لعل أحد أهم فوائد أزمة كورونا أنها أعادت إلى الواجهة الجدل العام عن الحق في الصحة وقدرة الدول المختلفة على توفيره وطبيعة إمكانات واحتياجات القطاعات الصحية وأهمية إصلاح النظم الصحية في العالم وليس في مصر وحدها.
وعلى مدار عقود كانت هذه قضية شبه محصورة من حيث الاهتمام بها على المناضلين والمعنيين في المراكز البحثية المهتمة بالسياسات العامة أو بعض قادة الأحزاب أو حتى أعضاء اللجان الخاصة بالقوانين المرتبطة بالنظام الصحي التي تشكلت وانفضت أكثر من مرة على مدار سنوات ما بعد الثورة، ثم الجدل بشأن قانون التأمين الصحي الشامل وما كانت تثيره بعض السجالات الصحفية عن هذا القانون الذي رغم كل شيء يظل منجزًا مهمًا ما كان ليكتمل لولا نضالات عقود ولولا سياق الثورة الذي فرضه على أجندة أعدائها قبل أبنائها.
منذ بداية أزمة كورونا ظهر التخبط المصري في التعامل مع الأزمة، فمن إنكار وجود حالات رغم تزايد أعداد الحالات العائدة من مصر حول العالم لعشرات الحالات إلى الإقرار بوجود الجائحة في نطاق محدود مع الحرص الشديد على عدم الحديث عن الأمر والتعامل مع الأزمة باعتبارها أزمة عابرة وأن السياحة هي الأهم، وبدا هذا واضحًا في زيارة وزيرة الصحة ووزير الآثار لبعض المناطق السياحية كنوع من الترويج للسياحة وفي وقت كانت العديد من الدول توقف الطيران مع الصين كانت مصر لا تزال تفخر باستقبال وفود سياحية صينية.
وصولًا للترويج للعلاج بالمش والجعضيض والجرجير والشلولو على صفحات رئيسية بجرائد مصرية واسعة الانتشار، ثم الدخول في طور الترويج لـ”دبلوماسية الكمامات” وأن الدولة المصرية قادرة على السيطرة على الوضع بل وتوريد المستلزمات الطبية للصين وإيطاليا والولايات المتحدة، وفي الوقت الذي كان وزراء الصحة في العالم يقفون على رأس لجان علمية متخصصة لإدارة الأزمة كانت الوزيرة تحرص على أن ترافق طائرات المساعدات مع حملات دعائية على مواقع التواصل من صفحات مجهولة بأن الوزيرة تحمل معها مصلًا اكتشف في مصر.
رغم الحاجة الماسة إليهم.. تزايد مظاهر استفزاز الأطباء
كانت شحنات المساعدات التي تقدمها مصر للدول الأخرى أحد أكثر مظاهر الاستفزاز للشعب المصري عامة وللأطباء بصفة خاصة، حيث تزامن هذا مع تنبيهات انتشرت من العديد من مديريات الصحة على الأطباء والفريق الطبي بعدم استخدام الماسكات وأدوات الوقاية الأخرى إلا في أضيق الحدود ومن الطبيب المخالط لحالة إيجابية لندرة تلك المستلزمات بالمستشفيات.
ثم تزايدت فيديوهات الاستغاثات من الكثير من المستشفيات في ربوع مصر بأن هناك نقصًا حادًا في تلك المستلزمات وعلى كل من يستطيع المساعدة وتوفير المستلزمات أن يتفضل بتوفيرها، وعوقب أحد الأطباء في الشرقية بنقله من مقر عمله وإحالته للتحقيق لإذاعته إحدى تلك الاستغاثات على صفحته الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي.
ثم جاءت أزمة تفتيش أحد أعضاء مجلس النواب على المستشفيات في استعراض لعضلاتهم الانتخابية على الأطباء في وقت أزمة، وصحيح أن هذا يدخل في نطاق عمله الرقابي إلا أن الطريقة الاستعراضية التي تتزامن مع حملته الانتخابية كانت مستفزة ما استدعى ردًا من النقابة لمواجهة مثل هذا السلوك، وهي إحدى الإشكاليات التي تتكرر منها شكوى الأطباء أنهم لا يعلمون تبعيتهم لأي جهة على وجه الدقة: هل هم تابعون لوزارة الصحة على اختلاف قطاعاتها عبر المديريات أم للجامعات التابعة بدورها لوزارة التعليم العالي أم للمحليات بمستوياتها المختلفة؟ وما طبيعة العلاقة بين تلك المستويات؟ ومن ثم ما مدى مسؤولية هذه الجهات عن توفير المستلزمات لهم قبل محاسبتهم؟
وبينما طالبت النقابة العامة للأطباء بضرورة استغلال فترة أواخر رمضان مع إجازة العيد لفرض الحظر الكلي لمدة أسبوعين متتاليين وبدت بوادر استجابة من المستشار العلمي للرئيس، فإن هذه البوادر سرعان ما اختفت واستقرت الحكومة على الانحياز لوجهة نظر الرئاسة ورجال الأعمال الذين أصروا على أن الحل هو التعايش مع الجائحة واستمرار العمل وأن دعاوى التعطيل هي مؤامرة من القوى المناوئة للسلطة.
وصولًا لأزمة تزايد الوفيات في صفوف الفريق الطبي بشكل عام في مصر والاستفزاز المرتبط بتوفير المستلزمات الطبية الأساسية للوقاية وتوفير عدد كاف من التحاليل وتخفيف القيود الواردة في بروتوكول وزارة الصحة بالنسبة لمن يحق لهم إجراء الفحص من الأطباء وذلك لضمان اكتشاف الحالات مبكرًا بين الفريق الطبي ومن ثم علاجها لتكمل عملها وتحد من العجز الموجود، في الوقت الذي كانت تجابه مطالبهم بالرفض وعدم توافر سرير رعاية لزميلهم وليد يحيى الذي استشهد في أثناء تأدية عمله بمستشفى المنيرة.
تزامنت حالته مع إصابة الممثلة المصرية رجاء الجداوي التي تم نقلها لإحدى مستشفيات العزل الصحي، فيما لم يتم نقل الطبيب لتلقي الرعاية، وأثارت حادثة وفاته خلفية عدم توافر أماكن خاصة بالأطباء المصابين بفيروس كورونا لتلقي الرعاية الطبية الملائمة حالة تضامن من زملائه، مما دفع عدد من الأطباء إلى تقديم استقالات جماعية، احتجاجًا على “ضعف الخدمات الطبية” لمرضى فيروس كورونا من الفرق الطبية العاملة في مواجهة انتشار الفيروس.
وبينما سارعت وزارة الصحة بإجراء الفحوص الطبية لنواب البرلمان وكذلك للعديد من المنتسبين للوزارات وللمحافظين وأسرهم، ظل الأطباء والتمريض والمسعفون والعاملون بالقطاع الصحي في الصفوف الأمامية من المخالطين للحالات الإيجابية لكورونا يستغيثون لضرورة إخضاعهم للفحوصات اللازمة دون استجابات قوية، وجراء هذه السياسة وهذا التعنت سجلت مصر واحدة من أعلى نسب الوفيات بين الأطباء في العالم.
جراء دعاوى الاستقالات وهذه الغضبة من الأطباء والمتضامنين معهم على وسائل التواصل الاجتماعي، لجأت السلطة لحملة ممنهجة لشيطنة الأطباء ونقابتهم بوصفهم أعضاء بجماعة الإخوان المسلمين واكتست الصفحة الأولى من جريدة الدستور الرديفة للسلطة بصور من وصفتهم بـ”كلهم إخوان” التي ضمت نقيب الأطباء السابق الدكتورة منى مينا، بالإضافة للنقيب الحاليّ الدكتور حسين خيري، ورغم أن هذا قوبل بحملة تضامن من قطاع واسع المصريين مع الأطباء على وسائل التواصل الاجتماعي وأدى لمحاولة الحكومة امتصاص غضب الأطباء ولقاء نقيب الأطباء والوعد بالاستجابة لمطالب النقابة بتعزيز وسائل الوقاية للأطباء وتخصيص أماكن عزل وعدد من التحاليل لهم، فإن تصريحات السيسي لا تزال تعتبر الأزمة مفتعلة وأن “أعداء الوطن يشككون في جهود الدولة”، ما يعني أن الحملة ضد الأطباء لم تكن عفوية أو اجتهادات شخصية من مؤيدي السلطة.
الهجرة أزمة مزمنة واستنزاف للنظام الصحي وللتعليم الطبي
كشف الجدل العام بشأن الأزمة الحاليّة أنها عرض لأمراض مزمنة في النظام الصحي أكثرها أهمية هجرة الأطباء واستقالاتهم من وزارة الصحة، إذ تبدو الأزمة الحاليّة ومظاهرها كاشفة لعجز شديد في الأطباء والأطقم الصحية كما في المستشفيات والوحدات الصحية، هذا العجز ناجم عن هجرة واسعة للأطباء المصريين سواء للدول العربية أم لأوروبا والمملكة المتحدة.
وبينما تشير دراسة أعدها المكتب الفني لوزارة الصحة بالتعاون مع المجلس الأعلى للجامعات والمجلس الأعلى للمستشفيات الجامعية، بدراسة احتياجات سوق العمل المصري من المهن الطبية التي تشمل الأطباء البشريين وأطباء الأسنان والصيادلة وممارسي العلاج الطبيعي، أن العدد الحقيقي للأطباء القائمين بالعمل في وزارة الصحة والهيئات التابعة والجامعات ومستشفيات جامعة الازهر يساوى تقريبًا 82 ألف طبيب أي ما يعادل 38% فقط من القوى الأساسية للأطباء وهو ما يعنى أن 62% من الأطباء البشريين يعملون خارج مصر أو استقالوا من العمل الحكومي أو في إجازة دون راتب للعمل بالقطاع الخاص ليصبح المعدل الحقيقي للأطباء هو 8.6 طبيب لكل 10 آلاف مواطن، فإن بيانات البنك الدولي ومنظمة الصحة العالمية تشير إلي أن هذا المعدل هو طبيب لكل 2000 مواطن مصري طبقًا لأحدث بيانات متوافرة لديهما في 2018.
الهجرة الاقتصادية: مصر تعلّم والسعودية وأوروبا توظف
تمثل دول الخليج العربي وجهة أساسية للأطباء المصريين تليها أوروبا، إذ يقدر عدد الأطباء المصريين في السعودية وحدها بما يفوق 65 ألف طبيب مصري وتتوزع النسبة الباقية على الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة وإيطاليا، ترجع أهم أسباب تلك الهجرة الكبيرة للأطباء نحو دول أخرى، البحث عن مستقبل أفضل وعن تقدير اجتماعي وظروف عمل لائقة، ويتقاضى الأطباء في الدول الأوروبية أكثر من عشرة أضعاف ما يتقاضاه زملاؤهم في مصر، كما تتذيل مصر قائمة الدول العربية من حيث أجور الأطباء، حيث تتحدث بعض الدراسات عن أنهم يتقاضون مرتبات زهيدة، لا تتجاوز 2800 جنيه للطبيب المبتدئ رغم ظروف عملهم السيئة وتعرضهم لمخاطر العدوى والتعدي اللفظي والبدني والتشويه في الدراما والسينما.
وبينما سبق وأقرت الوزارة أنها وضعت يدها على الأزمة وأنها بدأت مساعي استرجاع 60 ألف طبيب للعمل في مصر منذ ما يقرب من عام، ودراسة هذه الأزمة في البرلمان إلا أن تلك المساعي يبدو أنها لم تحقق أهدافها، ويبدو أن توظيف الأزمة الحاليّة لا يصب في اتجاه تحقيق تلك المساعي وإنما استمرار تصدير الأطباء مع زيادة الأعداد وعلى حساب تردي التعليم الطبي المصري واستمرار مؤشرات القطاع الصحي المصري كما هي إن لم تترد أكثر.
يحمل هذا الموضوع أكثر من جانب، إذ يبدو أن حسبة الأرقام تنتصر على حسبة حقوق المصريين في الصحة، فبينما تحاول الحكومة الموازنة بين اعتبارات التحويلات الكبيرة التي يحولها الأطباء في الخارج وما يوفرونه من أجور وما يدفعونه من تأمينات وما ينبغي عليها أن تدفعه لهم لتوفير أجور تنافسية حال رغبتها استرجاعهم، فإذا كان عدد الأطباء المصريين العاملين بالخارج 100 ألف طبيب، يسدد كل منهم 1000 دولار سنويًا نظير التأمينات والمعاشات بمتوسط مئة مليون دولار، إضافة إلى تحويل مدخراتهم إلى داخل مصر وهي ما لا تقل عن 3 مليارات دولار سنويًا، بحسب تصريحات الدكتور أحمد حسين عضو مجلس نقابة الأطباء، وبالتالي فإن إرادة التقشف تغلب على الالتزام بالحق في الصحة أو مطالب تحسين أجور الأطباء.
كما تركز الوزارة وبعض المسؤولين على التوسع في التعليم الطبي وبالذات الخاص وهو التوجه الذي يرفضه قطاع من الأطباء ويتزايد في السنوات الماضية بافتتاح العديد من كليات ومعاهد الطب الخاصة التي أحدثت إشكالية مع نقابة الأطباء لجهة عدم توافر المعايير ذاتها لتلك الجامعات والمعاهد التي تتطابق مع نظيرتها في الجامعات الحكومية وعدم توافر مستشفيات جامعية واستنزاف هذه الجامعات للكادر التدريسي بالجامعات الحكومية وتوفيرها للتعليم لمن يستطيع أن يدفع أكثر لا لمن هو أكفأ، ومن ثم مطالبات بين الأطباء بعدم اعتماد خريجيها في النقابة، ظهرت هذه الأزمة في الجدل حول كلية التعليم الطبي وكذلك مع كل افتتاح لكلية طب في جامعة خاصة وكذلك في افتتاح كلية طب تابعة للقوات المسلحة.
وفي الوقت الذي تقر فيه الوزارة بالعجز في أعداد الأطباء فإنها أقرت نظامًا جديدًا للتكليف منذ نهاية العام الماضي دون نقاش مع من يطالهم النظام، ولقي اعتراضات واسعة من الأطباء ونقابتهم وهي الأزمة التي نجمت عن محاولات الدولة للتنصل من تكليف أطباء الامتياز وتخفيف التزامها بتحسين الوحدات الصحية الأساسية تمهيدًا لطرحها للخصخصة كما كان مخططًا بالنسبة لمستشفيات التكامل قبل أزمة كورونا بادعاء أنه لا يوجد أعداد كافية من الأطباء لها ومن ثم يجب خصخصتها بدلًا عن إغلاقها، كما لو كان القطاع الخاص قادرًا على جلب أطباء من الخارج، بينما الوزارة ترفض تعيين أطباء جدد.
وهي أزمة لا تزال مستمرة، إذ رفض قرابة 7000 من خريجي كليات الطب دفعة مارس 2020 استلام التكليف على النظام الجديد باعتباره يسبب عجزًا في الوحدات الصحية وفي الطب الوقائي ولا يضمن تدريبًا جيدًا للأطباء ولم تحسم بعد رغم بوادر توظيف أزمة كورونا للالتفاف على حقوق هؤلاء الأطباء رغم وعود بحلها وإتاحة التظلمات الفردية منها.
في النهاية فإن السياسات المتبعة لعقود في إدارة النظام الصحي وأزماته لم تكن لتؤدي لنتيجة أفضل من هذا لو كان الهدف منها طرد الأطباء والأطقم الصحية من المنظومة، رغم وجود بعض الاختراقات التي حققها خبراء ومناضلون في القطاع الصحي بتمرير منظومة التأمين الصحي الشامل التي يمكن أن تؤدي لتحسين القطاع الصحي إذا ما خصصت لها الموارد اللازمة وتم تسريع وتيرة تطبيقها وتعزيزها بتعجيل لتعديل منظومة الأجور الحاليّة.