في عالمنا المعاصر، تختار الكثير من الحكومات وخاصة العربية منها رفع الضرائب على المواطنين والمستثمرين على حد سواء، وذلك لتسديد ديون الاقتراض والإنفاق الضخم دون موارد حقيقية وإنتاج محلي قادر على تسديد هذه الفواتير المتراكمة، بما يثقل الأجيال المقبلة بالدين العام الكبير، ولكن رغم عدم صلاحية هذه النظرية في تحفيز الأفراد على المبادرة الفردية واقتحام السوق بدلا من انتظار الوظائف ما ينعكس على تعاظم الركود، إلا أن الكثير من الاقتصاديين العرب لديهم ولع بتشديد الضرائب على المواطنين.
يحدث ذلك في الوقت الذي كان العالم الإسلامي والفيلسوف التاريخي “ابن خلدون” يضرب هذه النظرية في مقتل منذ القرن الرابع عشر الميلادي، ويرفضها كلية رغم الفارق الزمني الكبير والتباين في أدوات المعرفة وندرة التجارب البشرية بين الماضي والحاضر.
إبن خلدون.. من هو؟
عبد الرحمن بن محمد بن خلدون هو المؤرخ والفيلسوف الإسلامي العربي، ورجل الدولة من الطراز الرفيع، الذي عاش بين أعوام 1332-1406 م، ولد في تونس. استقرت عائلته في إشبيلية بعد الفتح الإسلامي لإسبانيا التي كانت تزدهر فيها الحياة السياسية والفكرية، وكان ابن خلدون واسع الثقافة، ومصنفاته كانت ولازالت من أهم مصادر الفكر العالمي مثل العبر، وديوان المبتدأ والخبر في معرفة أيام العرب، والعجم والبربر، وتاريخ ومقدمة ابن خلدون، كما يعد الرمز التاريخي والعلامة الأصلية التي تعبر عن المكون الثقافي لأسبانيا المسلمة.
درس ابن خلدون العلوم الدينية التقليدية وتخرج من جامعة الزيتونة، وتنقل بين مختلف مدن شمال أفريقيا، وخاصة بسكرة وغرناطة وبجاية وتلمسان، وبعد ذلك استقر في مصر، واستقبله أهلها وسلطانها أنذاك الظاهر برقوق بحفاوة بالغة، وتولى قضاء المالكية، وعاش في مصر وهو يرتقى على رأس العلوم والمعارف والقضاء لما يقرب من ربع قرن وحتى وفاته عن عمر بلغ ستة وسبعين عامًا، ودفن بالقرب من باب النصر شمال القاهرة.
ابتكر ابن خلدون نظرية سوسيولوجية عامة للتاريخ، وأصبح من خلالها واحد من أهم المفكرين الأصليين للعصور الوسطى، وبجانب تفرده الفكري كان رجل دولة مخضرم، ولكنه غادر الحياة السياسية وحاول الابتعاد عنها بعد تعرضه للكثير من الدسائس، وربما هذا ما جعله يدخل في عزلة تامة لأكثر من 3 سنوات لكتابة تاريخ المغرب العربي المعاصر وبالفعل أنجز ذلك، لكن علمه الواسع وكاريزميته أثارا ضده المؤامرات من جديد، وكان ذلك من أهم دوافع هجرته إلى مصر .
عاش ابن خلدون العقدين الأخيرين من حياته في القاهرة وكانت أنذاك عاصمة الإمبراطورية المملوكية، وهناك قدره السلاطين وعامة الناس حق قدره، فتم تعيينه ست مرات رئيسًا لقضاة المالكية، وهذه الأجواء وفرت لمؤلفاته وخاصة كتابه ” المقدمة” شهرة عالمية، ولا سيما أن الرجل يطرح أقدم نظرية عامة في طبيعة الحضارة وشروط تطورها، وقصدها كأداة لفهم التاريخ وكتابته.
كشف ابن خلدون في “مقدمته” كيفيات حسم الصراع الدائم بين البدو البدائيين والمجتمع الحضري المتقدم، وأسس لنظريات تقسيم العمل الناتج عن التعاون والضروريات الأساسية للحياة وتطور العلوم، وأوضح أسباب تفكك الدول، بسبب اضطهاد المفكرين الداعمين للحضارة، مقابل اصطفاء المجموعات الأقل تحضراً التي تملك شعورًا ملوثًا تجاه التضامن الإنساني على حد تعبيره.
وكما أنه مؤسس علم الاجتماع، ويعتبره علماء الأنثروبولوجيا في العالم “سلفهم الفكري” الذي أنتج أيضًا فلسفات عظيمة في الموسيقى والأدب البربري، والتربية والاقتصاد والغموض، كما يعتبرونه الدليل الموسوعي لجميع المعارف منذ القرن الرابع عشر وحتى الآن.
ابن خلدون والضرائب.. ماذا يقوله فيها؟
الضريبة هي الطريقة المفضلة للكثير من الحكومات للحصول على إيرادات للإنفاق، لكن المشكلة تبرز عندما تكون هناك اختلافات في الرأي حول معدل الضريبة. حيث يجادل الكثير من الاقتصاديون وخاصة الليبرالين منهم، بأن الحصول على عائدات ضريبية أعلى، يتطلب في المقابل خفض معدل الضريبة، وهي أسس اقتصادية يمتد جدورها إلى ابن خلدون، التي ذكرها في كتابة المقدمة.
الضرائب المرتفعة ستجعل الناس ينتشرون في كل مكان بحثًا عن القوت، وسيهربون إلى أماكن خارج الولاية القضائية لحكومتهم
ونظرية ابن خلدون للضرائب، هي واحدة من أهم مساهماته في الفكر الاقتصادي العالمي، وربط فيها الفيلسوف الكبير بين آليات فرض الضرائب والإنفاق الحكومي، وكان من أول الأباء المؤسسين لهذه النظرية، ومن المؤيدين لها بشدة ليس فقط كفيلسوف وعالم، بل ورجل دولة أيضا تولى المسئولية وعرفه نقاط ضعف كل قرار يمكن اتخاذه لزيادة موارد الدولة، ولهذا أوصى بضرورة خفض معدل الضريبة حتى لا تُقتل حافز العمل، ومن يدفعها من الناس، سيفعل ذلك عن طيب خاطر.
يؤكد ابن خلدون أن الضرائب تحقق عائدات أكبر في حال خفضها، ولهذا كان يدافع بشدة عن سياسة الحكمة في إنفاق المال العام، لأن رفع معدلات الضرائب لتعويض الخسائر والعجر، يرهق لناس ويساهم في انكماش النشاط الاقتصادي، وبالتالي تعتمد أسس نظريته على ترشيد النفقات الحكومية لأن العبث بها في رأيه هو الذي يوفر المبررات الواهية لفرض المزيد من الضرائب .
يطالب ابن خلدون الحكومة بالصدق مع الناس، فالهجمات على ممتلكات الأشخاص تدمر الحافز لاكتساب الممتلكات أصلا، ما يرسخ ثقافة الاتكال والكسل بين المواطنين، فإذا كان حيازة الممتلكات مصيرها النهائي في يد الحكومة، سيختفي الدافع تمامًا لاكتساب المزيد من الممتلكات، والتوقف عند ما تحدده السلطة من نسب تصاعديه على الثروة.
يرفض ابن خلدون انتهاك حقوق الملكية، ويرفض أي شكل للضرائب يمكنها تدمير الحافز، واللجوء في المقابل إلى نشاط طفيف، فالحضارة والرفاهية والازدهار التجاري يعتمد على الإنتاجية، وجهود الناس في جميع الاتجاهات، ويوضح العالم العربي أن التوقف عن المكسب خوفًا من الإجراءات المشددة على الربح يؤدي بالتبعية إلىى تراجع دوران الحضارة.
الغريب أن ابن خلدون ــ ابن القرن الرابع ــ الذي لم يقرأ عن الحداثة ولم يتعلم من أدبياتها، كان يسبقها زمنيًا وفكريًا، حيث قدم تصورات عن كيفية هروب رجال الأعمال الآن برؤوس أموالهم من بلدانهم الأم، إلى بلدان أجنبية توفر لهم حوافز أعلى وضرائب أقل، وقال في مقدمته أن الضرائب المرتفعة ستجعل الناس ينتشرون في كل مكان بحثًا عن القوت، وسيهربون إلى أماكن خارج الولاية القضائية لحكومتهم، بما يفرغ الأوطان من رجالها الأقوياء وتقبع المدن في حالة خراب، ما ينعكس في النهاية على تفكك السلالة الحاكمة وإنهاء صلاحية الحاكم، فقراراتهم وانعكاساتها تحدد بقاءهم أو إندثارهم.
العلم الحديث ينتصر لـ «ابن خلدون»
ما يجعلك في حالة فخر بهذا التاريخ العظيم، الذي كان ينتصر للعقل والتقدمية وكان يسبق العالم في إعمال الفكر والضمير الحر والحداثة، ويضع أولويات الحضارة قبل أي شيء آخر، أنها نفس المرتكزات التي يحياها العالم المتقدم الآن، ولهذا فالمنطق الخلدوني في الضرائب تنصفه الكثير من الأبحاث الحديثة ومنها دراسة أعدها المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية، وهو مركز أبحاث أمريكي قديم وموثوق به، وخلصت إلى أن التغييرات الضريبية لها آثار كبيرة جدًا على أي مجتمع، ففرض زيادة ضريبية بنسبة 1% من الناتج المحلي الإجمالي، تخفض الناتج الحقيقي على الفور بنحو 2 إلى 3% .
تنصف الدراسات الأمريكية رؤية ابن خلدون عن الآثار السيئة للضرائب، فصحيح أنها مهمة لتمويل الأنشطة الحكومية، ولكنها في المقابل تؤدي إلى توزيع منحرف للدخل القومي، بسبب الآثار السلبية المحتملة لرفع الضرائب واحتمال حدوث ردة فعل سياسية، وإثقال كاهل الفقراء، كما تدفع أصحاب المشاريع الصغيرة للخروج من العمل، فيتعمق الركود وترتفع درجة حرارة الصراع السياسي والاجتماعي في البلدان التي تسعى لتحميل شعوبها المزيد والمزيد من الضرائب.
يمكن القول أن أكثر الذين أنصفوا ابن خلدون بالإسم في البلدان الغربية، هو الرئيس الأمريكي رونالد ريغان، الذي فاز في انتخابات عام 1980، وتبنى سياسة صارمة مناهضة للضرائب، وكان يشير إلى ابن خلدون بالإسم، ويؤكد أنه تعلم منه الكثير، بل وكان يعتبره صاحبة السلطة الأصلية التي كشف علل الضرائب المرتفعة، ما يقلل من قدرة رجال الأعمال في عصورنا الحالية على الإنتاج، الأمر الذي يخلق مشاعر سيئة ويوفر مناخ من عدم الثقة بين الجميع، وعلى درب ريغان في أمريكا يسير الآن دونالد ترامب الذي يدافع أيضًا عن التخفيضات الضريبية .
ولا يتوقف الأمر على المدرسة الأمريكية فقط، بل يستشهد بوريس جونسون، رئيس وزراء بريطانيا بابن خلدون، وكان يقتبس من حكمه ونظريته الكثير خلال حملاته الانتخابية، والمقابلات التي شارك فيها، وتحدث عن مشروعه الاقتصادي الذي يدعم خفض الضرائب، ولم يتخل جونسون عن ابن خلدون عندما أصبح رئيسًا للوزراء، وظهر اسم الفيلسوف الإسلامي الكبير، خلال مقابلاته اللاحقة التي شهدت استفسارات عدة عن طريقته لإدارة الضرائب.
لم يكن ابن خلدون شعبويًا بالطبع مثل ترامب وجونسون، ولكنه كان يدمج بين التدين والإنسانية والعقلانية والانتصار لكل أسباب الحضارة، للإبقاء عليها في ديار المسلمين، فالمجتمع الضعيف لا ينتج ولا يبدع ولا يعرف للرفاهية باب، وربما عندما تركنا هذه الأسباب خلفنا وأصبحنا في ذيل الأمم، وتفرغنا لرجم الحداثة بكل النقائص، بدلًا من المشاركة فيها والبناء عليها وصناعة بصمتنا الشخصية فيها، كما كان أسلافنا في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية.