ترى معظم حكومات الخليج أن 5 أشهر كاملة تحت وطأة جائحة كورونا وتداعياتها الاقتصادية المريرة فترة كافية لاستعادة الحياة الطبيعية مرة أخرى وإن كانت بشروط وضوابط، في ظل نزيف الخسائر المستمر الذي تكبدته معظم اقتصادات العالم وعلى رأسها الخليج منذ تفشي هذا الوباء.
ورغم استمرار الإصابات والوفيات وتزايدها بصورة كبيرة لدى بعض الدول، فإن ذلك لم يمنع السلطات الحاكمة بها من التخلي تدريجيًا عن قيودها المفروضة وإجراءاتها الاحترازية التي تم إقرارها قبل عدة أشهر في محاولة لاستعادة تدفق الدماء في الشريان الاقتصادي المتجمد قرابة نصف عام وهو ما انعكس بشكل أو بآخر على حياة المواطنين بصورة ملموسة.
وفي الوقت الذي تتمسك فيه بعض الحكومات بإجراءاتها تجنبًا للولوج في مستنقع الصدمة جراء التعرض لموجة جديدة أكثر شراسة من الإصابات حال التخلي عن الإجراءات المتخذة سابقًا، فإنه من الواضح أن حكومات أخرى ما عادت تحتمل الخسائر المتواصلة لا سيما تلك التي تعتمد بصورة كبيرة على النفط كأكبر مواردها الاقتصادية.
وقد تكبدت دول الخليج خسائر جمة منذ بداية ظهور فيروس كورونا المستجد نهاية العام الماضي، حيث توقفت معظم الأنشطة الاقتصادية وأغلقت الحدود كافة، فيما تعرض النفط لانهيار غير مسبوق في الأسعار، في مقابل إرهاق ميزانيات تلك الدول بزيادة الإنفاق العام من أجل مواجهة تفشي الفيروس.
عودة تدريجية للحياة
أعلنت بعض الدول الخليجية خريطة أولية لاستئناف الحياة الطبيعية لديها خلال الأيام المقبلة، البداية كانت مع السعودية التي قسمت إجراءات عودتها إلى ثلاث مراحل، أولها ما يتعلق بإعادة فتح عدد من الأنشطة الاقتصادية واستئناف القطاعين العام والخاص معظم أعمالهما الأسبوع المقبل.
هذا بجانب رفع التعليق الذي كان مفروضًا على الرحلات الجوية الداخلية، بجانب إعادة فتح المساجد مرة أخرى فيما عدا الموجودة بمنطقة مكة المكرمة، وتخفيف إجراءات حظر التجوال المفروض على المواطنين، مع استمرار إيقاف كل الأنشطة التي لا تحقق معيار التباعد الجسدي ومن بينها صالونات التجميل والنوادي الرياضية والترفيهية.
وابتداءً من 21 من يونيو 2020 سيتم العودة للأوضاع الطبيعية التي كانت عليها المملكة قبل إجراءات منع التجول، مع ضرورة الالتزام بالتعليمات وضوابط التباعد الاجتماعي التي أقرتها وزارة الصحة السعودية، مع استثناء مكة من تلك الإجراءات، ووضع نظام خاص بها، نظرًا لخصوصيتها المتعلقة بزيادة معدلات الإصابة بها.
الأمر يتشابه بصورة كبيرة في الإمارات كذلك، حيث قررت السلطات استئناف النشاط الاقتصادي لمدة 17 ساعة يوميًا، من 6 صباحًا وحتى 11 ليلا بدءًا من 27 من مايو 2020، فيما علق ولي عهد دبي الشيخ حمدان بن راشد، على هذا القرار بقوله: “ندرك الضغوطات التي تعرضت لها قطاعات عدة خلال أزمة فيروس كورونا”، مشيرًا إلى وجود قدرة على التعاطي بإيجابية مع المتغيرات نتيجة مرونة غالبية القطاعات.
ومن ضمن قرارات تخفيف القيود على المواطنين، السماح للسكان بالتحرك والتنقل بحرية بين المدن خلال الفترة المذكورة، كما سيستأنف العمل في مطار دبي لمن يغادرون المدينة فقط، بجانب فتح عدد من المراكز الطبية لإجراء العمليات الجراحية التي تستغرق ما يصل إلى ساعتين ونصف فقط.
وفي الكويت تدرس الحكومة عودة الحياة على عدد من المراحل، البداية باستئناف العمل في الهيئات الحكومية بطاقة عمل قدرها 25% من عدد الموظفين، مع التزايد تدريجيًا خلال المراحل التالية وصولًا إلى الطاقة الإجمالية، كذلك إعادة فتح الأنشطة الاقتصادية والتجارية مع التشديد على الالتزام بالضوابط وإجراءات التباعد الاجتماعي.
أما في سلطنة عُمان فتستعد الحكومة لاتخاذ خطوات شبيهة بتلك المتخذة في السعودية والإمارات والكويت، وإن لم يتم إعلانها بشكل مباشر، حيث أعلن وزير الصحة العماني أحمد السعيدي، أن بلاده لن تعيد فرض حظر التجول مرة أخرى، مرجعًا ذلك إلى عدم جدواه الصحية في منع انتشار الفيروس وذلك بعد دراسة تجارب دول أخرى في هذا الشأن على حد قوله.
وفي قطر لم تتضح الصورة بعد، حيث قررت السلطات الإبقاء على إجراءاتها الاحترازية من غلق المحلات وإيقاف جميع الأنشطة التجارية باستثناء الصيدليات ومحلات توريد الأغذية وتسليمها، خلال الأيام الماضية، غير أنها لم تعلن عن أي قرارات جديدة بشأن تخفيف القيود المفروضة أو استئناف للأنشطة الاقتصادية حتى الآن.
خسائر اقتصادية كبيرة
تواجه دول الخليج جراء تداعيات هذا الوباء واحدة من أكبر الأزمات الاقتصادية خلال السنوات الأخيرة، فالخسائر التي تكبدتها تجاوزت حاجز البورصات إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث إصابة سوق النفط والسياحة والطيران بالشلل التام، وصولًا إلى التأثير على الحياة المعيشية للمواطنين فأوقعت الكثير منهم في مصيدة البطالة خلال الأشهر الثلاث الماضية.
وتشير التقديرات إلى أن تداعيات هذه الأزمة على الاقتصاد الخليجي ربما يمتد إلى الربع الثاني من العام الحاليّ، وفق ما كشف تقرير صادر عن المركز الدولي للاستشارات الاقتصادية الخليجية (مستقل) الذي أشار إلى انكماش النمو الاقتصادي السعودي إلى نسبة 0.3% في 2019، وهو ما جاء دون التوقعات، فيما جاء الناتج المحلي الإجمالي أقل من مستوى 0.9% الذي توقعته السعودية رسميًا.
التقرير المستند إلى بيانات الهيئة العامة السعودية للإحصاء “حكومي” أظهر تراجعًا في حجم صادرات المملكة بنسبة 10.4% على أساس سنوي، بسبب انخفاض صادرات النفط 14%، مع تصاعد مخاوف تسبب ارتباك الأسواق الناجم عن كورونا في تعميق عجز الميزانية السعودية للعام السادس على التوالي.
حالة القلق ذاتها تخيم على الأجواء في الإمارات، فبجانب الخسائر التي منيت بها أسواق البورصة هناك منذ تفشي الوباء، فهناك حالة من الخوف تنتاب الحكومة جراء تداعيات احتمالية تأجيل أو إلغاء معرض إكسبو دبي المقرر عقده في أكتوبر القادم، هذا بجانب حالة الشلل التي أصابت القطاعات الاقتصادية الحيوية هناك كالعقارات والبنوك والطيران والتجارة والتصدير في ظل تراجع أسعار النفط بصورة كبيرة.
وفي أبريل الماضي، حذّر صندوق النقد الدولي من التداعيات الاقتصادية الناجمة عن إجراءات مواجهة الوباء، حيث رأى أن اقتصادات الدول العربية مجمعة ستخسر قرابة 323 مليار دولار، بنسبة 12% من حجم اقتصادها، بينها 259 مليار دولار من دول الخليج، كما سترتفع ديون الحكومات العربية بقيمة 190 مليار دولار هذا العام لتصل إلى 1.4 تريليون دولار بزيادة قدرها 15%.
بين الواقعية والمغامرة
عدد من التساؤلات فرضت نفسها مع إعلان إجراءات التعايش الإجباري مع كورونا، أبرزها ما يتعلق بمدى واقعية تلك الخطوة في ظل استمرار تصاعد معدلات الإصابات، حيث يتساءل البعض كيف لتلك الدول أن تفرض قيودها حينما كانت الإصابات لا تتجاوز حاجز المئة يوميًا ثم تعيد الحياة إلى طبيعتها بعد أن وصل المعدل اليومي إلى أكثر من ألفي إصابة.
فريق ذهب إلى أن الخسائر التي تكبدتها اقتصادات تلك الدول هي السبب وراء تلك الإجراءات، وذلك من منطلق استمرارية الوباء لفترات طويلة، وليس من المنطقي من الناحية الاقتصادية والعملية الاستمرار على ذات القيود المنهكة للاقتصاد كل هذه الفترة، وعليه كان الاستئناف تدريجيًا بشروط حماية مشددة.
آخرون أشاروا إلى أن هناك حالة من التماهي مع التوجه العالمي نحو عودة الأمور إلى طبيعتها بعدما تعرضت خزائن كبريات الدول لنزيف حاد جراء الإنفاق على مواجهة تفشي الوباء، مع الوضع في الاعتبار رسائل الطمأنة التي تبعث بها منظمة الصحة العالمية بشأن إمكانية التعايش السلمي لفترات طويلة مع الفيروس شرط الحيطة والحذر والالتزام بالضوابط الموضوعة، وذلك رغم الفارق في الحالتين، فمعدلات الإصابة في الغرب تتراجع بشكل كبير ما يعكس حالة السيطرة، على عكس الوضع في الدول الخليجية والعربية.
ورغم ما يحمله هذا التحرك من مغامرة بحياة المواطنين والمقيمين على حد سواء في ظل عدم التوصل إلى علاج رسمي للفيروس، فإن تيار كبير يراهن على وعي الشعب في الالتزام بالضوابط وقدرة السلطات على إحكام السيطرة وتشديد الرقابة ضمانًا لعدم الخروج عن المسار المتبع فيقع ما لا يحمد عقباه.
وفي ظل عدم الإعلان رسميًا عن اكتشاف أمصال علاجية لهذا الوباء، مع توقعات إطالة فترة وجوده على وضعيته تلك، يبدو أن العديد من حكومات الخليج على وجه الخصوص ودول العالم بوجه عام ارتأت التعايش الإجباري مع كورونا كحل أمثل للخروج من شرنقة النزيف الاقتصادي المستمر.