تمثل السياسة الخارجية إحدى أهم التحديات التي تواجه حكومة الثورة السودانية، إذ أدّت السياسة الخارجية المرتبكة لنظام الرئيس المخلوع عمر البشير إلى عزل السودان عن محيطه الإقليمي والدولي، ثم إدراجه على قائمة الدول الراعية للإرهاب وفرض حظر اقتصادي قاسٍ على البلاد تضرر منه المواطن السوداني والحكومة على حد سواء.
بعد سقوط البشير وفي ظل الحكومة الانتقالية الحاليّة، حدثت تطورات إيجابية على صعيد العلاقة مع الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة ودول أوروبا، لكن إقليميًا تبدو حكومة الثورة وكأنها متماهية مع أحد المحاور في المنطقة، وهذا يناقض ميثاق الحرية والتغيير الذي تواثقت عليه القوى المدنية مطلع العام الماضي حتى سقط النظام ثم دخلت قوى التغيير في شراكة مع القادة العسكريين الذين استلموا السلطة عقب سقوط البشير.
سنتطرق بالتفصيل في هذا التقرير إلى وضيعة العلاقات الخارجية للسودان وهل تم الالتزام فعليًا بالسياسة الخارجية المتوازنة التي تعهد بها رئيس الوزراء عبد الله حمدوك بعد توليه المنصب؟ ولماذا تشهد علاقات السودان فتورًا واضحًا مع قطر؟ وهل يمكن معالجة هذا الفتور أو البرود بعد تصريحات بشأن السياسة الخارجية جاءت في مقابلة لحمدوك مع حزب البعث وإشارات إيجابية أطلقها قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو “حميدتي” تجاه الدوحة مؤخرًا؟
سياسة خارجية متقلبة في عهد المخلوع
في البداية نشير إلى أن 7غاالبشير انتهج سياسة متقبلة ومثيرة للجدل، فحتى وقت قريب من سقوطه كان حليفًا قويًا لإيران التي دعمته سياسيًا وعسكريًا، لكنه فجأة انقلب عليها دون سابق إنذار وشارك في عاصفة الحزم العملية العسكرية التي شنتها السعودية على جماعة الحوثي في اليمن عام 2015، ثم قطع العلاقات كليةً مع طهران في العام 2016 وهو قرار اتخذه البشير بمعزل عن وزارة الخارجية إثر نصيحة من مدير مكتبه طه عثمان المقرب من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.
بعد سقوط نظام البشير مباشرةً انحاز المجلس العسكري المحلول بشكلٍ سافرٍ إلى المحور الإماراتي السعودي
عندما نشبت الأزمة الخليجية بين قطر من جانب والإمارات والسعودية والبحرين من الجانب الآخر اختار البشير الحياد، وهو موقف لم يعجب طرفي الأزمة.. فقطر كانت الداعم المالي الأول لحكومة البشير لفترة طويلة وكانت تنتظر منه موقفًا أقوى برفض الإجراءات التي اتخذتها ضدها الدول الأربعة، بينما كان القادة السعوديون والإماراتيون يعتقدون أن الرئيس السوداني سينضم إليهم ويعلن قطع العلاقات مع قطر كما فعلها مع إيران.
بعد سقوط نظام البشير مباشرةً انحاز المجلس العسكري (المحلول) بقيادة عبد الفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو “حميدتي” بشكلٍ سافرٍ إلى المحور الإماراتي السعودي، فلم يرحب بوزير الخارجية القطري، وتلك حادثة سنعود إليها بالتفصيل، وكاد المجلس أن يتخذ قرارات عدائية ضد قطر وتركيا لولا خشية قادته من ردة فعل ائتلاف قوى الثورة الذي كان يحذر العسكر من خطورة الاصطفاف وراء أي محور إقليمي ودولي مسترشدًا بميثاق الحرية والتغيير الذي ينص بشكل صريح على “تحسين علاقات السودان الخارجية وبناؤها على أسس الاستقلالية والمصالح المشتركة والبعد عن المحاور”.
الائتلاف المدني يضغط على العسكريين
سفارتا الرياض وأبو ظبي في الخرطوم حاولتا استقطاب عدد من رموز القوى الثورية واحتضانها وإغرائها، إلا أن تلك المحاولات فشلت بعد الضغط الإعلامي الذي مارسه الثوار في الشارع إلى جانب البيانات القوية التي كان يصدرها الحزب الشيوعي السوداني منفردًا أحيانًا، وكان يفضح فيها بعض تصرفات رموز إعلان الحرية والتغيير وزيارات بعض القادة سرًا إلى أبو ظبي.
وأثمرت ضغوط قوى الحرية والتغيير على المجلس العسكري لاحقًا إلى إعادة فتح مكتب قناة الجزيرة الذي كان قد أغلقه قبل يومين فقط من مجزرة فض اعتصام القيادة العامة، واشترط الائتلاف المدني كذلك دعوة تركيا للمشاركة في مراسم التوقيع النهائي، ولم ينته الأمر عند هذا الحد بل استقبل رئيس المجلس العسكري عبد الفتاح البرهان وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو الذي وصل الخرطوم قبل التوقيع النهائي على الاتفاق الدستوري بين قوى التغيير والمجلس العسكري بيوم واحد.
كان المجلس العسكري المحلول يريد توجيه الدعوة لحفل التوقيع إلى داعميه الإقليميين “السعودية والإمارات” فقط، إلا أن المدنيين ضغطوا من أجل توجيه الدعوة إلى دول الخليج الستة للمشاركة في حفل التوقيع النهائي على اتفاق نقل السلطة وكذلك الدول المؤثرة المنخرطة في الشأن السوداني كتركيا، فمثّل دولة قطر وزير الدولة للشؤون الخارجية سعد المريخي.
شكّل توجيه الدعوة إلى تركيا وقطر خطوة أوليّة نحو تصحيح مسار العلاقات الخارجية لعهد ما بعد البشير، أعقب ذلك لقاءات أجراها رئيس الوزراء عبد الله حمدوك مع عدد من القادة الدوليين على هامش الدورة 74 للجمعية العامة للأمم المتحدة من بينهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، حيث نقلت وكالة الأنباء السودانية الرسمية أن حمدوك أشاد “بدور قطر المحوري في عملية السلام بدارفور، مثمنًا دعمها ومواقفها تجاه السودان”.
عتاب ضمني متبادل بين الدوحة والخرطوم
فيما بعد، وجّهت قطر دعوة رسمية إلى كل من رئيس المجلس السيادي عبد الفتاح البرهان ورئيس الوزراء حمدوك لزيارة الدوحة، حيث أكد مطلق القحطاني مبعوث وزير الخارجية القطري دعم بلاده لبرامج حكومة الفترة الانتقالية ووقوف قطر مع السودان لإزالة اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب.
إلى هنا كانت الأمور تمضي في سياق إيجابي، لكن رئيس المجلس السيادي البرهان ورئيس الوزراء حمدوك لم يلبيا الدعوة القطرية حتى الآن، عكس الدعوة التي وجهتها لهما كل من السعودية والإمارات حيث حرص الرجلان على تلبيتها سريعًا.
وهذه واحدة من أسباب عدم الرضا الذي تشعر به قطر من الحكومة السودانية خاصة الجناح المدني الذي يفترض أنه مستقل وغير خاضع للمحور الإماراتي السعودي كالبرهان وحميدتي اللّذَين لا يُخفيانِ ولاءهما لهذا المحور بتبرير غريب هو أن مصالح السودان مع الرياض وأبو ظبي أكبر من مصالحه مع قطر!
الحكومة المدنية في السودان كذلك ربما يكون لديها عتاب لقطر، فقد كان تتطلع إلى أن تبادر الدوحة وقبل كل شيء بإعلان دعم مادي وعيني واضح لحكومة الثورة بعد أن رحّبت بالاتفاق الدستوري وأعلنت استعدادها لمساعدة الخرطوم من واقع أن الدوحة لديها مصالح واستثمارات في السودان، صحيح أن قطر أرسلت مساعدات طبية وغذائية إلى السودان لكن ربما كان طموح الحكومة المدنية أكبر من هذا، إذ كانت بحاجة إلى منحة أو وديعة مالية تساعد في تخفيف الضغط عليها، خاصة أن السعودية والإمارات أوقفتا إرسال دفعات المنحة التي تعهدتا بها للسودان منذ أيام المجلس العسكري والبالغ قدرها 3 مليارات دولار.
غير مستغرب أن يتجه دقلو إلى تحوله عن داعميه وفتح صفحة جديدة مع الدوحة فهو لا يختلف عن البشير الذي أتى به خصيصًا ليشكل قوة موازية للجيش النظامي
وهذان السببان ربما أديا إلى أن تكون علاقات الدوحة والخرطوم مشوبةً بشيء من البرود أو الفتور رغم أن القنوات الدبلوماسية بين البدين ما زالت مفتوحة وتعمل بصورة طبيعية.
وزير المالية السوداني يعترف بتوقف الدعم السعودي الإماراتي
وزير المالية السوداني إبراهيم البدوي اعترف في تصريح صحفي قبل 3 أشهر، بأن الرياض وأبو ظبي لم تقدما 2.25 مليار دولار من المنحة، مما يعني أن الحكومة الانتقالية لم تحصل على أكثر من 250 مليون دولار منذ تشكيلها، فقد أودعت الدولتان مبلغ 500 مليون دولار في بنك السودان المركزي منذ العام الماضي وذلك ضمن مساعيهما لتثبيت شرعية المجلس العسكري.
لا يُعرف بالتحديد السبب الذي دفع الدولتين الخليجيتين إلى إيقاف سداد أقساط المنحة، ففي وقت سابق كان المراقبون يعتقدون أن الرياض وأبو ظبي ستبادران إلى إعادة الدعم بعد إسناد الآلية الاقتصادية إلى محمد حمدان دقلو عضو مجلس السيادة وقائد قوات الدعم السريع، لكنّ ذلك لم يحدث إلى الآن رغم مضي شهر ونصف على تكليف حميدتي بالآلية الاقتصادية، بل إن الأخير أدلى بتصريحات تحمل هجومًا ضمنيًا على داعميه خلال مقابلة تليفزيونية بثتها قناة سودانية (24 الخاصة) أول أيام عيد الفطر عندما اعترف هو الآخر بعدم تلقي السودان مبلغ ملياري دولار متبقي المنحة السعودية الإماراتية، وكشف عن قيامه بمبادرة لحل الأزمة الليبية قال إنها (المبادرة) وجدت قبولًا من حكومة الوفاق لكنها لم تجد استجابة من الجنرال المتقاعد خليفة حفتر المدعوم من محور أبو ظبي/الرياض.
ورغم أن حميدتي في المقابلة المشار إليها حاول تبرير عدم استقبال وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن في الأيام الأولى لحكم المجلس العسكري (المحلول)، فإنه أرسل أيضًا إشارات إيجابية ضمنية مثل حديثه عن عدم وجود خلافات مع قطر، مشيرًا إلى أن أطرافًا “لم يسمها” حاولت خلق فتنة مع قطر وعدم إبلاغ المجلس العسكري بزيارة وزير الخارجية القطري.
حميدتي يغازل الدوحة
إذا أردنا أن نحلل إفادات حميدتي في المقابلة التليفزيونية نجد أنه أرسل رسائل إيجابية واضحة إلى الدوحة معترفًا ضمنيًا بأن قرار عدم الترحيب بوزير خارجيتها لم يكن موفقًا، نافيًا وجود خلاف بين البلدين، بينما تشير تصريحاته عن توقف انسياب الدعم السعودي الإماراتي إلى وجود برود في علاقاته مع داعميه خاصة أنه طرح نفسه كشخصية مستقلة عن أبو ظبي والرياض عندما تحدّث عن قيامه بمبادرة صلح بين الفرقاء الليبيين.
يدرك دقلو أن دولة قطر مؤثرة إقليميًا رغم محاولة الشيطنة التي تتعرض لها، ويدرك كذلك مكانة الدوحة لدى السودانيين وتأثيرها الفاعل في المشهد السياسي السوداني رغم محاولة بعض النشطاء الترويج إلى أن قطر كانت داعمة للنظام البائد أو أنها تعمل على إعادة رموزه للحكم، فالعلاقة لم تكن على الإطلاق سيئة بين المحور المعادي لقطر والرئيس المخلوع عمر البشير وخير دليل على ذلك كثرة الزيارات التي كان يقوم بها المخلوع إلى هاتين الدولتين، زيادة على أن الأخير يقضي حاليًّا عقوبة السجن بسبب إدانته بتلقي ملايين الدولارات من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.
غير مستغرب أن يتجه دقلو إلى تحوله عن داعميه وفتح صفحة جديدة مع الدوحة، فهو لا يختلف عن البشير الذي أتى به خصيصًا ليشكل قوة موازية للجيش النظامي من أجل حمايته الشخصية وترك له مناجم الذهب في دارفور، فقد كان الرئيس المعزول يطلق عليه لقب “حمايتي“، ورغم ذلك انقلب عليه حميدتي كما انقلب من قبل على ابن عمه “موسى هلال”، ونكّل به بإيداعه سجنًا مشددًا منذ العام 2017.
من الخطأ بمكان أن يرهن بلد عريق مثل السودان علاقاته الخارجية لبلد آخر مهما كان، فالسودان في الفترة الانتقالية الحاليّة يحتاج إلى أن تكون علاقاته طيبة مع جميع الدول
ومن الممكن جدًا أن تكون تصريحات دقلو المهادِنة تجاه قطر مجرد مناورة هدفها فقط إثارة حلفائه التقليديين “السعودية والإمارات” باعتبار أنه يمكن أن يفتح قناة تواصل مع قطر، إلى جانب محاولاته لتخفيف الضغط الإعلامي الذي تقوم به قناة الجزيرة من خلال تناولها لمشاركة قواته “الدعم السريع” في حربي اليمن وليبيا رغم نفيه لوجود قوات له في الأخيرة.
ولذلك، يرجح أن تتعامل قطر بحذرٍ مع تصريحات حميدتي، فهو في نظر القادة القطريين موالٍ للمحور الإماراتي السعودي، إلا إذا قدّم اعتذارًا واضحًا عن عدم استقبال وزير الخارجية القطري، وفي كل الحالات تنظر الدوحة إلى السودان على أنه بلد غير مستقر حاليًّا والعلاقة معه ليست سيئة، فالعلاقات الدبلوماسية طبيعية والسفارات في البلدين مفتوحة، رغم عدم وجود تواصُل على مستوى عالٍ بين البلدين.
هل تبادر الحكومة المدنية في السودان إلى تحسين العلاقات مع قطر؟
الائتلاف الحاكم في السودان لم يصدر عنه ولا من أي من أحزابه موقف ضد قطر بعكس السعودية والإمارات التي نالتا نصيبًا وافرًا من هجوم الحزب الشيوعي (أحد أكبر أحزاب الائتلاف الحاكم)، الذي اعتبر أن الرياض وأبو ظبي تتآمران على الثورة السودانية لإجهاضها.
كما أن الحكومة الانتقالية المدنية في السودان لم يصدر عنها كذلك أي موقف سالب ولا حتى تصريح ضد قطر، غير أن رئيسها حمدوك يعطي الأولوية في مجال العلاقات الخارجية لدول الغرب، فقد كرّس جهده ووقته لمسألة إزالة اسم السودان من قائمة الإرهاب وترميم العلاقة مع المجتمع الدولي، ولكن على الحكومة المدنية ووزارة الخارجية بالتحديد أن تُبادر بإجراء اتصالات وترتيبات لتلبية الدعوة التي وجهتها قطر إلى رئيس الوزراء عبد الله حمدوك لبحث العلاقات بين البلدين، وكيفية تنفيذ اتفاق ضخ المزيد من الاستثمارات القطرية التي تقدر بنحو 1.5 مليار دولار وفق تصريح للسفير القطري بالخرطوم.
ولعل رئيس الوزراء حمدوك استشعر أخيرًا الخلل الذي تشهده علاقات السودان الخارجية، فقد اتفق خلال لقاء عقده ثاني أيام عيد الفطر المبارك مع قيادات حزب البعث العربي “أحد أحزاب الائتلاف الحاكم”، على “ضرورة بناء إستراتيجية وطنية في شأن السياسة الخارجية للحفاظ على مصالح البلاد، وتجنيبها الانزلاق في التقاطعات الإقليمية والدولية وفقًا للمصالح المشتركة”.
من الخطأ بمكان أن يرهن بلد عريق مثل السودان علاقاته الخارجية لبلد آخر مهما كان، فالسودان في الفترة الانتقالية الحاليّة يحتاج إلى أن تكون علاقاته طيبة مع جميع الدول، خاصة تلك التي لم تتورط في محاولة فرض حاكم ديكتاتوري أو التدخل في الشأن الداخلي، والأصل أن يكون السودان على مسافة واحدة من المحورين المتصارعين، بل إن تواصُل قادة الحكومة الانتقالية مع قطر يضمن لهم وجود كارت ضغط على الإماراتيين والسعوديين على عكس الوضع الحاليّ، والسياسة الخارجية من صميم عمل مجلس الوزراء كما أكد رئيس الحكومة حمدوك، يجب ألاّ يتدخل فيها رئيس المجلس السيادي البرهان ولا أي عضو من أعضاء السيادي.