وضع التحشيد العسكري في شمالي سوريا أوزاره إلى حد معين ومؤقت على ما يبدو، وذلك بعد اتفاق تركيا وروسيا الأخير الذي على أساسه أقر رئيسا الدولتين رجب طيب أردوغان وفلاديمير بوتين هدنةً جديدة ورسما خطوطًا جديدةً لخريطة المنطقة التي كانت المعارك فيها على أشدها وسط تقدم سريع لروسيا والنظام السوري في السيطرة على مناطق تحت سيطرة المعارضة.
تؤكد التصريحات التركية أن الجيش التركي أنقذ ما تبقى من الشمال السوري من السقوط بيد روسيا والنظام، في الوقت الذي كان سقف المطالب التركي أعلى من الاتفاق الحاصل، ولكن كسبت تركيا بقاء نقاطها رغم فاتورة دموية دفعتها بعشرات القتلى من جيشها، فيما كان الرد التركي واضحًا من خلال سير العمليات التركية قبل الاتفاق.
إعادة الإشارة إلى أحداث إدلب التي مضى عليها ما يقارب الـ3 أشهر، في سياق تسليط الضوء على الواقع الليبي، وآلية سير المعارك في محيط العاصمة طرابلس التي كان قائد الانقلاب اللواء المتقاعد خليفة حفتر قد بدأ هجومه عليها، إذ بات لا يخفى على المطلعين على الملفين السوري والليبي وجود نقاط مشتركة يؤثر بعضها على الآخر في تشكيلة الخريطة السياسية وحتى السيطرة الجغرافية بمسار الأحداث الراهنة.
سوريا وليبيا والقاسم المشترك
بم يتشابه الملف السوري مع الملف الليبي؟! كان الالتقاء الأبرز بين الملفين هو وجود روسيا وتركيا في كلا البلدين، ربما تختلف الشروط والقواعد والمصالح، إلا أن ثمّة ما يجمع بين روسيا وتركيا في البلدين المشتعلتين بالحروب، اجتماع مصلحي كلٌ بحسب منظوره وحساباته الجيوسياسية والاقتصادية وخلق مكان أوسع للنفوذ وفتح أبواب أكثر على المناطق الإستراتيجية في العالم.
إذا أردنا أن نأتي للجانب العسكري والشعبي، فإن ما يجمع ليبيا وسوريا أن البلدين قامتا بثورات شعبية ضد أنظمة حكم فاسدة وطاغية، وانتصرت الثورة الليبية مؤقتًا وقتلت القذافي إلا أن العبث الدولي والهجمة المرتدة التي دعمتها دول الثورات المضادة كالإمارات – اللاعب الأبرز – أعادت تدوير نظام القذافي برجالات مختلفين، وتنصيب خليفة حفتر لتكوين “سيسي” جديد في ليبيا، إلا أن هذا الأمر لم يتم بسبب وجود حكومة الوفاق التي تعترف بها الأمم المتحدة ودول العالم، التي حاولت جاهدةً إفشال مخططات حفتر ومواجهته عسكريًا بدعم بعض الدول والقوى.
أما في سوريا، فقامت الثورة الشعبية محاولةً نيل مطالب تحقق كرامة الشعب وحريته، وفي لحظات من انهيار النظام وانكفائه، وتضييق المساحات التي يسيطر عليها وتمكن المعارضة من التقدم بشكل سريع، قلبت روسيا الموازين بتدخلها العسكري الكامل في البلاد، لتدخل المعركة بكل ثقلها واستطاعت قلب المعادلة رأسًا على عقب، حتى وصول الحال اليوم إلى وجود المعارضة في شمالي سوريا تحت رعاية تركية.
تدخلت تركيا في سوريا بشكل علني ورسمي، في شهر أغسطس/آب 2016، وكانت أولى معاركها عندما سيطرت على مدينة جرابلس بريف حلب، وتبعت هذه العملية عملية غصن الزيتون التي سيطرت من خلالها على مدينة عفرين، لتتمدد أنقرة وتطلق عمليتها نبع السلام التي أوقفتها التفاهمات الدولية، وبعد ذلك بدأت عملية درع الربيع في إدلب بعد تمدد النظام إلى ما وراء اتفاق سوتشي المرسوم بين الرئيسين أردوغان وبوتين ويقضي بجعل المناطق التي اتفق عليها الرئيسان مناطق خارج المعارك.
نقضت روسيا الاتفاق واستمرت بمعاركها حتى رسمت مع تركيا اتفاقًا جديدًا وهو الذي تسير عليه الحالة اليوم، ولكن هذا الاتفاق يمضي بحذر شديد، فتركيا إلى الآن لم تستطع أن تحل هيئة تحرير الشام التي تعتبر عقبة أمامها وهي الشماعة التي تستخدمها روسيا والنظام لإكمال هجومهما على إدلب، وتواجه أنقرة في الأصل ضغطًا داخليًا نتيجة العمليات التي حصلت في إدلب وذهب ضحيتها عشرات الجنود الأتراك.
يختلف الوضع في ليبيا، إذ إن تركيا توجد إلى جانب الحكومة الشرعية بطلب رسمي للمساعدة، في مواجهة انقلاب خليفة حفتر على الشرعية، وفي إطار حفظها لمصالحها الاقتصادية والسياسية وضمان حضورها الإقليمي تدخلت تركيا بقوة في الموضوع الليبي، وهو الأمر الذي أغضب حلف دول الثورات المضادة وعلى رأسها الإمارات ومصر والسعودية وغيرها من الدول الأوروبية.
إضافةً إلى ذلك يختلف الوجود الروسي في ليبيا عن وجوده في سوريا، فموسكو لا تنفك تؤكد دعمها لحكومة الوفاق، فالبلد الذي يحلم بإعادة أمجاده القيصرية يوجد بشكل غير شرعي على الأراضي الليبية إلى جانب حفتر وعن طريق مرتزقة فاغنر، حيث شنت مجموعة فاغنر القوية والمدعومة من الكرملين، هجومًا على طرابلس في السنة الماضية إلا أن تحركات هذه المجموعة الروسية لطالما باءت بالفشل، وتؤكد الأمم المتحدة وجود هذه المجموعة في ليبيا.
في شهر فبراير/شباط، ووفقًا لتقرير سري قُدم إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وقع تنظيم وتمويل حملة المرتزقة الفاشلة الصيف الماضي من شبكة من الشركات السرية في الإمارات العربية المتحدة، ويسيطر على هذه الشركات أو يمتلكها جزئيًا، كريستيان دورانت، وهو رجل أعمال أسترالي وطيار سابق وشريك مقرب لأشهر مرتزق ورجل أعمال في الولايات المتحدة، إريك برنس.
كشف وزير الداخلية الليبي، فتحي باشاغا، أن روسيا أرسلت 8 مقاتلات على الأقل إلى مليشيا الجنرال الانقلابي خليفة حفتر، وقال باشاغا: “الطائرات الروسية أرسلت من قاعدة حميميم في سوريا، وتعود للعهد السوفييتي”، موضحًا أن المقاتلات، بينها 6 من طراز “Mig-29” و2 من طراز “Su-24″، وصلت إلى مليشيا حفتر، شرقي ليبيا، وبحسب تقرير بلومبرغ، فإن مليشيا حفتر زعمت أنها ستطلق أكبر عملية جوية في تاريخ ليبيا ضد الأهداف التركية.
في الطرف المقابل استخدمت تركيا في سوريا وليبيا قوةً عسكرية كبيرة، إذ إنها وإلى الآن ما زالت تشحن الآليات العسكرية والمعدات اللوجستية إلى منطقة إدلب وما زالت تحتفظ بنقاطها العسكرية هناك، ولا بد من الإشارة هنا إلى أن ما استخدمته تركيا قبل اتفاقها مع روسيا في سوريا، كان لافتًا بشكل كبير، حيث سيرت طيرانها من دون طيار وفتكت بجيش الأسد في مشاهد أسعدت السوريين، وكذا الأمر في ليبيا، فقد دمرت الطائرات التركية المسيرة أرتال حفتر كما قضت على الكثير من الأسلحة وأسلحة الدفاع الجوي الروسية منها منظومات بانتيسير.
تهربت روسيا من كون المنظومات هذه تابعة لها بقولها وعبر أحد صحفها بأن منظومة “البانتسير” التي سيطرت عليها الحكومة الليبية، في قاعدة الوطية الجوية، “لا علاقة لها في الواقع بمساعدة روسيا لخليفة حفتر”، وبحسب الصحيفة “تعود هذه الوحدة إلى مجموعة المعدات العسكرية التي أرسلتها الإمارات العربية المتحدة لحفتر، ويدل على ذلك تثبيتها على هيكل السيارة الألمانية متعددة المحاور MAN-SX45”.
الوضع العسكري في سوريا مختلف بالنسبة لروسيا، الدولة التي تسيطر على أجواء البلاد، طبعا هذا الأمر الذي أعاق تدخل الطيران الحربي التركي في سماء إدلب خلال عملية درع الربيع في الأشهر الأولى من سنة 2020، وباعتبار أن وجود روسيا بطلب رسمي من النظام، فقد سيطرت موسكو على الموانئ والقطع العسكرية وأنشأت قواعد تضاهي تلك الموجود في روسيا بقوتها ومتانتها وتعدادها وعتادها من أسلحة وطائرات.
تأثير الانتصارات التركية في ليبيا على سوريا
“انتصارات حكومة الوفاق في ليبيا بدعم تركي ما زالت في بداياتها، ومع ذلك أرسلت روسيا 14 طائرة حربية لدعم ميليشيا حفتر وفي حال هددت تركيا والوفاق مصالح روسيا بشكل أكبر بما يتعلق بالموانئ والطاقة، فسيتحتم على تركيا الزج بقوات ودعم أكبر مما هو عليه في ليبيا”، هذا كان كلام عبد الله الموسى الباحث في الشأن السوري.
خلال حديث الموسى لـ”نون بوست”، قال: “باعتبار أن اليد العليا في إدلب هي لروسيا وعدم قدرة تركيا على تحصيل مكاسب أكبر من اتفاق موسكو في 5 من مارس/آذار، فمن المتوقع أن تعمل تركيا على إبقاء ليبيا ساحة المواجهة الرئيسية مع روسيا باعتبار أن خيارات تركيا للزج بقواتها واسعة كونها تدعم حكومة شرعية ضمن اتفاقيات عسكرية وسياسية”.
وبحسب الموسى فإن “تركيا سارعت في إنهاء اعتصام الكرامة على M4 والدوريات المشتركة وصلت أطراف جسر الشغور، وبقي أمام تركيا ملف التنظيمات المصنفة إرهابيًا التي يبدو أن تركيا ما زالت مصرة على حلها بطريقة غير عسكرية كما سبق وأكدت ذلك منذ اتفاق سوتشي في سبتمبر/أيلول 2018”.
الساحة السورية والساحة الليبية الآن تلعبان دور أوراق الضغط فيما بينهما بيد اللاعبين روسيا وتركيا، خاصة أن الساحة السورية الغلبة فيها لروسيا والخيارات التركية ضيقة، أما في المجال الليبي فالكثير من القوى الدولية تدعم حكومة الوفاق التي تدعمها تركيا، على عكس سوريا التي كانت أمريكا والناتو على أشد الحذر من الصدام مع موسكو في معركة إدلب، ولم تستطع تركيا حينها جعل حلفائها يتدخلون ويدعمونها بشكل كامل.
إلا أن الموسى يرى بوجود قوة تركية في إدلب قادرة على المناورة ومواجهة روسيا في حال أرادت موسكو الضغط عليها قائلًا إنه لا يوجد حاليًّا مبررات لروسيا لخرق اتفاق وقف إطلاق النار في إدلب وكذلك تركيا قطعت شوطًا في إعادة هيكلة الجبهة الوطنية للتحرير ضمن 6 ألوية يتبع كل منها لضابط تركي والفصائل التقطت أنفاسها بعد المعركة الأخيرة، أيضًا تركيا وضعت منظومات دفاع جوي في معسكر المسطومة وأعلنت عن طائرة درون جديدة باسم “أكينجي” وتمتلك أضعاف قدرة البيرقدار التي أنهكت قوات النظام، لذلك أعتقد أن روسيا ستفكر مليًا قبل أن تخرق وقف إطلاق النار في إدلب وستجرب حظوظها في ليبيا.
من جهته يقول القيادي في فرقة المعتصم إحدى تشكيلات المعارضة السورية الفاروق أبو بكر لـ”نون بوست”: “تركيا دخلت بطلب من الحكومة الشرعية المنتخبة الليبية ضد مليشيا يقودها انقلابي (حفتر) وهذا ما يمنع روسيا من إعلان روسيا وجودها بجانب حفتر بشكل علني ورسمي حتى على الأرض تقاتل لجانب حفتر بمرتزقة غير شرعيين (فاغنر) وأكثر من مرة نفت تدخلها عسكريًا”، مضيفًا “أما في سوريا الوضع يختلف، فروسيا تزعم أنها دخلت بطلب من الحكومة الشرعية، وطبعًا كلنا يعلم حجم المصالح التي تقاتل روسيا لأجلها في سوريا لكنها تغطيها بذرائع عدة”.
ما ذكر بحسب الفاروق أبو بكر “سيجبر روسيا على الرد على تركيا في المنطقة التي لها فيها نفوذ وقواعد وشرعية (حسب مقياسها)، ومن وجهة نظري أن روسيا لن تترك هزيمتها التي ألحقتها بها تركيا في ليبيا تمر دون رد، لكن الرد سيكون في سوريا”، ويتوقع أبو بكر أن التصعيد في إدلب قادم قائلًا “أعتقد أن منطقة إدلب مقبلة على تصعيد بحجة محاربة الإرهاب وعدم التزام تركيا بالتزاماتها كما صرحت مرات عديدة قبل كل تصعيد”.
كما يرى أبو بكر أن الرد الروسي على هزيمة موسكو وحليفها حفتر في ليبيا سيكون في إدلب، فإن المراقبين يرون أن روسيا من الممكن أن تحصل على مكاسب كبيرة في طرابلس في حال ضغطت على تركيا في الملف السوري، وهذا ما لا يراه الباحث الموسى صائبًا حيث يقول: “التصعيد الروسي في إدلب لن ينقذ حفتر ومصالح روسيا في ليبيا” مشيرًا إلى أن “ليبيا موضع اهتمام موسكو منذ عهد ستالين وتعززت العلاقات مع القذافي بعد وصول بوتين للسلطة وألغت موسكو الديون الليبية البالغة 5 مليارات دولار مقابل عقود روسية للسيطرة على قطاعات النفط والغاز وصفقات الأسلحة كما منح القذافي للأسطول الروسي إمكانية الوصول إلى ميناء بنغازي”، وإسقاط الناتو لنظام القذافي تسبب بخسارة كبيرة لروسيا التي تجد نفسها قادرة على الوقوف في وجه تركيا وسط الانقسام الأوروبي والانكفاء الأمريكي.