تحدثنا في تقريرين سابقين عن تأثير الاستخدام المفرط للأجهزة التقنية المختلفة على ميكانيكية ووظيفة أجسامنا، وفي هذا التقرير نبحث في الخلل الذي يصيب كيميائية الجسم نتيجة إدمان الجلوس إلى تلك الأجهزة، أو سوء استخدامها.
تأثير التقنية على النوم
تبدأ المشكلة عندما نحاول إلقاء نظرة أخيرة على مواقع التواصل الاجتماعي قبل أن نخلد للنوم، حيث تشير الأرقام أن 71% من مستخدمي الهواتف الذكية إما ينامون وهم ممسكون بهواتفهم، أو يبقونهم على السرير أو بالقرب من السرير.
هذه الهواتف الذكية تعيق دورة النوم الطبيعية للجسم، حيث يلعب تتابع الليل والنهار أو بمعنى أدق تتابع الضوء والظلام دورًا في حلقة النوم اليومية sleep cycle، حيث يتم إرسال إيعازات إلى الهيبوثالامس عند تعرض شبكية العين للضوء، عندها يرسل مركز مختص بالدماغ يشبه الساعة في وظيفته، يدعى suprachiasmatic nucleus SCN إيعازات لتنظيم إفراز الهرمونات (الميلاتونين والكورتيزول) والسيطرة على درجة حرارة الجسم وبالتالي إما نشعر بالنعاس أو نبقى على نشاطنا.
عند غروب الشمس، يتم تنشيط الغدة الصنوبرية من SCN التي بدورها تفرز هرمون الميلاتونين إلى الدم حدود الساعة الـ9 مساء، الذي يصاحبه شعورنا بالنعاس وقلة التركيز، ويبقى المنسوب مرتفعًا طول الليل حتى 12 ساعة، ثم يختفي منسوب الميلاتونين من الدم في صباح اليوم التالي.
عند استخدامنا للهواتف الذكية قبل النوم (أو أي ضوء منبعث من شاشة رقمية)، يعمل الضوء الأزرق المنبعث من الشاشات الرقمية على تثبيط إفراز الميلاتونين، وبالتالي يحدث خلل في حلقة النوم الطبيعية، الأمر الذي يؤثر سلبًا على عدد ساعات النوم ونوعية النوم (حيث أشارت الدراسات إلى أن استخدام الهواتف الذكية لفترة تزيد على 60 دقيقة قبل النوم يجعل الإنسان عرضة لأخطار ضعف جودة النوم).
آثار قلة النوم
– يُضعف كفاءة الجهاز المناعي.
– يجعل الإنسان عرضة للسمنة، فقد أظهرت الدراسات أن الأشخاص الذين ينامون أقل من 7 ساعات في اليوم يميلون إلى اكتساب المزيد من الوزن ويكون لديهم خطر أكبر للإصابة بالسمنة من أولئك الذين يحصلون على 7 ساعات من النوم، ويُعتقد أن السبب في ذلك أن الأشخاص المحرومين من النوم لديهم مستويات منخفضة من الليبتين (المادة الكيميائية المسؤولة عن الشعور بالشبع) وزيادة مستويات الغريلين (الهرمون المحفز للجوع).
– يعرض الإنسان إلى التوتر والاكتئاب.
– يعرض الإنسان إلى خطر الإصابة بمرض السكر، فقد أشارت الدراسات أن الأشخاص الذين ينامون أقل من 5 ساعات في الليلة لديهم خطر متزايد للإصابة بمرض السكر، ففقدان النوم العميق قد يؤدي إلى الإصابة بداء السكري من النوع 2 عن طريق تغيير معالجة الجسم للجلوكوز.
– يقلل من الرغبة الجنسية.
– الحرمان من النوم على المدى البعيد يجهد القلب.
– يقلل من فرص الحمل.
تأثير التقنية على كيميائية الدماغ
– تثبيط إفراز الميلاتونين، كما أشرنا سابقًا.
– تقليل إنتاج حمض جاما-أمينوبيوتيريك (GABA)، وهو حمض أميني يتم إنتاجه في الدماغ (يعمل كناقل عصبي لتقليل نشاط الخلايا العصبية في الدماغ والجهاز العصبي المركزي)، فالإفراط في استخدام الشاشات الإلكترونية يرتبط بالمستويات المنخفضة من GABA في الجسم، الذي بدوره يظهر بشكل على توتر وقلق وأرق.
تأثير التقنية على البشرة
الضوء الأزرق المنبعث من الهواتف الذكية والأجهزة الإلكترونية الأخرى (هذا الشكل من الضوء هو النطاق الأزرق/ البنفسجي قصير الموجة من طيف الضوء المرئي)، له القابلية على تكسير الكولاجين المسؤول عن نضارة البشرة وزيادة التصبغات الجلدية.
علاوة على ذلك، هناك تقارير تشير إلى أن التعرض المتكرر لومضات السيلفي قد يتسبب في تلف وتسارع شيخوخة الجلد.
إدمان الإنترنت والألعاب
الإحصاءات تشير إلى انتشار ما يعرف باستخدام الإنترنت القهري Compulsive Internet Use CIU إلى ما يزيد على 8.2% من السكان، وتظهر الأعراض على شكل أعراض نفسية وجسدية، منها: الشعور بالذنب، والقلق والمآبة وعدم القدرة على الالتزام بالمواعيد والانعزالية وسرعة الانفعال وغيرها، فضلًا عما يصاحبها من أعراض جسدية كآلام الظهر والمفاصل والصداع واضطراب النوم ومشاكل العين.
هذا بالإضافة إلى اضطراب الألعاب الإلكترونية Internet Gaming Disorder IGD، الذي جرى تضمينه من قبل جمعية الطب النفسي الأمريكية (APA) في القسم الثالث من الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية – الإصدار الخامس (DSM-5)، كما أدرجت منظمة الصحة العالمية (WHO) هذا الاضطراب في المراجعة النهائية الحادية عشرة للتصنيف الدولي للأمراض (ICD-11).
وبحسب الـWHO فإن إعراض هذا الاضطراب تشمل:
1- عدم القدرة على التحكم في سلوكيات الألعاب (سواء كانت مدة اللعب أم شدته أم تردده).
2- أولوية متزايدة للألعاب، حيث تكون لها الأسبقية على الأنشطة الأخرى في الحياة.
3- زيادة تصاعد الألعاب على الرغم من النتائج السلبية.
ويتطلب التشخيص إعاقة واضحة وشديدة الخطورة في السلوك، بحيث يؤدي إلى ضعف كبير في مجالات العمل الشخصية أو العائلية أو الاجتماعية أو التعليمية أو المهنية أو غيرها من المجالات المهمة لمدة 12 شهرًا على الأقل.
الانشغال بالألعاب، له أعراض أخرى، كالانسحاب المجتمعي (الحزن والقلق والتهيج) عند الحرمان من الألعاب، والإحساس الدائم بالحاجة إلى قضاء المزيد من الوقت في الألعاب لإرضاء الرغبة، فضلاً عن احتمالية التعرض لخطر فقدان الوظيفة أو العلاقات الاجتماعية بسبب الألعاب.
ورغم أنه تم الاشارة إليه كـ”اضطراب” وليس كـ”إدمان”، تشير بعض الأبحاث إلى أن اللعب والفوز يحفزان إفراز الدوبامين وهو مادة كيميائية في الدماغ ترفع المزاج وتوفر اندفاع الطاقة (وهو نفس الناقل العصبي المتعلق بإدمان الكحول والأدوية المخدرة).
التقنية والصحة النفسية
يشير مصطلح “SCREEN TIME” إلى الوقت الذي نقضيه على الشاشات الرقمية سواء شاشات الهواتف الذكية أم الألواح الرقمية أم الكمبيوترات أم التلفزيونات، حيث تربط الدراسات التي أجريت حديثًا بين ازدياد معدلات القلق والكآبة بالتزامن مع ازدياد الأوقات التي نقضيها على الشاشات الرقمية.
كما أشارت دراسة أخرى إلى ارتباط القلق والاكتئاب لدى الأطفال والمراهقين (الأعمار بين 2-17سنة) بالساعات التي يقضونها أمام الشاشات الرقمية، حيث كشفت الدراسة أنه بعد ساعة واحدة فقط من استخدام الشاشات الرقمية يقل الفضول لدى الأطفال وينخفض مستوى السيطرة على النفس، كما يقل الاستقرار العاطفي وتقل قدرتهم على إنهاء المهام.
أبحاث أخرى تشير إلى ارتباط استخدام مواقع التواصل الاجتماعي بارتفاع منسوب هرمون التوتر الكورتيزول (يساعد هرمون الكورتيزول الجسم على العمل في المواقف العصيبة عن طريق زيادة مستويات السكر في الدم وتقليل استجابة الجهاز المناعي)، لكن تأثير ارتفاعه على المدى البعيد قد يؤدي إلى مشاكل صحية كثيرة منها، القلق والكآبة والصداع و مشاكل في القلب والنوم والجهاز الهضمي وزيادة في الوزن وضعف الذاكرة والتركيز.
في عالم اليوم، من الواضح أنه لا يمكننا الهروب من التقنية واستخداماتها المتعددة في حياتنا، لكن ربما علينا تقنين استخدامها لتجنيب أجسادنا تأثيراتها الآنية أو تأثيراتها على المدى البعيد.