لعقود عدة، كانت ليبيا امتدادًا جغرافيًا وسياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا للأوروبيين، فهي “الدمية” التي لا يجب أن تخرج من تحت طوعهم، لكن السنوات الأخيرة حملت معها تغييرات كبرى، حيث فقد الأوروبيون خلالها دورهم في هذا البلد العربي الغني بالنفط.
تراجع هذا الدور لفائدة قوى إقليمية أخرى على غرار تركيا وروسيا كان نتيجة أسباب عدة، أبرزها تباين مواقف الأوروبيين إزاء ما يحصل في ليبيا من صراع بين حكومة الوفاق المعترف بها دوليًا وميليشيات “الكرامة” المتهمة بارتكاب مجازر حرب ضد الليبيين والمهاجرين الأفارقة غير النظاميين.
تدعم فرنسا علنًا اللواء المتقاعد خليفة حفتر الذي يسعى لاحتلال العاصمة طرابلس منذ أكثر من سنة دون جدوى، فيما تدعم إيطاليا حكومة الوفاق، بينما تدعي ألمانيا الحياد والوقوف على مسافة واحدة من جميع الأطراف، فيما لا موقف واضح لبريطانيا من هذه الأزمة.
دعم فرنسي لحفتر
تقدم فرنسا التي تقود حلفًا عسكريًا بين خمسة بلدان صحراوية تجاور ليبيا بحكم الجغرافيا، دعمًا سخيًا لحفتر في الجانب الدبلوماسي والجانب العسكري أيضًا، رغم ادعائها الحياد في هذه الأزمة وسعيها لحلها تحت مظلة الأمم المتحدة.
وتتهم حكومة الوفاق الليبية، السلطات الفرنسية بدعم حفتر، حيث سبق أن اتهم رئيس المجلس الرئاسي فائز السراج باريس في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك في ديسمبر/كانون الأول الماضي، بانتهاك قرار مجلس الأمن الدولي بشأن حظر الأسلحة ودعم من وصفه بمجرم الحرب المتمرد خليفة حفتر.
اتهامات السراج جاءت بالتزامن مع الكشف عن أسلحة فرنسية عند ميليشيات حفتر، وسبق أن اعترفت وزارة الدفاع الفرنسية في يوليو/تموز الماضي، بإرسالها إلى ليبيا صواريخ جافلين الأمريكية، المعثور عليها في غريان بعد تحريرها من مليشيات حفتر، وزعمت أنه جرى تخزينها في مستودع لتدميرها كونها غير صالحة للاستعمال.
أقرت وزارة الدفاع الفرنسية، حينها بنشرها قوات عسكرية في ليبيا لتنفيذ عمليات لمكافحة الإرهاب، على حد تعبيرها، دون تقديم مزيد من التفاصيل عن مكان أو توقيت هذه العمليات، لكن الواضح وفق العديد من المؤشرات أن نشر هذه القوات تم لدعم حفتر.
وسبق أن كشفت العديد من التقارير الإعلامية والاستخباراتية الدولية، مشاركة جنود فرنسيين وطائرات فرنسية مقاتلة إلى جانب قوات الكرامة التي يقودها حفتر في العديد من المعارك التي قادتها في ليبيا، من ذلك معركة درنة ومعارك الجنوب.
وفي أبريل/نيسان من السنة الماضية، ضبط الأمن التونسي 13 فرنسيًا بأوراق دبلوماسية محملين بأسلحة وذخيرة على الحدود الليبية مع تونس، ومثّل مقتل ثلاثة جنود فرنسيين سريين في حادث مروحية في مدينة بنغازي (شرق)، في فبراير/شباط 2016، اعترافًا نادرًا بحضور باريس السري في العمليات التي يقودها حفتر في ليبيا.
ليس هذا فحسب، فالدعم الفرنسي لحفتر يتجاوز الجانب العسكري إلى الجانب الدبلوماسي، فباريس توفر لحفتر دعمًا دبلوماسيًا كبيرًا لإضفاء الشرعية عليه رغم كونه لا يمتلك أي وظيفة رسمية في الدولة الليبية ولا يعترف بحكومة الوفاق الشرعية، وذلك ضمن الاتجاه العام للسلطات الفرنسية بدعم موجة الثورات المضادة للربيع العربي.
ترتكز السياسة الإيطالية في ليبيا، حسب مسؤولين في روما، على ثلاثة مسارات أهمها دعم حكومة الوفاق
دعم فرنسا لحفتر على حساب حكومة فائز السراج يأتي في سياق سعيها إلى تعزيز نفوذها في إفريقيا وإعادة إحياء دورها التاريخي الاستعماري هناك، خاصة أن هذا التدخل تزامن مع تدخلها عسكريًا في شمال مالي في يناير/كانون الثاني 2013 (عملية سرفال ثم برخان)، وتدخلها في إفريقيا الوسطى في ديسمبر/كانون الأول من نفس السنة (عملية سانغاريس).
كما يتنزل هذا الدعم في إطار سعيها لتوسيع سيطرتها على آبار النفط، والاستحواذ على أكبر حصة من النفط الليبي مستقبلًا والحصول على امتيازات جديدة من النفط الليبي الذي تقدر احتياطاته بنحو 48.36 مليار برميل أي بنحو 3.94% من احتياطي العالم (الاحتياطي الخامس عربيًا).
إيطاليا إلى جانب الوفاق
في مقابل ذلك، تدعم إيطاليا حكومة الوفاق الوطني المعترف بها من جانب الأمم المتحدة، لكنها تتعامل مع قوات حفتر، ورغم كون روما لا توفر دعمًا عسكريًا للوفاق فإنها وفرت دعمًا سياسيًا لها.
ومؤخرًا، وجه رئيس الوزراء الإيطالي جوسيبي كونتي دعوة لفائز السراج لزيارة إيطاليا، كما دعا الأخير المسؤول الإيطالي إلى زيارة طرابلس، لبحث سبل التعاون بين الطرفين لحل الأزمة الليبية المتواصلة منذ سنوات.
وتتمسك إيطاليا بموقفها الرافض لممارسات اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر العسكرية، خاصة السعي لاحتلال العاصمة وقصف الأحياء المدنية، واستهداف المرافق الخدمية في المدن الليبية، فضلًا عن رفضها إسقاط اتفاق الصخيرات.
ترى إيطاليا أن فوز حفتر في حربه ضد قوات الحكومة الشرعية سيؤدي إلى فوضى عسكرية طويلة الأمد محفوفة بالمخاطر، فضلًا عن أن ذلك سيكلف عملاق الطاقة الإيطالي (إيني) وإيطاليا ثمنًا باهظًا للغاية.
ترتكز السياسة الإيطالية في ليبيا، حسب مسؤولين في روما، على ثلاثة مسارات، أهمها دعم حكومة الوفاق برئاسة فايز السراج ومساعدة الفصائل الليبية في التوصل إلى توافق، كذلك الحفاظ على موقف دولي موحد بشأن التوصل إلى تسوية سلمية للأزمة.
الدعم الإيطالي للسراج ليس لسواد عينيه بطبيعة الحال، بل بحثًا عن نفوذ فقدته روما في المنطقة، وضمان موطئ قدم واضح وثابت على مستوى الملف الليبي، والعودة لشمال إفريقيا والإمساك بزمام الأمور هناك اقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا.
ألمانيا تلتزم الحياد
ألمانيا التي استقبلت عاصمتها برلين بداية السنة، مؤتمرًا عن الأزمة الليبية، ما زالت إلى الآن تلتزم الحياد وتطالب بإيجاد حل سلمي للأزمة في ليبيا، أي بمعنى آخر، إيجاد حل سياسي يضمن توازن المصالح للقوى الخارجية المعنية بالملف الليبي.
وتسعى الحكومة الألمانية عبر مبادرات عدة إلى دعم مساعي السلام للأمم المتحدة، فهي تخشى خروج الأوضاع عن السيطرة في ليبيا، ما سيؤدي إلى تدافع المهاجرين غير النظاميين من سواحل ليبيا إلى جنوب أوروبا، فضلًا عن انتشار الجماعات الإرهابية المسلحة هناك.
لم يستطع الأوروبيون الحفاظ على نفوذهم وفقدوا دورهم، واكتفوا بإصدار بيانات تعبر عن القلق والاستنكار فقط
تعمل ألمانيا على تصدير نفسها من بوابة الوسيط الدولي القادم من الخلف بعيدًا عن الفاعلين المباشرين المعنيين بدرجة أولى بالملف الليبي، خاصة أنها تمتلك تاريخًا كبيرًا من الوساطات الناجحة، وذلك حتى تضع موطئ قدم في ليبيا وشمال إفريقيا عمومًا.
لا موقف بريطاني واضح
أما البريطانيون فلا موقف واضح لهم، وقليلًا ما يتدخلون في الأزمة الليبية، ومع ذلك فإن في تصريحاتهم النادرة يصرون على ضرورة أن تعمل الأطراف المعنية بالملف الليبي على التوصل إلى حل سلمي للأزمة.
ويدفع سعيهم إلى الحفاظ عن مصالح شركاتهم هناك ورغبتهم في الحصول على امتيازات جديدة في المنطقة، ويسعون إلى تأمين الحد الأدنى من الحضور في الأزمة الليبية، خاصة بعد خروجهم من الاتحاد الأوروبي.
فقدان الدور التاريخي
هذا التباين الأوروبي بشأن وجهات النظر والتنافس على المصالح الاقتصادية والأمنية في ليبيا، جعل الأوروبيين في موقف المتفرج المفعول به لا الفاعل، فعكس ما كان عليه الوضع سنة 2011، عند التدخل العسكري ضد نظام معمر القذافي، أصبحت الدول الأوروبية في موقف رد الفعل لا الفعل المباشر.
نتيجة ذلك، اكتفى الأوروبيون بالانتظار ومشاهدة الأحداث المتسارعة في ليبيا فلم يكن لديهم فكرة واضحة عما يجري في الميدان، فالمتحكم في ذلك أطراف إقليمية اقتنصت غياب أوروبا على رأسها تركيا وروسيا.
لم يستطع الأوروبيون الحفاظ على نفوذهم وفقدوا دورهم واكتفوا بإصدار بيانات تعبر عن القلق والاستنكار فقط، دون أن يكون للقارة رؤية واضحة لما يحدث في ليبيا ولا حل للأزمات التي يشهدها هذا البلد العربي المطل على جنوب البحر الأبيض المتوسط.
غياب الأوروبيين عن المشهد السياسي الليبي وانحسار دورهم، ترك الباب مفتوحًا أمام قوى أخرى للعب دور كبير هناك وتنمية نفوذها في ليبيا وشمال إفريقيا خصوصًا، ونعني هنا روسيا وتركيا وبدرجة أقل الإمارات.
ليست أوروبا قدرًا لليبيا، وتدخل دول الاتحاد كان في كثير من الأحيان مشكلة وليس حلًا، على أن تفاعل الدور الأوروبي مع الفاعلين الجدد كان يمكن أن يعجل بحل الخلافات بين الأفرقاء المحليين أو ينتصر للشرعية الدولية في البلد الذي يعاني منذ نحو 10 سنوات، فتركيا تبدو وحيدة في قتالها إلى جانب الحكومة المعترف بها من المجتمع الدولي.