“مولاي صل وسلم دائمًا أبدًا.. على حبيبك خير الخلق كلهم”، يحفظ غالبية المصريين هذا البيت عن ظهر قلب، فيما تتناقله الألسنة داخل مصر وخارجها، دون معرفة إلى أي القصائد ينتمي، غير أن القليلين منهم على علم بأنه أحد أبيات درة تاج قصائد المديح النبوي والشهيرة باسم “البردة” للإمام البوصيري.
يعد الإمام شرف الدين أبو عبد الله محمد بن سعيد بن حماد بن محسن بن عبد الله بن صنهاج بن هلال الصنهاجي، والمعروف بـ”البوصيري” أحد أشهر شعراء الصوفية في مصر المتخصصين في مديح النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم يكن معروفًا قبل قصيدة “البردة” التي حفرت اسمه في قلوب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
تشير الروايات التاريخية إلى كرامات عدة حدثت للبوصيري طيلة فترة حياته، ورغم عدم التثبت من صحة ما تناقلته تلك الروايات، فإن حضوره الشعري فرض نفسه بقوة، فقلما نجد مأتمًا أو مولدًا أو مناسبة دينية دون أن يذكر بها أبيات من إبداع الشاعر المصري الذي نال من الشهرة ما لم ينله الكثيرون من قامات الشعر في المحروسة.
تعود تسمية البوصيري بهذا الاسم نسبة إلى موطن رأس والديه، فوالدته تنتمي لقرية “دالاص” ووالده لقرية “بوصير” وكلتاهما تابعتين لمحافظة بني سويف “جنوب”، فأراد المقربون تسميته نسبة إلى بلدتي الوالدين، فأطلق عليه “الدلاصيري” ومع مرور الوقت تحول الاسم إلى “البوصيري”.
نشأة صوفية
نشأ البوصيري المولود في صعيد مصر عام 1213 في بيت ملتزم دينيًا، وإن كان يميل إلى النزعة الصوفية، حيث حفظ القرآن في كتاتيب القرية كغيره من بني عصره، ثم تعلم قواعد اللغة العربية في مسجد عمر بن العاص بوسط القاهرة، قبل أن ينتقل إلى تعلم الصوفية، متتلمذًا على يد القطب الصوفي الكبير أبي العباس المرسي.
كانت حياته في السنوات الأولى حياة عادية، تسير بمتوالية متوازنة تجمع بين مسايرة متطلبات الحياة وميوله الصوفية
وفي كتابه “حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة” أشار الإمام جلال الدين السيوطي إلى أن البوصيري كان يمتلك مقومات أدبية كبيرة منذ نعومة أظفاره، ساعده على تعزيز تلك الموهبة تشجيع الأهل والأصدقاء له، وبات ينظم الشعر بين الحين والآخر، وإن لم يكن محترفًا له كغيره.
تغيرت حياة الشاعر الصوفي بعد اتصاله بأبي العباس المرسي، إمام الصوفية في الإسكندرية، حيث استفاد قدر الإمكان من صحبته له، وتعلم النسك والتصوف على يديه، وهنا بزغ نبوغه الذي تعزز بميل قلبه للتصوف ومتابعة أذكار أقطاب الصوفية وأئمتهم، حتى بات يحذو حذوهم في الزهد والإيثار.
كانت حياته في السنوات الأولى حياة عادية، تسير بمتوالية متوازنة تجمع بين مسايرة متطلبات الحياة عبر الالتحاق بإحدى الوظائف المدنية التي تعينه على تلبية احتياجاته المعيشية وميوله الصوفية التي بدأت تلوح في الأفق، واستمرت معه حتى وفاته، ملتزمًا في ذلك زاوية صغيرة بجوار معلمه المرسي في عروس البحر المتوسط.
هجاء المصريين
بدأ البوصيري حياته العلمية موظفًا في مجال الضرائب تحت مسمى “الكتابة على الجبايات”، وذلك في مقر إقامته بمدينة بلبيس بمحافظة الشرقية، إلا أن تجربته المهنية تلك لم تكلل بالنجاح، إذ عانى كثيرًا من عدم أمانة المشتغلين في هذه المهنة، كما تعرض للعديد من المكايدات من بعضهم إلى الحد الذي جعله يكره العمل معهم بصورة نهائية.
تعرضت العلاقة بين الإمام الصوفي وزملائه في العمل لتوتر شديد، وصار ينشد فيهم قصائد هجاء بصورة لفتت أنظار الجميع، فلم يترك موظفًا غير أمين من وجهة نظره إلا وهجاه، وقد بلغ ذروة التوتر حين سرق زملاؤه في العمل “حماره” فأنشد فيهم قائلًا:
أرى المستخدمين مشوا جميعًا .. على غير الصراط المستقيمِ
معاشرٌ لو وُلُّوا جنات عدنٍ .. لصارت منهمُ نار الجحيمِ
فما من بلدة إلا ومنهم .. عليها كل شيطان رجيمِ
فلو كان النجوم لها رجوما .. إذن خلت السماء من النجومِ
وقد وثق الدكتور نبيل حنفي محمود في دراسته “أئمة وشعراء غنائيون” تلك الواقعة تفصيلًا، مضيفًا أنه لم يحتمل تلك المكائد، فاضطر إلى ترك عمله بالشرقية متوجهًا إلى القاهرة عام 680هـ، وهناك قابل الشيخ ابن عطاء الله السكندري، خطيب الجامع الأزهر، وكان تلميذًا لأبي العباس المرسي.
ظل البوصيري مع السكندري لفترة ليست بالطويلة، حيث تعلم منه التصوف ونقل عنه خطبه ومواعظه وحفزته علاقته به على شد الرحال إلى الإسكندرية لملاقاة إمام الصوفية هناك، ليضع الموظف السابق أول أقدامه على أعتاب الصوفية والزهد، مرتكنًا في ذلك إلى أحد أقطاب التصوف في مصر والعالم الإسلامي.
البردة.. الطريق نحو العالمية
عُرف عن البوصيري براعته في الهجاء، إلا أن تتلمذه على أيدي أبي العباس غير مسار حياته بصورة كبيرة، فتحول بشاعريته من الهجاء إلى المديح، حيث بدأ هذا التحول بقصيدة مدح فيها شيخه وصاحب الفضل عليه قائلًا:
فاصحب أبا العباس أحمد آخذا .. يدَ عارف بهوى النفوس منجد.
تحولت البردة إلى ملهمة للشعراء بعد رحيل البوصيري، فباتت الحاضر الدائم على موائد الموالد والاحتفالات الدينية
ثم انتقل بعدها إلى مدح أقطاب الصوفية داخل مصر وخارجها، ومن أبرز ما كتب فيهم القطب الصوفي الشهير أبي الحسن الشاذلي الذي انتقل من بلاد المغرب العربي إلى الإسكندرية، حيث أنشده فيه قائلًا:
إن الإمام الشاذلي طريقة .. في الفضل واضحة لعين المهتدي
أما عن نظمه لقصيدته الشهيرة “البردة” فهناك العديد من الروايات بشأنها، أبرز ما ذكرته الأكاديمية المصرية سعاد ماهر، بأن البوصيري كان قد تعرض لمرض شديد أشبه بالشلل النصفي وفشل الأطباء في علاجه، ما دفعه إلى مناجاة ربه عبر قصيدة يستشفع بها خالقه، فجاءه الرسول في المنام ومسح بيده على وجهه فتم شفاؤه فورًا.
وآراء أخرى تشير إلى أنه حين شرع في كتابة القصيدة جاءه النبي في منامه فأكمل له أبياته، فاستيقظ من نومه وأبيات القصيدة كلها أمام عينيه، فأتمها كلها، وجاءت تحت عنوان “الكواكب الدرية في مدح خير البرية” وتتكون من مئة وستين بيتًا، قسمت إلى عدة فصول، بعضها يتعلق بالغزل وأخرى بالغرام، وأجزاء أخرى للتحذير من الهوى والنفس، إلا أن القسم الأكبر منها يتعلق بمدح الرسول الكريم ومناجاة الخالق، وكان مطلع القصيدة:
أمن تذكر جيران بذي سلم .. مزجت دمعا جرى من مقلة بدم؟
أم هبت الريح من تلقاء كاظمة .. وأومض البرق في الظلماء من إضم
وقد اختتمها بـ:
وأذن لسُحب صلاة منك دائمة .. على النبي بمنهل ومنسجم
ما رنَّحت عذبات البان ريحُ صبا .. وأطرب العيسَ حادي العيسِ بالنغم
وقد تحولت البردة إلى ملهمة للشعراء بعد رحيل البوصيري، فباتت الحاضر الدائم على موائد الموالد والاحتفالات الدينية، وكان بعض المنشدين ينشدونها بالكامل، فيما اجتهد آخرون في محاولات محاكاتها فيما عرف بفن “التخميس” و”التسبيع” الذي يعني استعانة المنشد ببعض أبيات القصيدة الأصلية ثم الإضافة عليها من كيسه، ملتزمًا بنفس الوزن والقافية والبحر الشعري.
مرض البوصيري خلال سنواته الأخيرة، متخذًا من إحدى الزوايا المجاورة لشيخه المرسي في الإسكندرية مقرًا لإقامته، وظل هنالك حتى توفي، وقد اختلف المؤرخون في سنة وفاته، فمنهم من أشار إلى أنها عام 1294م وآخرون ذكروا أنها قبل ذلك بعام، وعلى كل حال دفن في تلك الزاوية التي تحولت فيما بعد إلى مسجد كبير، وبقيت قصيدته خير شاهد على نبوغه الخالد.