انضم العراق رسميًا عام 2010 إلى “الاتفاقية الدولية لحماية الأشخاص من الإخفاء القسري” لكنه كان انضمامًا شكليًا فقط، فلم تضمِّن الحكومات العراقية المتعاقبة تلك الاتفاقية في المدونة القانونية العراقية لكي تفعَّل في القانون العراقي ويُشرع البرلمان لها قانونًا خاصًا، إنما أهملت ليستمر التستر والتواطؤ على الميليشيات أو يُفسح المجال لها لتستمر في أعمالها وجرائمها منذ ذلك الحين وما قبله.
تنص المادة 4 من الاتفاقية على أن “تتخذ كل دولة عضو التدابير اللازمة لكي يُشكل الإخفاء القسري جريمة في قانونها المحلي” وتنص المادة الـ17 منها على أنه “لا يجوز حبس أي شخص في مكان مجهول”، ويجب أن يكون الحبس في مكان معترف به رسميًا لكي يتيسر تحديد أماكنهم لضمان حمايتهم بقوة القانون، فالسجون يجب أن تكون تابعة لوزارة العدل وهي صاحبة المسؤولية القانونية والحصرية عن مراكز الاحتجاز والسجون، إلا أن الموضوع أخذ طابعًا فوضويًا متعمدًا وتنازع على الصلاحيات والمسؤوليات مع تسرب السلطة بيد أحزاب وميليشيات وجهات تنافس وزارة العدل كالداخلية والدفاع والأجهزة الأمنية والميليشيات، مما خلف سباقًا على القمع والخطف والإخفاء وتواطؤ جماعي بين مجموعة من الفاسدين والطائفيين في المؤسسات الأمنية على ارتكاب الجرائم إبان الحرب على داعش بشكل خاص بين عامي 2014 – 2017 وما بعدها.
يُروج البعض موضوع “الإخفاء القسري” على أنه موضوع “مغيبين” وهذا المصطلح يُشير إلى أن الشخص مفقود ولا أحد يعلم مصيره، بينما تصنيف الشخص ضمن “الإخفاء القسري” يأخذ طابعًا سياسيًا عسكريًا ويلقي بالمسؤولية على الدولة لكشف مصيرهم، مما يعني أن هناك مساعي لتمييع القضية وتحويلها من قضية سياسية وجرائم حرب ارتكبت بحق أناس أبرياء إلى قضايا جنائية شخصية على أنها أعمال فردية وليست أعمالًا ممنهجة لمجموعات ومافيات طائفية، وعلى ذوي الضحايا تقديم قضاياهم إلى المحاكم الجنائية من أجل اتهام أشخاص محددين بأسمائهم وليس جهات معروفة وميليشيات منفلتة تعمل تحت غطاء الدولة بسلاحها وتوظف حقها الشرعي باستخدام القوة لصالح مافيات طائفية.
تتراوح أعداد المخفيين قسرًا بين 16 و25 ألفًا في الفترة المحصورة بين 2014 – 2017 فقط، وليس هناك أي خبر عنهم إلا ما تسرب في فترة اعتقالهم في مفارز وسيطرات تابعة لقوات الشرطة الاتحادية ووحدات من الجيش وأخذوا على أيدي الميليشيات الولائية الأقرب إلى إيران، وهم الأكثر تطرفًا ووحشية كميليشيات بدر وسرايا الخراساني وعصائب أهل الحق وسيد الشهداء وحزب الله العراقي وغيرهم.
إن الأعداد المذكورة أعلاه من المخفيين قسرًا، بحاجة لغذاء ودواء ورعاية إن كانوا محتجزين في سجون سرية وقد تصبح تلك السجون معروفة بسبب الأعداد الكبيرة، ما يفتح الباب أمام الحديث عن قتلهم ودفنهم في مقابر جماعية غالبًا ما يعثر عليها في مناطق لم تطئها أقدام داعش، مثل مقبرتي المحاويل والمسيب وسلسلة مقابر شرق الفلوجة وجنوب اللطيفية ومقبرة ذراع دجلة وغرب زمار.
من جهة أخرى، هناك تحقيقات تشير إلى أن المخفيين قسرًا في محافظات نينوى وصلاح الدين وديالى يفوق عدد المخفيين في الأنبار، لغياب التغطية الإعلامية وضعف الصحفيين في تلك المناطق وقلة خبرتهم وخوفهم من الدخول في هذا الملف، وقد جرت عمليات إخفاء قسري وجرائم حرب في مناطق محافظة صلاح الدين كغرب الشرقاط وجنوب تكريت وفي بيجي وعزيز بلد ومفرق سامراء والدور ومجمع الصينية، أما في محافظة نينوى بمناطق البعاج والكرسي وسايلوات ربيعة وطريق بادوش وحمام العليل وقرب تلعفر، أما في ديالى فهناك مناطق شمال شرق بعقوبة والمقدادية وضواحيها، ناهيك بمحافظة بابل ومناطق جرف الصخر والقراغول وصنيديج والفارسية والجنابيين، إلخ.
هناك علامات استفهام ليس فقط بشأن الحكومة العراقية العاجزة عن فعل شيء أمام الميليشيات وجرائمها، إنما علامات استفهام تدور حول الأمم المتحدة وصمتها المريب عن الموضوع وعدم تأكيده والضغط على الحكومة لكشف مصيرهم، لكنها تحدثت عن الإخفاء القسري الذي طال ناشطي التظاهرات، صحيح أن موضوع التظاهرات لم يمض عليه إلا بضعة أشهر إلا أن أعداد المختفين قسرًا في المناطق المحررة يفوق المختفين قسرًا في أثناء التظاهرات بعشرات المرات، ولا بد من التأكيد على فتح الملف في كل مناسبة وعدم غلقه بعد انتهاء العمليات العسكرية.
جريمة الإخفاء القسري تضاف إلى جرائم كثيرة تنفذها الميليشيات منذ سنوات دون رادع قانوني أو سياسي أو أخلاقي
إن من خطف ناشطي التظاهرات وقتلهم وعذبهم في بغداد والناصرية والنجف وكربلاء، هم نفس الجهات التي قتلت وخطفت وعذبت الآلاف في صلاح الدين ونينوى والأنبار وبغداد وديالى، فالإجرام الذي استهدفهم لم يفرق بين عراقي وآخر، ويجب أن تكون المطالبة بكشف مصيرهم لا تفرق بين عراقي وآخر سواء من الأمم المتحدة أم الجهات السياسية التي تتكسب وتتاجر سياسيًا بملفهم الحساس.
أخيرًا، إن جريمة الإخفاء القسري تضاف إلى جرائم كثيرة تنفذها الميليشيات منذ سنوات دون رادع قانوني أو سياسي أو أخلاقي، مع عجز القيادات السنية وصمتها وربما تواطؤها مع الفاعل السياسي الشيعي الذي يغطي على أفعال ميليشياته سياسيًا، إلا أن حكومة الكاظمي وعدت في برنامجها الحكومي بإعادة هيبة الدولة وكشف مصير “المخفيين قسرًا” وهذه فرصة لإثبات شيء من الوعود وإعادة شيء من هيبة الدولة التي داستها ميليشيات إيران، لكن لا أعتقد أن الملف سيغلق أو سيُفتح أساسًا لأن حكومة الكاظمي في هذه المرحلة جاءت للتهدئة وليس لفتح الملفات ومحاسبة الجناة إلا باستخدام الملف كورقة ضاغطة عليهم للقبول بقرارات ومخرجات حوار واشنطن بغداد الإستراتيجي.