لا يزال المختبر السياسي التونسي يصدر نتائج جديدة في كل فصل سياسي إنه يتحول إلى مختبر أو مدرسة لقراءة الواقع السياسي العربي الشامل ويبدو أنه يحوّل تونس إلى إقليم قاعدة – بلغة نديم البيطار – ليس لقيادة الأمة نحو وحدتها السياسية الشاملة كما في كراريس القوميين العرب بمختلف أحزابهم وأنظمتهم وإنما في تقديم حالة مدرسية على أن التيار القومي أعجز من أن يقود الأمة نحو وحدتها، وليس أدل من تجربة تونس نموذجًا للتحليل. إننا نرى اللقاء الغريب حول حفتر بين مكونات مختلفة سياسيًا وفكريًا في تونس يضع شاهدة على قبر التيار القومي وينهي دوره إلا حنينًا إلى فكرة لم تستقم لأهلها ولم توحدهم في قطر واحد وهم الطامحون إلى توحيد أمة.
تاريخ فشل
لا نحتاج إلى استعراض تاريخي عميق لنثبت أن التيار القومي فشل في بناء الديمقراطية حيث حكم حتى فشل وأفشل. حكم التيار القومي خمس أقطار عربية كبرى (مصر وسوريا والعراق واليمن وليبيا ويمكن أن نضيف الجزائر) هي الآن أفشل الدول العربية اقتصاديًا وسياسيًا رغم أنها باستثناء اليمن أغنى الدول العربية بالمواد الطاقية. والإنسان فيها مضطهد خانع مدمر تحت الأحذية العسكرية. فلا يُرفع حذاء حتى ينزل آخر. وقد انتهت كلها تحت وصاية أجنبية. هي في جوهرها احتلال عسكري يناقض كل لغو السيادة الوطنية والقومية التي صدع بها التيار القومي رؤوس الخلق منذ قرن تقريبًا.
الفشل مرادف لحكم القوميين في بناء الديمقراطية السياسية حيث أنتج غيابها فشلًا اقتصاديًا ذريعًا وأعاد الفشل الاقتصادي تدوير الفشل السياسي. حلقة مفرغة حكمت بالحديد والنار وانتهت إلى بيع فلسطين وقبض ثمنها.
آخر حالات الفشل قادها حفتر بزعم إنقاذ ليبيا من “خونة الأمة” بزعمه (الإخوان المسلمين)، ونحن نتابع اندحاره واندحار كل التيار القومي العربي الذي وقف وراءه يسنده وينتظره في تونس ليجهز على أعداء الأمة برشاشات عوزي الإسرائيلية.
خطاب مواساة الذات الفاشلة سيرى في الفقرة السابقة دفاعًا عن أنظمة قطرية أخرى فاشلة بدورها ولكن الأنظمة غير القومية لم تطرح على نفسها شعارات توحيد الأمة وتحرير فلسطين لذلك هي غير معنية بهذه الورقة وخطاب المواساة محتاج إلى الرد من موقع آخر إذا أراد دحض ما قيل.
الحالة التونسية فشل إضافي
المثير للاستغراب في ما بعد الثورة التونسية هو ظهور تحالف سياسي بين جهتين تبادلتا العداء سابقا هما حزب فرنسا أو التيار اليساري الفرانكفوني والتيار القومي العربي وأكثر ما اتحد فيه التياران المتعاديان هو الموقف من الانقلاب العسكري في مصر ضد النظام المنتخب والموقف المساند لحفتر في ليبيا.
فرنسا تمول حفتر وتدعمه بالسلاح والرجال الخبراء، ويقف التيار القومي بكل فصائله في نفس الموقف السياسي والنضالي.
نحن نتابع هذا التحالف غير المعلن، ونتذكر العدوان الثلاثي على مصر الذي قادته فرنسا الاستعمارية، ولا يزال التيار القومي يمجد انتصار ناصر على العدوان وصموده في وجه فرنسا حليفة الكيان الغاصب.
فرنسا في تونس وطيلة عقود في الخطاب القومي عدو مكشوف وجب التحرر منه لبناء السيادة خاصة في أقطار المغرب العربي. (يوجد خطاب مماثل ومكمل في الشام/المستعمرة الفرنسية).
فرنسا هي عدوة اللغة العربية المكون الأول للهوية في تونس طبقًا للخطاب القومي. لكن حزبها (وهو تعبير مجازي عن تيار فكري وسياسي موال لها في كل أقطار المغرب العربي) يقف الآن (أو قبل الهزيمة وهو الصواب) مساندًا لحفتر لأن فرنسا تمول حفتر وتدعمه بالسلاح والرجال الخبراء ويقف التيار القومي بكل فصائله (وهي فصائل كثيرة تعجز عن العمل معًا تحت الراية القومية) في نفس الموقف السياسي و”النضالي”.
لماذا حدث هذا اللقاء في الفكرة والموقف وجعل التيارين يتحركان سويًا في البرلمان وفي الشارع لصالح حفتر؟ حيرة فكرية تكشف إن الفكرة القومية لست باطنًا روحيًا بناء بل ظاهرة سياسية خادعة ضمن نفس المعركة التي عاش منها كل حاكم قطري معاد واقعيًا للقومية العربية أي موالاة الغرب سياسيًا والاعتماد عليه لمواجهة الطلب الديمقراطي بالقوة الغاشمة.
الديمقراطية الحارقة
بعد كل هذا الفشل في الحكم وفي المعارضة نرى أن ليس للتيار القومي أية مشروع قومي بل هم نسخة غبية من تيارات اليسار العربي بمسمياتهم المختلفة (ماركسيون عرب، يسار عربي، بعث، الخ…) لم يعد شعار توحيد الأمة العربية يقنع عربيًا واحدًا بأية صيغة. لا لأن الفكرة خاطئة بل لأن من رفعها خانها وخربها فصار لفظ قومي عربي مرادفًا لكل أشكال الفشل السياسي والفكري.
ولم يكن الوقوف مع حفتر في ليبيا ومساندة الانقلاب العسكري في والدفاع المستميت عن نظام القتل والتهجير في سوريا إلا علامات إضافية على الفشل في التصورات السياسية المفضية إلى الانخراط في الديمقراطية.
إن عشر سنوات من الصراع الديمقراطي في تونس تحت سقوف حرية عالية جدًا ورغم ضعف النتائج الاقتصادية كشف أن التيار القومي ليس ديمقراطيًا مخلصًا للديمقراطية. مثله مثل تيارات اليسار الفاشلة. بل هو يتربص بها. إذ لا معنى أن تكون ديمقراطيًا في تونس ومعاديًا للديمقراطية في مصر وسوريا وليبيا. لا معنى أن تستفيد من الديمقراطية في بلد فتدخل البرلمان والحكومة وتتمتع بالحرية وترفضها لشعب آخر في بلدا آخر.
والأدهى أن تكون داعية قومية وتعمل على توحيد الأمة. فقطاع واسع من الجمهور العربي الناخب في تونس وخارجها يسأل القوميين هل ستوحدون الشعوب العربية تحت نموذج النظام التونسي بعد الثورة أم تحت نموذج نظام السيسي الانقلابي أو نظام بشار القاتل.
من استنصر على الديمقراطية بحفتر وبشار والسيسي ستطحنه الديمقراطية وتمر على جثته إلى المستقبل
الدرس الديمقراطي التونسي أربك التيار القومي لأنه وضعه في مواجهة سؤال الحكم بوسائل الديمقراطية. لقد تذكر كل مشارك في الديمقراطية إن لم يكن هناك أي نظام قومي عربي وصل إلى الحكم بطريقة ديمقراطية. فكلهم ركبوا إليه الدبابة والمكيدة المخابراتية ثم القتل والتشريد. وعندما أراد شريك القوميين في تونس أن يشاركهم الحكم وجدهم يستنصرون عليه بكل عسكري حتى الذي اصطنعته المخابرات الأمريكية في مطبخها وأعدته لأقذر المهمات.
نتابع الآن قوميين كثر في تونس وخارجها يدافعون على حفتر ولا يضيرهم في شيء أن يعرفوا أن حفتر يستعين على بعض قومه بالصهاينة. إنهم يلحسون سبعين سنة من الخطاب الجماهيري المعادي للصهيونية. لأن حفتر شكل عندهم أملًا منقذًا من الديمقراطية التي تكشف حجمهم السياسي في الواقع وتضطرهم إلى القبول بشركاء لا يستحقون عندهم الحياة.
هنا نعثر على مفتاح فهم وتحليل للفكر القومي ولتياراته ورجالاته الأفذاذ. ماذا قدم القوميون العرب للأمة العربية حيث ما حكموا غير ذبح الإسلاميين. إنه نفس مفتاح فهم اليسار العربي مشرقًا ومغربًا. اختلفت كل الأنظمة القومية في ما بينها ونموذج سوريا والعراق نموذج مثالي لاختلاف القوميين العرب. لكنها اتفقت كلها في إبادة التيار الإسلامي كأنها ما خلقت إلا لتلك المهمة.
لكن الدرس الديمقراطي التونسي يشير إلى أمر مهم. من استنصر على الديمقراطية بحفتر وبشار والسيسي ستطحنه الديمقراطية وتمر على جثته إلى المستقبل. هذه هي محرقة الديمقراطية التي ستوحد الشعوب العربية دون قوميين.