ترجمة وتحرير: نون بوست
قاد جنديان سابقان في البحرية البريطانية قاربين مطاطيين عبر البحر المتوسط من مالطا، كما نقلت ست طائرات هليكوبتر من بوتسوانا باستخدام أوراق مزورة. أما بقية الفريق، وهم جنود مرتزقة من جنوب أفريقيا وبريطانيا وأستراليا والولايات المتحدة، فقد وصلوا من منطقة التجمع في الأردن. وإذا سُئل المرتزقة، الذين تسللوا إلى ميناء بنغازي في ليبيا، عن سبب وجودهم في المنطقة، سيقولون إنهم في مهمة لحراسة المنشآت النفطية.
في الواقع، يؤكد تقرير من الأمم المتحدة أن مهمتهم كانت القتال إلى جانب القائد الليبي خليفة حفتر أثناء هجومه الشامل على العاصمة طرابلس مقابل 80 مليون دولار. في المقابل، سارت الأمور بشكل خاطئ بسرعة بعد خلاف بين حفتر والمرتزقة بشأن جودة الطائرة. وفي الثاني من شهر تموز/يوليو، بعد أربعة أيام فقط من حلولهم في ليبيا، صعد الجنود المرتزقة على متن قواربهم السريعة متوجهين إلى مالطا.
على الرغم من أن المهمة الفاشلة كانت قصيرة، إلا أنها تقدم تفسيرا واضحا للصراع في ليبيا، حيث خلقت الحرب، التي يقودها رعاة أجانب أقوياء كالإمارات العربية المتحدة وتركيا وروسيا ومصر، أرضية مربحة للمهربين وتجار الأسلحة والمرتزقة وغيرهم من المستفيدين الذين ينتهكون حظر السلاح إلى ليبيا دون الخوف من العواقب.
تجمع ليبيا بين الثروة النفطية وبين معايير القتال غير المنتظمة. ومع سحب المرتزقة الروس والسوريين والسودانيين والتشاديين والغربيين إلى القتال، فإنها تتميز بخلق حرب المرتزقة على المرتزقة. وفي بعض الأحيان، يكون القتال بين رجال من نفس البلد، مثل السوريين. ومن جهته، يقول ولفرام لاشر، خبير في الشؤون الليبية في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية: “إنها مفتوحة للجميع.. الجميع يجلبون أنواعا سخيفة من الأسلحة والمقاتلين إلى ليبيا، مع وجود سوريين في كلا جانبي القتال، ولا أحد يوقفهم”.
أسلحة أجنبية ومال ومقاتلون
باعتبارها دولة غنية بالنفط وذات كثافة سكانية منخفضة، عانت ليبيا من الفوضى منذ الإطاحة بدكتاتورها العقيد معمر القذافي، الذي حكم البلاد لعقود من الزمن، من قبل تحالف مدعوم من قبل الولايات المتحدة الأمريكية سنة 2011. ولقد أسست مفاوضات السلام حكومة هشة مدعومة من الأمم المتحدة في طرابلس، والتي يهدف حفتر إلى الإطاحة بها.
منذ هجومه الأول سنة 2014، وقع دعم حفتر بمجموعة من القوات الأجنبية. ففي السنة الماضي، قامت مجموعة فاغنر القوية والمدعومة من الكرملين، بشن هجوم على طرابلس. في المقابل، انضمت تركيا للقتال نيابة عن طرابلس في كانون الثاني/يناير وألقت بحملة حفتر في حالة من الفوضى.
أفادت وكالة “رويترز” بأن قوة عسكرية كبيرة من المقاتلين الروس انسحبت مع أسلحتها من الخطوط الأمامية للحرب جنوب العاصمة خلال عطلة نهاية الأسبوع ووقع نقلها في ثلاث طائرات إلى معقل حفتر، ومن المرجح أن يحدد الرعاة الأجانب الأقوياء لحفتر خطوته التالية.
في شهر شباط/ فبراير، ووفقا لتقرير سري قُدم إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وقع تنظيم وتمويل حملة المرتزقة الفاشلة الصيف الماضي من قبل شبكة من الشركات السرية في الإمارات العربية المتحدة. ويسيطر على هذه الشركات، أو يمتلكها جزئيا، كريستيان دورانت، وهو رجل أعمال أسترالي وطيار سابق وشريك مقرب لأشهر مرتزق ورجل أعمال في الولايات المتحدة، إريك برنس.
صورة لكريستيان دورانت مأخوذة من وسائل التواصل الإجتماعي.
قدّم برنس، الذي كانت علاقاته الوثيقة مع إدارة ترامب تخضع لرقابة من قبل الكونغرس في السنوات الأخيرة، قوات مليشيا خاصة لولي العهد محمد بن زايد، الحاكم الفعلي للإمارات العربية المتحدة وأحد أهم داعمي حفتر. في المقابل، يبحث محققو الأمم المتحدة في مسألة ما إذا كان برنس قد لعب أي دور في عملية المرتزقة الفاشلة. وفي هذا السياق، قال برنس من خلال المتحدث باسمه إنه “لا علاقة له بأي عملية عسكرية خاصة مزعومة في ليبيا”.
من جهته، قال شون ماكفيت، وهو مقاول عسكري سابق وأحد أكبر الباحثين في المجلس الأطلسي:” إن ليبيا بمثابة دراسة إفرادية لميزات الحرب المتغيرة.. نحن نفكر في الحرب كنشاط سياسي، ولكنها أصبحت في ليبيا نشاطا تجاريا. يوجد هؤلاء المحاربين الذين يبحثون عن الربح المادي ويشنون ذلك النوع من الحروب التي ناقشها مكيافيلي في القرن السادس عشر”.
“أي شيء وفي أي وقت وفي أي مكان”
قاد ستيف لوج، وهو ضابط سابق في سلاح الجو الجنوب الإفريقي خدم أيضًا في الجيش البريطاني وعمل كمقاول عسكري خاص في نيجيريا، فريقا متكوّنا من 20مرتزقا، الذين وقع نشرهم في بنغازي في حزيران/ يونيو. وكان الآخرون أيضًا عساكر سابقين، حيث أن 11 منهم كانوا من جنوب إفريقيا وخمسة بريطانيين وأستراليان وأمريكي واحد وهو طيار مدرب. كانت مهمتهم تهدف إلى منع شحنات الأسلحة التي زودتها تركيا من الوصول إلى الحكومة في طرابلس عن طريق البحر.
يقول محققو الأمم المتحدة إن الخطة كانت تهدف إلى إنشاء قوة هجومية بحرية باستخدام زوارق سريعة وطائرات هليكوبتر هجومية، والتي ستركز على مداهمة وتفتيش السفن التجارية. ويعتقد محققو الأمم المتحدة أن القوة البحرية كانت جزء من مهمة أكبر تضمنت أيضا قوات الكوماندوز التي تقوم بمراقبة وتدمير أهداف العدو.
من جهة أخرى، كشف ثلاثة مسؤولين كانوا على إطلاع بالتحقيق الذي أجرته الأمم المتحدة، والذي نقلته وكالة بلومبرج أولا، لصحيفة نيويورك تايمز عن محتوياته وقدموا نسخا من الوثائق. الجدير بالذكر أن هؤلاء الأشخاص تحدثوا بشرط عدم الكشف عن هويتهم لأنه لا يُسمح لهم بالتحدث إلى وسائل الإعلام.
في الحقيقة، وقع شراء ست طائرات هليكوبتر في جنوب أفريقيا ونقلها بالشاحنات إلى المطار الدولي في غابورون، بوتسوانا. وعلى الرغم من أن هذه العملية سرية، إلا أنها تركت وراءها العديد من الأدلة مثل الصور الإلكترونية التي نشرتها صحيفة “بوتسوانا غاريت” لثلاث مروحيات من نوع سوبر بوما وهي محملة على شاحنات ويتم نقلها على الطريق السريع. إلى جانب ذلك، وقع تحميل المروحيات في طائرات شحن تملكها شركة أوكرانية تدعى “سكاي افيا ترانس” والتي استعارت شعارها من وكالة الاستخبارات الأمريكية “سي آي إيه” في حرب فيتنام وهي “أي شيء وفي أي وقت، وفي أي مكان باحترافية”.
وقعت الإشارة إلى الخطوط الجوية السنة الماضية في تقرير للأمم المتحدة لنقل عناصر عسكرية إلى ليبيا. وقد أُدرج في وثائق الرحلة أن وجهة الطائرات كانت الأردن، لكنها هبطت في مطار بنغازي، بالقرب من المقر الرئيسي للمشير حفتر في شرق ليبيا. ثم استُؤجر زورقان سريعان، صُلبا الهيكل وقابلان للنفخ، وهو نوع من القوارب الذي غالبا ما تستخدمه القوات الخاصة، من جيمس فينيش، تاجر الأسلحة المالطي المرخص.
من جهة أخرى، تفاوض القائد لودج على الصفقات ولكن وقع التعاقد عليها ودفع تكاليفها من قبل العديد من الشركات التي مقرها دبي والتي يسيطر عليها أو يملكها دورانت. وتعد شركة “لانكستر 6″ جزء من شبكة من الشركات المُسماة على نحو مماثل في مالطا والإمارات وجزر العذراء البريطانية. ويحمل موقعها على شبكة الإنترنت شعار “الازدهار يولد السلام”.
أما شركة “أوبوس كابيتال أسيت”، فتديرها سيدة الأعمال البريطانية البارزة في دبي أماندا كاتي بيري، التي تروج لسيدات الأعمال، كما أشادت بها مجلة “المرأة الإماراتية” المحلية كواحدة من “الملهمين” لسنة 2019. وفي اتصال معه على الهاتف، استخدم لودج، الذي يقطن في اسكتلندا، عبارة بذيئة لرفض الاتهامات بانتهاك حظر الأسلحة، ثم أغلق المكالمة. وقد رفضت بيري، التي وقع الاتصال بها عبر الهاتف، التعليق. علاوة على ذلك، دحضت متحدثة باسم السيد دورانت النتائج التي توصلت إليها الأمم المتحدة بشأن بعثة ليبيا باعتبارها “ببساطة غير واقعية ومضللة” ولم ترد على أية أسئلة أخرى.
الخطة تصطدم بعقبة
في بنغازي، غضب حفتر من كون المرتزقة ربما يكونون قد أحضروا طائرات قديمة، أطلق عليها أحد المسؤولين اسم “مروحيات متهالكة”، بدلا من الطائرات فائقة القوة التي وُعدوا بها. وأشارت وثيقة حصلت عليها الأمم المتحدة إلى أن الطائرة الموعودة تضمنت طائرة هليكوبتر هجومية من طراز كوبرا وطائرة من طراز لاسا تي-بيرد، وهي طائرة تُستخدم لرش الحقول ومعدلة للاستطلاع والحرب.
من جهة أخرى، قرر المرتزقة، الذين لم يتمكنوا من التوصل إلى تفاهم مع القائد الليبي، الانسحاب إلى مالطا. ولكن بعد مغادرة بنغازي ليلة الثاني من شهر تموز/ يوليو، واجهوا مشكلة في أحد قواربهم مما أجبرهم على التخلص منه. لذلك، تزاحم جميع الرجال الذين بلغ عددهم 20 على متن قارب واحد وواصلوا رحلتهم إلى مالطا. بعد أسابيع، عثر خفر السواحل الليبي على القارب المهجور حيث نشرت وسائل الإعلام الإخبارية المحلية صور له.
عرّف دورانت نفسه على موقعه على الإنترنت على أنه رجل أعمال وعامل في المجال الإنساني، من خلال صورة يظهر فيها حاملا طفلًا كينيًا. وجاء في منشور في إحدى المدونات “لإنقاذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب”. ومع ذلك، فقد وقع ربط جزء كبير من حياة دورانت المهنية الأخيرة ببرنس، وهو منظم المشاريع العسكرية الخاصة المتفاخر، صاحب شركة “بلاك ووتر” التي اشتهرت بقتل 17 مدنيًا في العراق في سنة 2007. في السنوات الأخيرة، شارك برنس ونظم مشاريع عسكرية خاصة في الصومال ومالي وجنوب السودان وأفغانستان.
بدء من سنة 2014 وصولا إلى سنة 2016، عمل دورانت تحت قيادة برنس في شركة تسمى “فرونتير سيرفسس جروب” حيث قاد مشروعا مثيرا للجدل لتحويل طائرات من طراز ثراش إلى طائرات حربية رخيصة. وقع نقل المشروع في وقت لاحق إلى شركة بلغارية مرتبطة ببرنس، أطلق عليها اسم لاسا تي-بيرد، وهو طراز الطائرة الذي وُعد بها حفتر.
في سنة 2017، ارتبط دورانت باقتراح برنس بإنشاء سلاح جوي خاص لمحاربة طالبان في أفغانستان وذلك عندما أدرج برنس شركة “لانكستر 6” باعتبارها شريكة في العرض إلى وزارة الدفاع، وذلك وفق تقرير صحيفة “ذي تايمز” العسكرية.
يحب دورانت التباهي بمعرفته بواشنطن، حيث يظهر مرتديا نظارة شمسية على منصة غرفة الصحافة في البنتاغون في صورته الشخصية على فيسبوك. إلى جانب أنه يحب الإبحار بشدة، كما أنه يتشارك في امتلاك يخت من نوع التريماران مع برنس، ونشر الشهر الماضي صورا لقارب القطمران مزين بشعار “بلاك ووتر” ومعروض للبيع مقابل 25 ألف دولار. ويُذكر أن نفس المركبة مُسجلة باسم برنس.
في شهر تموز/ يوليو الماضي، مع استئناف المرتزقة لعملياتهم في ليبيا، دفعت الشركة الإماراتية “كابيتال” ما لا يقل عن 60 ألف دولار إلى جماعة الضغط “فيدرال أسوشيتس” في واشنطن لمساعدة البيت الأبيض حول ما وصفته “بالقضايا الجيوسياسية في أفريقيا”. وقد صرّحت المتحدثة باسم دورانت إن كلا من شركة “أوبوس ” و”لانكستر 6″ كانت تتعاون مع محققي الأمم المتحدة وعرضت مقابلتهم. وأضافت أن السيد برنس ليس له دور في الشركات. كما قالت: “إنه ليس مساهما أو مديرا أو يعمل في أي من الشركتين”.
“نكتة” الحظر
إن الحظر الدولي المفروض على توريد الأسلحة إلى ليبيا لا معنى له. كما يواجه أي شخص ينتهك القوانين حظرا محتملا على السفر وتجميد الأصول، ولكنه لم يقع معاقبة سوى مواطنين غير ليبيين حتى الآن، وكلاهما مهربان إريتريان. وحتى كبار مسؤولي الأمم المتحدة يصفون الحصار بأنه “مزحة“.
لا يمكن للقوى الكبرى أن تتفق على من يحقّ معاقبته، وذلك إما بسبب خلافها العلني بشأن ليبيا أو بسبب سياسات المتذبذبة والمتناقضة مثل الولايات المتحدة. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة تدعم الحكومة رسميا في طرابلس، إلا أن ترامب أعرب عن دعمه لحفتر، وفي السنة الماضية أعطى كبار مسؤوليه الضوء الأخضر لهجوم حفتر على طرابلس.
جاءت عملية المرتزقة بعد شهرين، والتي لا يزال التحقيق في شأنها مستمرا. وقد صرّح المسؤولون بأن هناك أدلة كافية بالفعل ضد بعض الأفراد لتبرير العقوبات. ولكن حتى الآن كانت مالطة الوحيدة التي اتخذت الإجراءات القانونية، حيث اتهمت الشرطة الشهر الماضي تاجر الأسلحة، فينيش، وأربعة من موظفيه بانتهاك عقوبات الاتحاد الأوروبي لتزويد المرتزقة بالقوارب السريعة.
من جهته، نفى السيد فينيش ارتكابه لأية مخالفات. وقال في رسالة عبر البريد الإلكتروني: “لقد قمنا بتأجير سفينتين في اتفاقية قارب عاري ووجدنا أنفسنا في وضع لا يمكن تصديقه”. علاوة على ذلك، تربط فينيش علاقات تجارية مع السيد برنس. ففي سنة 2018، أطلق الطرفان شركة “بلاك ووتر أنيميشن“، التي تبيع ذخيرة للبنادق الهجومية والسكاكين والساعات تحت علامة “بلاك ووتر” التجارية.
بشكل عام، تعتبر حرب ليبيا الفوضوية موسّعة للغاية لدرجة أن بعض المستفيدين تمكنوا حتى من العمل على جانبي خط الجبهة، ولكنها يمكن أن تكون محفوفة بالمخاطر. ففي الخامس من شهر آب/ أغسطس، قصفت طائرة تقودها قوات حفتر طائرة شحن على المدرج في مصراتة، في الأراضي التي تسيطر عليها الحكومة. وقد كانت نفس طائرة الشحن من طراز “سكاي أفيا ترانز” التي سلمت طائرة هليكوبتر إلى حفتر قبل شهر. وقد قال المسؤولون هذه المرة إنها كانت تحمل إمدادات عسكرية إلى طرابلس.
المصدر: نيويورك تايمز