على مدار التاريخ الطويل للقراصة يشار إليهم في أي تعريف بأنهم لصوص البحر الذين يصطادون السفن ويسلبونها بضائعها، بل وكانوا يستولون أحيانًا عليها لأغراضهم الخاصة، هذا التاريخ بدأ منذ أكثر من 2000 سنة في اليونان القديمة، وكان القراصنة آنذاك يهددون طرق التجارة ويهاجمون السفن الرومانية ويستولون على شحناتها.
وكما أسلفنا في مقدمة الملف ازدهرت القرصنة في شكلها البحري بين القرنين السابع والثامن عشر، وسمي بالعصر الذهبي، ولكن ماذا عن شكل القرصنة في البحر وكيف تعاملت الدول مع القراصنة سواء في استغلالهم أم لحظات الانتقام منهم!
كل شيء مباح
عند ذكر كلمة القرصنة يتبادر إلى الذهن الآن دول العالم الثالث وخاصة الصومال وإندونيسيا، وهي الدول التي ارتبطت في الأذهان مؤخرًا بتنامي ظاهرة القرصنة على حدودها وسرقة السياح والسفن، ولكن سلف هذه الظاهرة بشكل واضح وتسمينها يتحمل مسؤوليته العالم أجمع، من بداية ظهورها في القرن الخامس قبل الميلاد وانتقالها للاستقرار على شواطئ الخليج العربي، بالإضافة إلى سواحل البحرين الأبيض المتوسط وبحر الصين، مرورًا بتسللهم عبر الأزمان المختلفة وإعاقتهم للتجارة البحرية منذ نشأتها الأولى.
من القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر، نشط أيضًا الكثير من قراصنة البربر المسلمين، وخاصة على سواحل دول شمال إفريقيا مثل الجزائر وتونس وليبيا والمغرب
تطور الموقف العالمي من القرصنة وتنوع بشدة بين الدعم والمهادنة والانتقام، وأبرز هذه النماذج جسدها هنري الثامن ملك إنجلترا التاريخي، ومن بعده الملكة إليزابيث الأولى وبعض ملوك الغرب الذين شاركوا القراصنة مسروقاتهم وغنائمهم ووظفوهم كوكلاء لهم في جلب العبيد الأفارقة وشحنهم إلى منطقة بحر الكاريبي التي اكتظت بالأفارقة بفضل القراصنة في المقام الأول.
بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، تنافست الحكومات الغربية في إصدار “خطابات ملكية” ترخص للقراصنة نهب السفن، ما كان يحول دون اتهامهم بالقرصنة، وهي جريمة عاقب عليها العالم بالإعدام بكل صنوف العذاب، وكان فرانسيس دريك قائد الأسطول الإنجليزي وأشهر شخصية في إنجلترا بالقرن السادس الميلادي، الذي بدأ كتاجر رقيق، يهاجم سفن الكنز الإسبانية العائدة من العالم الجديد، ثم يتقاسم الأرباح مع الملكة إليزابيث الأولى.
في البحر الأبيض المتوسط ومن القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر، نشط أيضًا الكثير من قراصنة البربر المسلمين، وخاصة على سواحل دول شمال إفريقيا مثل الجزائر وتونس وليبيا والمغرب، في مهاجمة سفن الدول المسيحية بإيعاز من حكومات هذه البلدان، وسميت هذه الهجمات بالجهاد البحري، وتقول المراجع الإسلامية إن هذه العمليات استهدفت في المقام الأول الرد على محاكم التفتيش التي أقامها الملوك المسيحيين للأندلس، وكرد فعل عادل على ما فعله الإسبان بحق المسلمين.
سفن القراصنة عبر التاريخ
كان القراصنة على مدار تاريخهم يحتاجون إلى سفن سريعة وقوية للتنقل في المياه الساحلية والاختباء في الخلجان والمداخل المعزولة، ولهذا في القرنين السابع عشر والثامن عشر، استخدم القراصنة القوادس الطويلة والضيقة مع الشراع، ما كان يسرع من حركة المراكب، فكل مجداف يديره ما يصل إلى ستة عبيد يتم تقييدهم في المقاعد، للحصول على أقصى قوة دفع ممكن.
كانت سفينة القراصنة التي تسمى بـ”اللؤلؤة السوداء” واحدة من أشهر سفن القراصنة، ولهذا تحظى حتى الآن في السرديات الأدبية بشعبية كبيرة وتم تجسيدها في أفلام قراصنة الكاريبي، ورغم بساطة تصميمها، تُحفر على الفور في الذاكرة، لهيكلها الأسود والأشرعة المتعددة التي تداعب الهواء على متن السفينة، ولهذا عندما ظهرت في نسختها الأولى، عرفت باسم الساحرة الشريرة، ولكن بعد حرقها وإعادة إصلاحها جرى إعادة تسميتها مع تغيير بعض تفاصيلها.
أما سفينة جولي روجر، فهي إحدى السفن الهجومية التي استخدمت خلال أوائل القرن الثامن عشر، ولحقت بالجزء الأخير من العصر الذهبي للقرصنة، واسم جولي روجر نفسه يشير إلى الأعلام التي ترفع في حالة الهجوم على الهدف.
وكانت تستخدم الجمجمة والعظمتين المتقاطعتين شعارًا لها وكرمز للإرهاب في أعالي البحار، وكانت مثل العلامة التجارية القوية التي تخدم الصورة المتخيلة عن القراصنة وسمعتهم التي تتحاكى بها الشعوب، فهذه الأعلام تزكي عنهم صورة القرصان المتعطش للدماء والمنتهك للقانون، ومن هنا أصبح شعار جولي روجر الأكثر استخدامًا للقرصنة خلال عشرينيات القرن التاسع عشر، رغم ظهور تصميمات أخرى خيالية تخدم الصورة السريالية للقراصنة المحببة لديهم باعتبارهم خارقين للعادة.
أيضًا هناك سفينة مغامرة جالي التي أسسها القرصان الإسكتلندي ويليام كيد، وكانت لها مهام مختلفة، لتصديها لهجمات سفن القراصنة الإنجليز على جزر الهند الشرقية، حماية للمصالح الفرنسية، وبعد انتهاء مهامها، حاول كيد العودة بسفينته إلى لندن بحثًا عن صفقة ونسيان ما مضى، لكن عندما وصل تم إدانته بتهمة القرصنة وأعدم على الفور.
أما سفينة القراصنة الأكثر شهرة، فتسمى انتقام الملكة آن، وكانت تسمى في الأصل كونكورد، واستولى عليها القراصنة الإنجليز، وهي بالأصل سفينة للرقيق ملكها الفرنسيون وكنت قادرة على التحرك والإبحار بسرعة، وانتهت أسطورتها بشكل مؤسف، حيث داهمتها خمس سفن تجارية أمريكية وتم التضييق عليها من كل اتجاه حتى تقطعت بها، فانحرفت إلى الشاطئ وغرزت في الرمال وهرب أفراد الطاقم إلى جزيرة صغيرة.
استسلم الطاقم وحصلوا على عفو ملكي من الحاكم تشارلز إيدن زعيم ولاية نورث كارولينا، ولكن بلاكبيرد قائد السفينة عاد من جديد إلى القرصنة بعدما استشعر عدم جدوى حياته الجديدة، وقتل بعد عام واحد وتحديدًا عام 1718.
العقوبة الرسمية لقراصنة البحر
كانت العقوبة الرسمية للقرصنة هي الموت شنقًا وأمام قطاع حاشد من الناس، إذا تم القبض عليهم على الأرض، ويحدث ذلك بعد محاكمة موجزة وحكم قانوني، ولكن إذا هاجم القراصنة سفينة وكان هجومهم عنيفًا وتم القبض عليهم وسط البحر، أمكن إعدامهم دون محاكمة بموجب قانون البحرية، وغالبًا ما تم تشويه جثث القراصنة الذين أُعدموا.
اتبعت بعض الدول في القرون الوسطى عقوبات قاسية للغاية بحق القراصنة، فكان يتم تصفيتهم دون أن يتم التخلص من الجثة، لوضعها في قفص حديدي ومنع الأقارب من دفنها، وأحيانًا كانت تترك الجثث على هذا الوضع لسنوات عدة، ولهذا كان القراصنة يخشون هذه العقوبات أكثر من الشنق، وأبرز من قتلوا ومثل بأجسادهم القرصان ويليام كيد الذي علق جسده لمدة ثلاث سنوات ووضع في مصب نهر التايمز كفزاعة للبحارة والقراصنة وقطعت رأسه وعلقت وسط ساحة سفينة القراصنة الشهيرة HMS Pearl.
انتهت القرصنة المنظمة في القرن التاسع عشر بسبب هجمات السفن الحربية الهولندية التي كانت تقوم بدوريات في جنوب شرق آسيا، كما هاجمت البحرية البريطانية القراصنة في بحار جنوب الصين، وبحلول عام 1850 لم يكن هناك سوى عدد صغير من القراصنة المتبقين على قيد الحياة، ولكن تأثيرهم نسج في مخيلة الناس قصصًا أسطوريةً وخياليةً عنهم، وخاصة بعدما خلدتهم الروايات الأدبية والمسارح والأوبرا، لدرجة أن قصصهم الخيالية كانت أشهر بكثير من قصصهم الحقيقية.
في العصر الحديث، عاد القراصنة من جديد، وأصبحوا يعتمدون على السرعة والمفاجأة في هجماتهم، باستخدام القوارب السريعة، ولهذا سارعت دول العالم إلى مقاومة الظاهرة من جديد وتم وضع تعريف جديد للقرصنة ونص عليه في المادة 101 من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982، ولكن هذا لم يقاوم القرصنة بل ازدادت في التسعينيات وتكاثرت ظاهرة الاستيلاء على السفن واحتجازها هي وأطقمها للحصول على فدية، بواسطة جماعات مسلحة وخاصة في النطاق الإقليمي للصومال.
هذا النشاط أثار الكثير من المخاوف على الملاحة القادمة إلى خليج عدن مرورًا بالمنطقة الضيقة بين القرن الإفريقي وشبه الجزيرة العربية، خاصة مع تطور أساليب القرصنة ومهاجمة السفن لمسافة كبيرة من الساحل، وبعض الدول كانت تتفاوض معهم سرًا وتنجح في الحصول على السفن وأطقمها مقابل مبالغ كبيرة من المال كفدية، ورصد بعض من ذلك دراسة للبنك الدولي أكد فيها حصول القراصنة على أكثر من 400 مليون دولار على سبيل الفدية، ما بين أعوام 2005 و2012 فقط، الأمر الذي أثار القلق في جميع دول العالم، ولهذا ربط مجلس الأمن بين أنشطة القراصنة قبالة سواحل الصومال على وجه التحديد، ومفهوم تهديد السلم والأمن الدوليين.
قواعد الاشتباك مع القراصنة بالعصر الحديث
ينظم القانون الدولي كيفية الاشتباك مع سفن القراصنة ويعطي سلطة لجميع الدول بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار باستخدام القوة وجميع الوسائل اللازمة لقمع أعمال القرصنة والسطو المسلح، ومصطلح كل الوسائل الضرورية يعني “استخدام القوة” بكل أشكالها وألوانها، لكن القانون الإنساني الدولي يضع بعض الضوابط ويرفض استهدافهم إلا في حالة الدفاع عن النفس الفوري.
يحدد القانون آليات استخدام القوة ضد القراصنة، ويطالب بأن تكون معقولة وضرورية وتتناسب مع احترام حقوق الإنسان للأشخاص، ولهذا تعتبر الكثير من الدول أن قانون أعالي البحار على وجه التحديد في حاجة إلى تعديل، فتعريف القرصنة الوارد به ضيق جدًا ولا ينظم كيفيات مواجهة القراصنة إلا في أعالي البحار وخلال الهجوم من سفينة ضد سفينة أخرى فقط، ولا يشمل عمليات تسلل القراصنة إلى رحلات السفن والسيطرة عليها من الداخل واحتجاز طاقمها وطلب فدية للسفينة، وغيرها من الثغرات التي لم تعالج حتى الآن!