عندما ضرب فيروس كورونا المستجد العالم وفاجأ الجميع بسرعة انتشاره وسهولة انتقال العدوى من شخص لآخر، سارعت الدبلوماسية التركية في الاستفادة من إمكانيات الدولة المتوفرة في الجهاز الصحي وقطاع الصناعات الوطنية، حيث تمكنت الأرضية الصناعية الصلبة من تلبية احتياجاتها الأساسية وتطوير أجهزتها الخاصة بصورة سريعة. فبحسب التصريحات الحكومية الرسمية، وزعت تركيا على مستشفياتها وباقي وحداتها الصحية 24 مليون كمامة جراحية، وأكثر من 3 ملايين كمامة من نوع “إن-95″، إضافة إلى أكثر من مليون من الملابس الواقية، و181 ألف نظارة واقية، كما صدرت الجمهورية لغاية اليوم ما يزيد عن ألف جهاز تنفس اصطناعي محلي الصنع، مخصص لوحدات العناية المركزة، والتي قامت بتطويره وإنتاجه خلال فترة قياسية.
وذلك على عكس المتوقع، فقد فتحت الأزمة العالمية بابًا من الفرص على مصراعيه أمام تركيا وساعدتها على تسجيل نقاط إيجابية في سجلها على صعيد السياسة الخارجية وقطاع الصناعة المحلية في آن واحد، ولا سيما أنها أثبتت بأنها تتمتع بمستوى عال من الاكتفاء الذاتي.
المساعدات التركية تصل البلدان المتقدمة قبل النامية
واجهت العديد من حكومات العالم ضغطًا وعجزًا غير مسبوق فيما يتعلق بالمعدات والأجهزة الطبية اللازمة لاحتواء الأزمة، لدرجة أن بعض البلدان وصل بها الأمر إلى الاستيلاء على شحنات معدات طبية كانت موجهة لدول معينة، مثلما ذكرت السلطات الألمانية أن الولايات المتحدة وضعت يدها على مئتي ألف كمامة طبية كانت قد اشترتها من تايلاند، وكذلك فعلت السلطات التشيكية عندما اشترت آلاف الكمامات التي كانت موجهة من السلطات الصينية للمستشفيات الإيطالية.
أفسدت هذه الخطوات ود العلاقات بين تلك الدول، وزادت من حدة التوتر في العالم، خاصةً أن هذه الأزمة لم يحسب لها أحد حساب، وتسببت في تعطيل سلاسل التوريد العالمية، مما أدى إلى حدوث نقص في الإمدادات لكثير من الدول في السلع الأساسية، لكن تركيا تمكنت بفضل موقعها ومناخها وفرة اليد العاملة لديها من التعاطي مع الأزمة، واختارت أن تقود التضامن الدولي في وسط جائحة فيروس كورونا تحت شعار “الإنسانية أولًا” عن طريق تقديم مساعدات وإمدادات طبية إلى ما لا يقل عن 81 دولة حول العالم لمساعدتها في مكافحة تفشي الفيروس التاجي.
سلمت تركيا مساعدات إلى السودان وغينيا والصومال وأوغندا وليسوتو وموزمبيق، وشملت تلك المساعدات مجموعات فحص الفيروس وأقنعة طبية وأثواب واقية وقفازات ومطهرات ومعقمات كحولية
ومن بين تلك الدول المملكة المتحدة وإيطاليا وإسبانيا وألمانيا والمجر وبولندا ومولدوفا وأذربيجان وجورجيا، وكذلك دول البلقان مثل صربيا والبوسنة والهرسك وألبانيا والجبل الأسود ومقدونيا الشمالية وبلغاريا وكوسوفو، إضافة إلى الجمهورية التركية لشمال قبرص والولايات المتحدة وكولومبيا وإيران والعراق وليبيا ولبنان وفلسطين وتونس والجزائر واليمن وباكستان وأفغانستان وبنغلاديش وقيرغيزستان والصين وإندونيسيا والفلبين.
ولم تهمل الدول الإفريقية، حيث سلمت مساعداتها إلى السودان وغينيا والصومال وأوغندا وليسوتو وموزمبيق، وشملت تلك المساعدات مجموعات فحص الفيروس وأقنعة طبية وأثواب واقية وقفازات ومطهرات ومعقمات كحولية.
القوة الناعمة.. سياسة تركية ذكية ورابحة
تلقت تركيا الثناء والإشادة على مبادراتها الإنسانية، وحظيت بشكر خاص من المدير الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية في أوروبا، هانز كلوج، على أدائها دور “الصديق عند الضيق”، وابتعادها تمامًا عن الإجراءات الحمائية الأنانية والانعزالية في مواجهة أضرار الوباء.
أردوغان يملك فرصة عظيمة في قلب الطاولة، لأن بلاده لديها القدرة على تقديم المساعدات للدول الأوروبية التي أصبحت الآن “مريضة”، سواء من الناحية الحرفية أم المجازية
ورغم أن هذا الفعل ليس جديدًا على الحكومة التركية، فإنها لأول مرة تستهدف بمساعداتها الإنسانية الدول المتقدمة، بدلًا من مناطق الحروب والنزاعات والكوارث الطبيعية والأقليات الدينية المضطهدة، وهو ما أشارت إليه جانا جبور، خبيرة الدبلوماسية التركية في جامعة “ساينس بو” في باريس، التي قالت: “على عكس تدخلات أنقرة المعتادة، تدعم تركيا الآن البلدان المتقدمة التي تعودت هي على المساعدة”.
مشيرةً إلى أن أردوغان الذين يعبر دومًا عن حنينه إلى الإمبراطورية العثمانية التي وصفتها القوى الغربية بـ”الرجل المريض” في نهاية الحرب العالمية الأولى، يملك فرصة عظيمة في قلب الطاولة، لأن بلاده لديها القدرة على تقديم المساعدات للدول الأوروبية التي أصبحت الآن “مريضة”، سواء من الناحية الحرفية أم المجازية.
وإلى جانب جوبر التي تنظر إلى المساعدات التركية على أنها محاولة لاسترداد اعتبار الأجداد العثمانيين من الأوروبيين، يرى البعض الآخر أن هذه المبادرات الإنسانية جزء من سياسة أنقرة الذكية ومعالم قوتها الناعمة للانخراط مع الغرب وتعزيز مكانتها إقليميًا ودوليًا، وهي الورقة التي يجيد أردوغان اللعب بها إلى حد كبير.
فقد انتقد الرئيس بروكسل لفشلها في إظهار التعاون اللازم لمواجهة الوباء، وحينها استغل الناطق باسم الرئاسة التركية، إبراهيم قالن، هذا الظرف وقال: “ترشيح تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أمر جيد، ولكنه جيد أيضًا لأوروبا على حد سواء”، علمًا بأن أنقرة قدمت طلب بالانضمام منذ عام 1987 ولكن العرض الذي تلقته لم يمنحها إلا وضع “عضو مرشح”، وذلك بعد سنوات طويلة من العقبات والمفاوضات، ومع ذلك، فهي مستمرة في السعي خلف العضوية الكاملة.
هل نشهد علاقات ودية بين الغرب وأنقرة؟
أرسلت تركيا مساعدات طبية إلى الولايات المتحدة أكثر من مرة، رغم أن العلاقات البينية لم تكن في أحسن أحوالها مؤخرًا بسبب اختلاف مواقف الطرفين في مجموعة من القضايا المحورية ومنها الملف السوري وشراء أنقرة منظومة “إس 400” الروسية، لكن الظروف الاستثنائية الأخيرة لم تمنع قالن، من النظر إلى النصف الممتلئ من الكأس والاعتقاد بأن أزمة كورونا ستمهد الطريق أمام الطرفين للتخلص من سوء التفاهم والتقارب.
إرسال المساعدات إلى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة يعزز رواية أنقرة بأن ميزان القوى العالمي يتغير وأن تركيا تتعامل مع الأزمة بشكل أفضل من معظم القوى الغربية
وقال متفائلًا: “آمل أن يتم وضع بعض الأحكام المسبقة القديمة والحسابات السياسية جانبًا، وندخل في مرحلة نركز فيها على القضايا الرئيسية بالنسبة إلى حياتنا ومجتمعاتنا ومستقبلنا”، وبادل رئيس مجموعة الصداقة التركية في مجلس النواب الأمريكي، جو ويلسون، قالن وجهة نظره قائلًا: “إرسال تركيا مساعدات طبية يعد مثالًا للتضامن بما يتفق مع روح الشراكة، كما يعتبر فرصة جيدة لتطوير العلاقات بين البلدين”.
مؤكدًا أن تركيا تعد بمثابة بوابة تنفتح على الشرق الأوسط، وأنه يجب على الولايات المتحدة تعزيز التعاون معها لهذا السبب، كما غرد عن الموضوع، كاي بايلي هاتشينسون، سفير الولايات المتحدة لدى الناتو، قائلًا: “تضامن حلف الناتو خلال هذا الوباء يسلط الضوء على قوة روابطنا، شكرًا جزيلًا لشعب تركيا”.
وكذلك رأى نيكولاس دانفورث، المؤرخ في صندوق مارشال الألماني، قائلًا: “إرسال المساعدات إلى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة يعزز رواية أنقرة بأن ميزان القوى العالمي يتغير وأن تركيا تتعامل مع الأزمة بشكل أفضل من معظم القوى الغربية”، في إشارة إلى السيناريو الذي يصور تركيا كقوة عالمية بعد انتهاء أزمة كورونا.
من المرجح أن تحقق أنقرة نجاحًا دبلوماسيًا أكبر في دول أخرى مثل جمهوريات آسيا الوسطى كقيرغيزستان وأوزبكستان
من ناحية أخرى، يرى البعض ومن ضمنهم دانفورث أن هذه الخطوات الرمزية المرحلية لا يمكن لها أن تخفف من حدة التوتر بين الطرفين، فليس من الواضح بعد ما إذا كانت واشنطن ستتنازل عن شروطها، وعلى الضفة الأخرى ليس من المتوقع أيضًا أن تنتقل العلاقات التركية الأوروبية إلى مرحلة أبعد من المجاملات الرسمية والمختصرة طالما ملف اللاجئين لا يزال مفتوحًا. ما يعني أن خلافات تركيا مع هذه الأطراف تأجلت لحين آخر ليس إلا.
ومن المرجح أن تحقق أنقرة نجاحًا دبلوماسيًا أكبر في دول أخرى مثل جمهوريات آسيا الوسطى كقيرغيزستان وأوزبكستان، حيث بدأ رئيس أوزباكستان شوكت ميرزيوييف بالتقرب من تركيا تدريجيًا، إذ تحدث ميرزيوييف وأردوغان عبر الهاتف في وقت سابق من هذا الشهر، مشيرين إلى انفتاح العلاقات الثنائية، الأمر ذاته ينطبق على دبلوماسية تركيا في إفريقيا وهي إحدى مراكزها الاستثمارية الإستراتيجية المهمة، حيث تمنح أنقرة سوقًا تجاريًا ناميًا ومنبعًا هائلًا من النفط والغاز.