صحيح أنَّ تمظهرات العنف “الداعشي” سابقة على “داعش” نفسه، سواء في التداول العربي أو الإسلامي أو الغربي أو خلافه، ومن المفيد هنا الرجوع لمؤلفات عبود الشالجي وهادي العلوي وميشال فوكو وبراين اينز، وجلي أنَّ الظاهرة الميديوية والسِبرانية أضفت زخمًا وقوة على الممارسات العنيفة لهذا التنظيم، لكن ما يبدو لي مثيرًا، ربما كي نتجاوز التحليلات الصحفية والإعلامية سريعة التحضير، هو التعاطي مع مقدار من الأسئلة الواجبة؛ من المفهوم، باعتبار الدرس القانوني الحديث، أن تحديدات وتقنيات وتجليات العقوبة في المعجم الداعشي شديدة التخلُّف من حيث عدم تلبيتها لمقتضيات علم العقاب المعاصر، فضلاً عن منجزات نظريتي القانون والحق، وإذن فهي تعاني من تخلف قانوني جذري، من تخلف نقصد به أنها لا تتناول الأشكال الجديدة لحقيقة الجسد والجزاء والتأهيل والردع والمراقبة والمعاقبة.. إلخ، ولا تضعها في اعتبارها ولا تشتبك معها في أي مستوى، لكن في أي نقطة يختلف داعش عن ثلاثي الدول العربية والإسلامية والحركات الإسلامية المدنية والمؤسسات الدينية الرسمية، في موقفه من العلاقات الممكنة بين الجسد والعقوبة، أو بين الإيلام والأثر؟
إذا أخذنا نقطة محددة جدًا هي “القصاص من جسد المحكوم عليه”، عن طريق جلده أو تشويهه أو بتر أحد أعضائه أو بعضها أو قتله بالكلية رجمًا أو ذبحًا أو ..، باختصار، مزاولة العقوبة على نحو غير حديث، فما هو موقف الحكومات العربية والإسلامية من الأمر؟
إمّا أنها خضعت لأحزمة التديين في مجتمعاتها فرفضت التوقيع على اتفاقيات دولية حقوقية كنوع من الرشوة لهذه الأحزمة، أو وقّعت عليها، في نوع آخر من الرشوة مقدم للمجتمع الدولي والدول والمنظمات المانحة، ورفضت هذه الأنماط الجزائية مع عدم تقديم أي أجوبة حول النظام العقابي الإسلامي الذي تمت عملية تنحيته جانبًا، ومع تعامل لصوصي مع الموروث الديني للتخديم على براغماتيتها السياسية، وهذا من بين تناقضات السلطة السياسية في محيطنا، وفي الحالتين ثمة إلغاء للنقاش ولف ودوران حول مرتكزات أساسية في ثنائية الجسد/ العقوبة.
وما موقف الحركات الإسلامية والمؤسسات الدينية؟ إنّها تتبنى نفس المواقف المخاتلة والضبابية من مسألة علاقة العقوبة بالجسد، من خلال الرغي والزبد في السياق الممكن لتفعيل النظام الجنائي الإسلامي، ومدى فعالية هذا النظام العقابي، وغير ذلك من الحديث الجبان الذي يمتنع عن الدخول في القلب الحقيقي للنقاش اللازم حول ذهنيات المعاقبة ومكانة الجسد وهدف العقوبة ودور المؤسسة العقابية، والخروج من وضعية الجبن والتهيّب يجعلنا في مواجهة تساؤلات صارمة عن الممكنات الحقوقية التي يقدمها ثلاثي القصاص والحدود والتعازير، تساؤلات تم “التعالي” عليها في مدونات عبد الرزاق السنهوري وعبد القادر عودة وتوفيق الشاوي وطارق البشري وسليم العوا (أبرز من اهتموا بالدرس القانوني في صلته بالشريعة الإسلامية في مصر)، إذ تمت المُدارسة على نحو تقني كانت غايته رضينة الشريعة وتلخيصها، أو في سياق تاريخي مؤطر بثنائية الأصالة/ المعاصرة (كما هو حال البشري)، وطالما ظل ذلك كذلك فإن أي نقد موجه لداعش، من داخل الحيز الإسلامي أو الدولتي، سيكون فاقدًا للشرعية والأرضية الأخلاقية؛ لأن سؤال الجسد فُطس وُجدع، وما يواجهنا به داعش حول الجسد ليس أقل أهمية مما يفرضه علينا بخصوص سؤال الدولة، بل إن سؤال الجسد هو السؤال الفعلي للأزمنة المعاصرة، فالجسد هو فضاء التشكيلات الخطابية وسياسات الترميز.
لكل هذا، من يجرؤ على نقد داعش، من يمتلك عينًا لذلك؟!