انتخب مجلس الشورى الإيراني الجنرال السابق في الحرس الثوري والعمدة السابق لمدينة طهران باقر قاليباف رئيسًا له، في ترجمة حقيقية لنتائج الانتخابات البرلمانية التي أجريت في إيران أبريل الماضي، وهو تحول كبير تشهده الساحة الداخلية الإيرانية، من خلال تشديد قبضة التيار المحافظ على الحياة السياسية الإيرانية بعد الفوز الساحق في الانتخابات الأخيرة، والمفارقة هنا أن فوز قاليباف برئاسة المجلس جاء بعد سلسلة من المشاركات الفاشلة السابقة في الانتخابات الرئاسية، إذ شارك بها ثلاث مرات ولم يفز في أي منها.
تنظر الأوساط الداخلية في إيران إلى أن وجود قاليباف على رأس المؤسسة التشريعية في البلاد، جاء كتوجه واضح من المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، في ترجمة العديد من المواقف السياسية القادمة على أرض الواقع، من خلال تحييد الكثير من المجالات التي يتحرك فيها الرئيس الإيراني حسن روحاني الذي شهدت الآونة الأخيرة الكثير من التصدعات في المواقف السياسية بينه وبين خامنئي، وقاليباف معروف بمواقفه المتشددة من الولايات المتحدة، خصوصًا فيما يتعلق بموضوع الملف النووي الإيراني، إلى جانب توافقه مع العديد من المواقف التي عبر عنها خامنئي في السابق، فضلًا عن دوره الكبير في قمع العديد من الحركات الاحتجاجية التي شهدتها إيران عام 1999 وكذلك عام 2003، في أثناء عمله كقائد للشرطة الداخلية في البلاد، ما يعكس بدوره توجهًا واضحًا لخامنئي في تكريس سياسات التشدد في الداخل والخارج، بعد الكثير من الأزمات والمطبات السياسية التي مرت بها إيران مطلع العام الحاليّ.
يُعرف قاليباف بإحداثه ضجيجًا سياسيًا بين الحين والآخر، والسؤال الذي طرحته الصحف الإيرانيّة هو عن هدف خوضه غمار العمل البرلماني في هذه المرحلة، بينما كان متعطّشًا لرئاسة الجمهورية بترشحه أكثر من مرة، هنا يبرز موضوع آخر وهو الصراع الذي سيحصل بين مجلس الشورى ورئاسة الجمهورية، إذ إن العلاقة بين قاليباف وروحاني لطالما كانت متذبذبة، انتقادات كبيرة جاءت للأول من الداخل الإيراني، أبرزها أنه لا يمتلك معرفة كافية بقوانين ولوائح مجلس الشورى تخوله رئاسة المجلس، إضافة لعدم خوضه التجربة البرلمانية سابقًا.
وجود قاليباف على رأس الهرم التشريعي في البلاد، سيجعل الكثير من المقررات البرلمانية تخدم حظوظ التيار المحافظ في الاستحقاقات السياسية المقبلة
مثّل وصول قاليباف لرئاسة المجلس هدمًا لأحد الحصون الكبيرة التي كان يسيطر عليها التيار الداعم لسياسات الرئيس روحاني، إذ تمثل إزاحة رئيس البرلمان السابق علي لاريجاني ضربة قوية للرئيس روحاني الذي اعتمد عليه طوال الفترة الماضية في تمرير العديد من القرارات والقوانين البرلمانية الداعمة لسياساته الداخلية والخارجية، إلى جانب دوره في إفشال العديد من الاستجوابات البرلمانية التي تقدم بها نواب التيارين المتشدد والمحافظ خلال الفترة الماضية.
ومن ثم فإن غياب لاريجاني عن المشهد السياسي الحاليّ، رغم تكريمه من خامنئي بجعله عضوًا في مجمع تشخيص مصلحة النظام، سيشكل تحديًا كبيرًا أمام الرئيس روحاني وتياره السياسي الذي بدا محاصرًا من ثلاث مؤسسات كبرى في إيران: المرشد الأعلى ومجلس الشورى والحرس الثوري، ما يعني بدوره تعقيد فرص التيار الإصلاحي في الانتخابات الرئاسية القادمة، على الرغم من ورود أخبار عن إمكانية ترشح أسماء مؤثرة في المشهد السياسي الحاليّ، وفي مقدمتهم لاريجاني ووزير الخارجية الإيراني الحاليّ محمد جواد ظريف.
ماذا يعني وجود قاليباف في رئاسة المجلس؟
يمكن القول إن وجود قاليباف على رأس الهرم التشريعي في البلاد، سيجعل الكثير من المقررات البرلمانية تخدم حظوظ التيار المحافظ في الاستحقاقات السياسية المقبلة، فعلى الصعيد الداخلي، سيسعى قاليباف إلى مراجعة الكثير من السياسات الاقتصادية التي أقدم عليها البرلمان السابق، بالتنسيق مع الحكومة الإيرانية.
فضلًا عن ذلك يحمل قاليباف الكثير من المواقف الرافضة لطريقة تعاطي حكومة الرئيس روحاني فيما يتعلق بسياسات الإعانة الاجتماعية التي اعتمدتها الحكومة الإيرانية في ضوء العقوبات الأمريكية المفروضة على البلاد، هذا فضلًا عن سياسات الإصلاح الاقتصادي التي أقدم عليها الرئيس روحاني، وساهمت بحد كبير في تقويض المصالح الاقتصادية للمؤسسات الاقتصادية التابعة للحرس الثوري، إلى جانب التصدي لتداعيات جائحة كورونا على الواقع المعيشي والاقتصادي للمواطن الإيراني، وساهمت في احتقان الشارع الإيراني خلال الفترة الماضية.
أما على صعيد السياسة الخارجية، فيمكن القول إن هناك تغييرًا كبيرًا ستشهده المواقف السياسية الإيرانية، فعلى الرغم من إعلان خامنئي في بداية الشهر الماضي، إمكانية إجراء حوارات جانبية مع الولايات المتحدة، عن العديد من الملفات التي عقدت العلاقات الإيرانية الأمريكية بداية العام الحاليّ، انطلاقًا من قاعدة المرونة البطولية التي تحدث عنها، فمن المتوقع أن تكون هناك إجراءات تشريعية سيقدم عليها رئيس المجلس الحاليّ، وفي مقدمتها الموقف من الاتفاق النووي مع القوى الكبرى، ومراجعة قرارات المجلس السابق الذي وافق على اتفاق باليرمو لمكافحة غسيل الأموال والآلية الأوروبية لتحويل الأموال لإيران (الإنيستيكس)، وهي إجراءات اقتصادية حددت الكثير من نشاطات الحرس الثوري الإقليمية، في دعم حلفائه ماليًا واقتصاديًا.
دوره المتوقع في الحياة السياسية
يعطي الوجود في رئاسة مجلس الشورى، العديد من الامتيازات لرئيس هذا المجلس، وأهمها الوجود في هيكلية المجلس الأعلى للأمن القومي في إيران، ما يعني بدوره تقوية دور خامنئي في هذا المجلس الذي يضم رئيس الجمهورية ورؤساء المجالس الأخرى، والمعروف أن المجلس يضطلع بمناقشة العديد من الملفات الإستراتيجية التي تخص الأمن القومي الإيراني، وفي مقدمتها الملف النووي الإيراني، إلى جانب إستراتيجية إيران الإقليمية، وهو ما قد يعطي قاليباف دورًا في فرض العديد من المواقف التي كان لاريجاني يرفض اتخاذها، خصوصًا فيما يتعلق بضرورة اعتماد مواقف متشددة من السياسات الأمريكية حيال إيران.
قاليباف: المجلس الجديد في ظل تلاحم ووحدة أعضائه، سيعمل على معالجة مشاكل الشعب في هذه الظروف
وما يزيد من أهمية دوره في المجلس، أنه يأتي من خلفية عسكرية، إذ إنه ضابط عسكري سابق وشغل منصب عمدة طهران وكان قائدًا لمقر خاتم الأنبياء للإعمار في فترة 1994-1997 وقائدًا لسلاح الجو في الحرس الثوري الإيراني من 1997 إلى 2000 وقائد الشرطة الإيرانية في الفترة من 2000 إلى 2005، كما أنه خدم في قوات الاحتياط للحرس الثوري خلال الحرب العراقية الإيرانية في الثمانينيات من القرن الماضي، وبعد ذلك شغل منصب مدير العديد من المؤسسات الإنشائية التابعة للحرس الثوري، للقيام بجهود إعادة البناء بعد الحرب.
كما يتمتع قاليباف بخبرة لا تقل عن 40 عامًا في الإدارة العسكرية والسياسية والاقتصادية والأمنية والحضرية، رغم ذلك، فهو معروف بتورطه في قضايا فساد مالي كبيرة، وفقًا لما نشره موقع راديو “فردا” المتخصص بالشؤون الإيرانية، وبوجود شبكة قوية في الحرس الثوري الإيراني ومكتب المرشد الأعلى، بات من غير المرجح أن يتابع أي طرف قضايا الفساد المرتبطة بقاليباف، فالبعض قد يصفونه بأنه “الجنرال الأكثر فسادًا”، لكنه الآن ومع توليه رئاسة البرلمان الإيراني قد لا يزال راغبًا بالصعود إلى منصب رئيس الدولة، خصوصًا أن هناك العديد من المشاكل الإدارية بينه وبين الرئيس روحاني، وقد يكون دوره في المجلس الأعلى للأمن القومي مقدمة لذلك.
وفی حديثه عن إستراتيجيته في مجال السياسة الخارجية، أكد قاليباف أن الدورة الحادية عشر للبرلمان الإيراني تعتبر مقارعة الاستكبار العالمي شأنًا عقائديًا إلى جانب كونه مصلحةً إستراتيجيةً، كما تعتبر التفاوض مع أمريكا كمحور للاستكبار، أمرًا لا فائدة منه بل كله أضرار، وأضاف “تعاملنا مع أمريكا الإرهابية تتضمن إكمال سلسلة الانتقام لدم قاسم سليماني التي بدأت بضرب قاعدة عين الأسد وتواصلت بكسر هيبة أمريكا وعجزها عن الرد على ايران، وستكتمل بطرد كل القوات الأمريكية الإرهابية من المنطقة”.
“في الوقت الذي تواجه فيه الجمهورية الإسلامية ظروفًا مختلفة من القوة والضعف والفرص والتهديدات، فإن المجلس الجديد، وفي ظل تلاحم ووحدة أعضائه، سيعمل على معالجة مشاكل الشعب في هذه الظروف… القوة الإقليمية المتصاعدة للجمهورية الإسلامية، أسفرت عن تجسيد العمق الإستراتيجي والنفوذ الجيوسياسي، وهذا ما حوَل إيران إلى رمز للمقاومة ضد المستكبرين، كما أن تزايد قوة الردع العسكري سلب من العدو جرأة المساس ببلادنا”، بحسب رئيس البرلماني الإيراني الجديد.