بدأت حياة إبراهيم غانيبال بلغز كما انتهت بلغز، ففي تاريخ مجهول أواخر القرن السابع عشر الميلادي وعلى أرض اختُلِف في أمرها، فهي الحبشة حسب بحث أجرته مجلة نيو ستيتسمان اللندنية، وهي قرية كاميرونية حسب أبحاث أخرى، تقول الفرضية الأولى إن إبراهيم ولد في قرية تقع اليوم على الحدود الإثويبية الإريتيرية تدعى (لاجون)، ولكن دراسات أحدث أشرف عليها كل من الباحثين ديودون غنامانكو وهيو بارنز أكدت ميلاده في قرية قرب بحيرة تشاد تقع اليوم ضمن الحدود السياسية للكاميرون وسط إفريقيا.
إسطنبول غيرت حياته
تشرح العديد من الروايات مرحلة ما قبل إسطنبول في حياة إبراهيم ولكن الرواية الأكثر موثوقية قدمها الأكاديمي البريطاني ريتشارد بانكهورست، الأستاذ السابق في معهد الدراسات الإثيوبية ومديره المؤسس، حيث تحدث عن اختطاف إبراهيم من قبيلة منافسة بعد نزاع أودى بحياة والديه ونقله إلى إسطنبول بحرًا.
مكث إبراهيم في إسطنبول لمدة عام في خدمة أسرة السلطان أحمد الثالث، في ذلك الوقت، كان السفير الروسي سافا فلاديسلافيتش الذي يمثل روسيا وقيصرها بطرس الأكبر، يبحث عن عدد قليل من العبيد الأفارقة الأذكياء لإهدائهم إلى القيصر كما كانت العادة في تلك الأيام في الأوساط العليا بأوروبا، ووقع الاختيارعلى إبراهيم الوافد الجديد الذي أثار الاهتمام لما أبداه من علامات النباهة وأمارات القوة والفروسية رغم صغر سنة، فاشتراه السفير الروسي من السلطان عام 1704 وأرسله على الفور عن طريق البر إلى موسكو لتقديمه إلى القيصر بطرس الأكبر.
بطرس الأكبر.. عرابه نحو الحرية
أعجب القيصر بطرس الأكبر سريعًا بذكاء الصبي وإمكاناته في الخدمة العسكرية، وقرر تبنيه، ليصبح إبراهيم الإفريقي الأسير الذي فقد شقيقته في الطريق نحو الأناضول وفقد عائلته في حروب إفريقيا القبلية قبل ذلك، ابنًا لأعظم قياصرة روسيا على الإطلاق، هنا أمسك إبراهيم الحبشي مفتاح الحظوة وبدأ أولى خطواته على مدرج المجد.
تم تعميد إبراهيم – الذي أصبح بعد تعميده ودخوله المسيحية، إبرام – عام 1705، في كنيسة القديس باراسكيفا في فيلنيوس، مع بطرس الأعظم كأبٍ بالتبني له، وكان لتاريخ معمودية غانيبال أهمية شخصية، فقد استخدم هذا التاريخ كعيد ميلاده لأنه لم يكن يعرف تاريخ ميلاده الحقيقي.
إبراهام في فرنسا طالب علم ومحارب عنيد
عندما زار القيصر فرنسا عام 1716، أبقى هانيبال خلفه في باريس للدراسة في مدرسة عسكرية بمدينة ميتز شمال شرق فرنسا، ثم التحق بأكاديمية المدفعية الملكية في لافير لدراسة الهندسة العسكرية عام 1720، بعد ذلك بعامين اشتعلت حرب التحالف الرباعي التي واجهت بها فرنسا متحالفة مع الإمبراطورية الرومانية وهولندا وبريطانيا، إسبانيا، فالتحق إبراهام غانيبال (اللفظ الفرنسي لهانيبال) بالجيش الفرنسي وخاض الحرب ضد إسبانيا.
في يناير 1723 أبدى إبراهام في الحرب أداءً مبهرًا، وأسره الجيش الإسباني واستطاع الهرب ناجيًا من الموت بأعجوبة، جاعلاً قادته يرقونه إلى رتبة نقيب.
العودة إلى روسيا
في العام التالي عاد إبراهام غانيبال إلى روسيا، ومكنه تدريبه المتقدم من التقدم والحصول على الوظائف بنجاح أولًا كمهندس، ثم كمدرس رياضيات لإحدى وحدات الحرس الخاصة في القصر، وكتب كتابًا مدرسيًا يبلغ سمكه 6 بوصات عن الهندسة والتحصين، وأصبح كبير المهندسين العسكريين في الجيش الروسي.
كما عمل على “مدافع هاوتزر السرية” التي مهدت الطريق لاختراع الصواريخ الحربية، وساعد في تصميم نظام القنوات الذي تم إنهاء بنائه في عهد ستالين فيما بعد.
شعار النبالة الغامض
بما أن إبراهام أصبح ابنًا – ولو بالتبني – لعائلة نبيلة مرموقة، قرر وعلى عادة العائلات النبيلة تصميم درع للنبالة وهو رمز يعبر عن العائلات النبيلة، شيء ما كعلم الدولة تخص به العائلات النبيلة نفسها، وما زال الشعار يثير الجدل حتى الآن بسبب وجود رمز مجهول عليه وهو كما هو واضح في الصورة FVMMO التي قد تعني “الوطن” بلغة الكوتوكو وهي لغة محلية محكية في منطقة بحيرة تشاد، مما يعزز رأي أصحاب نظرية ولادة إبراهيم في تلك المنطقة.
لكن لفرانسيس سومرز كوكس صاحب كتاب “عرب بطرس الأكبر: على خطى روسيٍ أسود” The Moor of St Petersburg: In the Footsteps of a Black Russian رأي آخر، حيث تناول الكاتب في كتابه معنى آخر للشيفرة الموجودة على درع النبالة الخاص بعائلة هانيبال، يقدم لنا كوكس فرضية كون المقصود بالعبارة المكتوبة اختصارًا للجملة اللاتينية “Fortuna Vitam Meam Mutavit Omnino” التي تعني “لقد غيرت فورتونا حياتي بالكامل”.
وفورتونا هي آلهة الحظ في الميثولوجيا الرومانية ويبدو هذا الاحتمال منطقيًا فعلًا خصوصًا أن الشيفرة كتبت بأحرف كبيرة، وإذا تتبعنا قصة هانيبال فسنجد حظه ينقذه في كل مرة من حرب قبلية أودت بوالده ومرة بوصوله إلى قصر السلطان العثماني وأخرى بتبني بطرس الأكبر له ونجاته فيما بعد من الأسر لدى الإسبان.
مات الرجل وترك خلفه عائلة نبيلة ليكون أشهر أبنائه “أوسيب” أبًا لامرأة ستكون أمًا للأديب الروسي المشهور ألكساندر بوشكين الذي حاول كتابة سيرة ذاتية لهانيبال لكنها لم تكتمل، وكذلك فحسب النساب ليوفان دي باس Leo van de Pas ينحدر من نسل غانيبال بعض الأرستقراطيين البريطانيين كناتاليا جروسفينور، دوقة ويستمنستر وشقيقتها ألكسندرا هاملتون دوقة أبركورن وجورج ماونتباتن وماركيز ميلفورد هافن الرابع، ابن عم الملكة إليزابيث الثانية.
لكن أهم ما تركه غانيبال لم يكن الغموض بل كان درسًا عن الأمل، بدأ حياته كيتيم مخطوف بعمر الثامنة، باعه الغرباء إلى تجار الرقيق، وبدلًا عن البحث عن المبررات وجه كل الظروف لصالحه بانيًا مجده ومجد أحفاده خطوة خطوة، ليكون أيقونةً لأفارقة روسيا وعلمًا يتحدث عنه النقاد ويختلف في أمره الباحثون.