السياسي الإقليمي والدولي كأبرز المؤثرين في المشهد حيال الملف السوري، تصاعدت أحلام الزعامة للرئيس الروسي الذي يسعى بكل قوة لاستعادة ما يمكن استعادته من إمبراطورية بلاده المنهارة على أبواب الفساد والضعف والديكتاتورية.
يذكر أن روسيا والصين كانتا على رأس خلافة أمريكا نحو الهيمنة على العالم بعد مؤشرات التراجع الأمريكي، وإن كانت معظم التكهنات تذهب إلى إمكانية أداء موسكو لهذا الدور في ظل تركيزها على الوتر السياسي في تعاملاتها مقارنة بالصين التي تولي اهتمامها الأكبر للبُعد الاقتصادي، مبعدة نفسها بشكل أو بآخر عن الملفات الحساسة ذات الخلاف في المنطقة.
عزز هذا التوجه العلاقة القوية التي جمعت بين موسكو والعواصم العربية والشرق أوسطية خلال الأعوام الثلاث الأخيرة على وجه التحديد، حتى مع البلدان التي تصنف بأنها حليفة للولايات المتحدة، وهو الأمر الذي أثار حفيظة الأمريكان إلى الحد الذي خرجت بعض الأصوات الداخلية هناك لتطالب تلك الدول بالتخلي عن علاقاتها تمامًا مع موسكو.
غير أن الصورة التي رسمها بوتين وحكومته بشأن قوة بلاده وقدرتها على إعادة عقارب الزمن مرة أخرى لم تدم طويلًا، فمع أول أزمة فعلية تكشفت الأمور بشكل ينافي ما رُوج له، فحين انهارت أسعار النفط جراء العناد الروسي مع السعودية فيما سمي إعلاميًا بـ”حرب الأسعار” وما تلاها من تداعيات اقتصادية بسبب جائحة كورونا، باتت زعامة بوتين على المحك، الأمر الذي ربما يدفع موسكو إلى إعادة النظر في سياساتها الخارجية حيال بعض الملفات.
النفط.. ورقة الضغط الأكثر تأثيرًا
تعرض الاقتصاد الروسي لهزة عنيفة جراء حرب أسعار النفط التي أشعلها العناد السعودي الروسي حين رفضت موسكو قرارات اجتماع منظمة أوبك في مارس 2020 بخفض الإنتاج للسيطرة على تهاوي الأسعار، مصرة على استمرار إنتاجها كما هو، الأمر الذي أدى في النهاية إلى انهيار الأسعار لمستويات تاريخية بلغت ما دون الصفر في بعض الأوقات.
أدت تداعيات كورونا إلى غلق الحدود ووقف عمليات الاستيراد والتصدير بجانب تراجع الطلب على النفط حتى بات أرخص من المياه في بعض الدول
وقد شهد النفط الروسي العديد من الأزمات تلو الأزمات قبيل حرب الأسعار تلك، حيث انخفض إنتاجه من 12 مليون برميل يوميًا إلى 6 ملايين فقط، ثم ما لبث أن عاود الارتفاع مرة أخرى، لكنه الارتفاع الذي لم يحقق العائد المأمول منه، فضلًا عن دوره في استنزاف الحقول إلى الحد الذي بات مستقبل النفط على المحك.
وقد أدى الاستخدام الجائر للنفط إلى تعرض كبرى الآبار المنتجة في البلاد لأزمة كبيرة على رأسها آبار غربي سيبيريا، التي تتميز بمعدلات إنتاجها الكبيرة وسهولة استخراج المادة الخام بأقل كلفة، الأمر الذي أجبرهم على اللجوء إلى الآبار الأخرى ذات كلفة الاستخراج العالية، ما انعكس على إجمالي العائد من المادة الخام.
وحاولت موسكو التحايل على هذه المعضلة بالعديد من الإستراتيجيات المتعلقة بزيادة نسب الإنتاج رغم ضغوط الدول المنتجة، إلا أن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن، حيث أدت تداعيات كورونا إلى غلق الحدود ووقف عمليات الاستيراد والتصدير بجانب تراجع الطلب على النفط حتى بات أرخص من المياه في بعض الدول.
وضع اقتصادي حرج
رغم الأزمات والتحديات التي يواجهها الاقتصاد الروسي منذ فترة، فإن تداعيات كورونا كان لها دور كبير في تعميق الأزمة، حيث أدت إلى خسائر بالجملة، أفقدت المنظومة الاقتصادية العديد من مواردها التي ظلت تعتمد عليها لفترات طويلة، وهو ما يعد تحديًا كبيرًا يضع النظام الحاكم في موقف حرج.
وتفصيلًا فقد انخفضت عائدات روسيا من النفط بعد أزمة كورونا بنحو 165 مليار دولار، وهو رقم ليس بالقليل بالفعل، ما اضطر الحكومة للتوجه نحو الاحتياطي النقدي لتمويل المشروعات والاحتياجات، وتعويض العجز المترتب على تراجع العائدات الخارجية، هذا بخلاف الموقف الصعب الذي باتت عليه الدولة بشأن مواجهة الوباء.
الأرقام الكبيرة التي شهدتها البلاد في معدلات الإصابة بالفيروس وأعداد الوفيات في ظل تراجع مستوى المنظومة الصحية وتواضع إمكاناتها على عكس المروج له، كان له أثر سلبي كبير في إرهاق ميزانية الدولة واستنزاف خزانتها بصورة أثرت على بقية القطاعات والمجالات المعيشية الأخرى.
وقد بلغ إجمالي عدد الإصابات بفيروس كورونا في روسيا حتى الثلاثاء 26 من مايو 2020 قرابة 326342 حالة، فيما تجاوزت الوفيات قرابة 3807 حالات، هذا في الوقت الذي يتوقع فيه تواصل ارتفاع منحنى الإصابات والوفيات في ظل الهزة التي تعرضت لها المنظومة الصحية بالبلاد.
كما توقع وزير المالية الروسي أنطون سيلوانوف، تراجع الإنتاج القومي لبلاده بنسبة 10% خلال الفترة القادمة، مضيفًا خلال تصريحات له أن عهد ازدهار الاقتصاد الروسي ولى، مستبعدًا أن ترى الدولة عائدات النفط المرتفعة مرة أخرى، وأن العقد الأول من القرن الحادي والعشرين قد لا يتكرر في التاريخ الروسي.
موقف حرج بات فيه الرئيس الروسي، ربما يدفعه لإعادة النظر في أحلام الزعامة التي يسعى لتحقيقها
أحلام الزعامة تتراجع
الأوضاع الاقتصادية المتردية ألقت بظلالها القاتمة على المشهد الداخلي، حيث زادت من حالة احتقان الشارع وذلك منذ التعديلات الدستورية التي أقرها بوتين منذ أشهر التي تسمح له بالبقاء في الحكم لما بعد 2024، فرغم الإجراءات التي اتخذها الرئيس لدعم الشركات الناشئة كتأجيل مواعيد استحقاق القروض والضرائب، فإنها لم تعد بالشكل الكامل على المواطن العادي.
الأجواء الملبدة بسحائب الاحتقان كشفتها نتائج استطلاعات الرأي الأخيرة بشأن مدى رضا الشعب عن السياسة الخارجية لبوتين، حيث كشف استطلاع حديث أن 55% من الروس يريدون أن تنسحب روسيا من سوريا و37% يتوقعون أن سوريا سوف تصبح أفغانستان جديدة يذوق فيها الروس الجحيم.
النتائج تلك في حال مقارنتها بالأوضاع الاقتصادية المتردية وما يترتب عليها من تخفيض حجم الدعم المقدم للقوات الروسية في سوريا، تذهب إلى ترجيح إعادة موسكو، بصورة كاملة أو جزئية، النظر في وجودها داخل الأراضي السورية، لا سيما في ظل استمرار الوجود الإيراني الذي قد يعوض ضمنيًا الدور الروسي، وهو ما ينسحب بالتبعية على الملف الليبي كذلك.
هذا الرأي تعزز بشكل كبير مع النتائج التي خرج بها الاستطلاع الذي أظهر انزعاج الشعب الروسي من مغامرات بوتين الخارجية خلال عام 2019، حيث تراجع معدل الموافقين على أداء بوتين من 60% عام 2017/2018 إلى 42% عام 2019، فيما يرى 27% من الجمهور أن أداء الرئيس الخارجي فاشل تمامًا، فيما وقفت النسبة المتبقية على الحياد.
موقف حرج بات فيه الرئيس الروسي، ربما يدفعه لإعادة النظر في أحلام الزعامة التي يسعى لتحقيقها، ففي الوقت الذي يسارع فيه الزمن لإعادة أمجاد السوفييت قديمًا، إذ به يجد نفسه محاطًا بمثلث ربما يطيح بتلك الزعامة، فإن استطاع التغلب على ضلع النفط بعد استعادة الأسعار توازنها مرة أخرى فسيجد نفسه بين فكي كماشة النزيف الاقتصادي وتراجع الشعبية، وهو ما قد ينسحب على السياسة الخارجية لبلاده حيال بعض الملفات، ومواضع التمركز على خريطة التحالفات الإقليمية والدولية، وهو ما تكشفه الأيام القادمة.