رغم أن موسكو إلى حد الآن ما زالت تُراهن على حضور عسكري غير مباشر في ليبيا من خلال شركات عسكرية من القطاع الخاص (مرتزقة فاغنر) وعمليات التمويه (طلاء الطائرات)، فإن الولايات المتحدة تعرف جيدًا أن روسيا يُمكنها المرور إلى السرعة القصوى ورفع وتيرة أنشطتها في أي وقت، وترى أن السيناريو السوري قد يتحقق ما لم يكبح جماحها وما لم تُعدل واشنطن من سياستها الضبابية في المنطقة وتلقي بثقلها من أجل حل الأزمة وإعادة ترتيب الأوضاع بما يخدم مصالحها هي الأخرى.
الأمر ينطبق تمامًا على فرنسا، التي سارعت عقب هزائم حليفها اللواء المتقاعد خليفة حفتر المتتالية، إلى تكثيف اتصالاتها لإعادة إحياء المسار السياسي الذي وأدته باصطفافها وراء محور الإمارات والسعودية ومصر، وذلك حفاظًا على أمنها الإستراتيجي في مكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية والأهم من ذلك مصالحها الاقتصادية المتمثلة في النفط وعقود الإعمار المقدرة بـ200 مليار دولار.
روسيا.. عين على المنطقة
اهتمام روسيا بليبيا لا يعود إلى أطماع حديثة العهد أنتجها الفراغ السياسي للبلد الواقع في شمال إفريقيا الذي يعاني من أزمة عاصفة منذ ثورة 17 فبراير، فموسكو بقيادة جوزيف ستالين حاولت في نهاية الحرب العالمية الثانية فرض الانتداب على طرابلس الليبية خلال مؤتمر “بوتسدام”، إلا أن مساعيها باءت بالفشل، لتعود مرة أخرى وتدعم بقوة انقلاب العقيد معمر القذافي عام 1969، وعرفت العلاقات بين البلدين تطورًا على جميع الأصعدة خاصة أن ليبيا كانت زبونًا وفيًا للاتحاد السوفييتي خلال السبعينيات، حيث تم التوقيع على أول عقد مهم للتسليح بين الشريكين، وتواجد بين 1973 و1982 ما يقارب الـ11 ألف مستشار عسكري لمساعدة الجيش الليبي.
الاهتمام الروسي بالملف الليبي يعود أساسًا إلى ما يعتبره الرئيس الحاليّ فلادمير بوتين خطيئة كبرى ارتكبها سلفه ديميتري ميدفيدف برفضه استعمال الفيتو الروسي لدى التصويت على القرار 1973 في مجلس الأمن الذي فتح باب التدخل العسكري أمام حلف شمال الأطلسي في ليبيا عام 2011، الأمر الذي دفعه إلى استغلال الصراع على السلطة بين حكومتي الغرب والشرق ومحاولة الاستئثار بالملف الليبي، وفيما يلي أبرز محطات العلاقات بين البلدين.
- 1985 تاريخ أول زيارة لمعمر القذافي إلى روسيا تلتها أخرى أجراها بوتين في 2008 أبرمت خلالها عقود تتراوح قيمتها بين 5 و10 مليارات دولار.
- 2008 حصول شركة السكك الحديدية الروسية على عقد بقيمة 2.2 مليار دولار لبناء خط فائق السرعة على مسافة 550 كيلومترًا بين مدينتي سيرت وبنغازي.
- أبريل/نيسان 2015 توجه عبد الله الثني رئيس وزراء حكومة طبرق المعترف بها دوليًا آنذاك إلى موسكو، وألمَح إلى أن العقود الروسية الليبية المبرمة في عهد القذافي يمكن أن توضع قريبًا على الطاولة من جديد.
- مايو/أيار2016 منحى أكثر نشاطًا حيث طبعت روسيا 4 مليارات دينار ليبي (نحو 3 مليارات دولار) لصالح حكومة طبرق مما أثار احتجاجات البنك الليبي المركزي الموجود بطرابلس.
- زيارتان قام بهما خليفة حفتر للعاصمة الروسية في يونيو/حزيران ونوفمبر/تشرين الثاني 2016، ثم أظهرت صوره على متن حاملة الطائرات أميرال كوزنيتسوف التي كانت تعبر قبالة المياه الليبية في يناير/كانون الثاني 2017، الاهتمام الذي يوليه الكرملين للعسكري المتقاعد.
- 2017 عالجت روسيا مقاتلين جرحى من قوات خليفة حفتر.
- 2018 أرسلت موسكو قوات من شركات عسكرية خاصة إلى ليبيا.
عودة أمريكية
التطورات الميدانية الأخيرة في ليبيا ومحاولة روسيا ترجيح كفة ميليشيات اللواء المتقاعد على حساب الحكومة المعترف بها دوليًا ومقرها طرابلس بشتى الوسائل، وآخرها استقدام طائرات ميغ وسوخوي، دفع بواشنطن إلى الخروج لدائرة الضوء في محاولة منها استعادة خيوط اللعبة بصفتها قوة عالمية لها مصالحها الإستراتيجية وحضورها التاريخي في المنطقة، خاصة أن المسؤولين الروس ألمحوا في كثير من المناسبات إلى بناء قاعدة ثابتة في ليبيا في إطار الدور المتنامي لبلادهم في البحر المتوسط.
رسائل الجنرالات الأمريكيين وافقت تحولات السياسات في الموقف من الأزمة الليبية، حيث أخذت تنحو بالتدريج إلى الاقتراب من حكومة الوفاق الوطني في طرابلس برئاسة فايز السراج، من خلال الاتصالات المتتالية والتصريحات التي ترتقي إلى إعلان تحالفات جديدة على قاعدة الشرعية الدولية.
وكان رئيس لجنة الدفاع في مجلس الدوما فلاديمير شامانوف، قد صرح في يناير/كانون الثاني الماضي بأن “روسيا ستعزز وجودها العسكري في البحر الأبيض المتوسط، الذي لم تكن موجودة فيه منذ زمن طويل، وستضع خططها هناك انطلاقًا من المصالح الوطنية”.
تصريحات المسؤولين الأمريكيين المتتالية، توضح بشكل جلي أن الولايات المتحدة ستنتقل من حالة المراقبة إلى الفعل السياسي والدبلوماسي وكذلك العسكري لمواجهة التحركات الروسية في ليبيا، فبعد إعلان رئيس القيادة العسكرية الأمريكية لشمال إفريقيا، ستيفن تونسيند عبر تويتر، أن “مقاتلات روسيا حلقت من روسيا إلى ليبيا، هذه الطائرات توقفت مؤقتًا في سوريا حيث تمت إعادة طلائها “لتمويه أصلها الروسي”، وأن “روسيا تحاول بوضوح الحصول على مزايا في ليبيا”، إضافة إلى إعلان الجيش أن ”عسكريين من روسيا سلموا 14 طائرة ميغ 29 وسوخوي-24 إلى قاعدة الجفرة الجوية التابعة لقوات شرق ليبيا تحت قيادة خليفة حفتر”، أحيت واشنطن مشروعها القديم لمواجهة المد الروسي في المنطقة والمتمثل في إقامة قاعدة عسكرية في تونس.
البوابة.. تونس
بات من الواضح أن الإدارة الأمريكية أدركت أن انخراط روسيا في الصراع الليبي يعد جزءًا من إستراتيجية إقليمية أكبر لمراقبة الساحل الجنوبي لمنظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) وعزل أوروبا عن إفريقيا وممارسة سيطرتها على منطقة البحر الأبيض المتوسط الجنوبية، كما تكمن أحد المخاوف الرئيسية لواشنطن في إمكانية استخدام موسكو مثل هذه البلدان لإقامة قواعد عسكرية ونشر صواريخ، لذلك فهي تسابق الزمن من خلال تصريحات القائمين على مؤسساتها ذات العلاقة لمنع تكرار السيناريو السوري.
وفي سياقٍ ذي صلة، قال نائب مدير إدارة المخابرات التابعة للقيادة الأمريكية في إفريقيا الجنرال جريجوري هادفيلد: “إذا ضمنت موسكو موقعًا دائمًا في ليبيا، والأسوأ، إذا نشرت أنظمة صواريخ طويلة المدى، فسيغير هذا قواعد اللعبة بالنسبة لأوروبا وحلف شمال الأطلسي وكثير من الدول الغربية”، مضيفًا: “فيما يتعلق بدعم القوات التابعة للواء المتقاعد خليفة حفتر، الأمر لا يتعلق في الحقيقة بكسب الحرب، وإنما بإقامة معاقل”.
المخاوف من إقدام روسيا على خطوة مماثلة، دفعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى تجديد مطالبتها لتونس بالسماح لها بإرساء قاعدة عسكرية تحت ذريعة مراقبة الحدود ومساعدتها على محاربة الإرهاب، وكانت القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا (أفريكوم)، قد أكدت أن البيت الأبيض يدرس إرسال لواء للمساعدة الأمنية إلى تونس بغرض التدريب في إطار برنامج للمساعدة العسكرية، وسط مخاوف بشأن النشاط الروسي في ليبيا.
وكانت الولايات المتحدة قد ساهمت في تركيز منظومة المراقبة على الحدود التونسية الليبية، إضافة إلى تركيز منظومة مراقبة إلكترونية ساحلية لتأمين وحماية الحدود البحرية، وذلك بتثبيت رادارات بمحطات المراقبة الساحلية من الحدود التونسية الليبية إلى الحدود التونسية الجزائرية مزودة بكاميرات عالية الدقة وطويلة المدى.
بيان الأفريكوم جاء فيه: “مع استمرار روسيا في تأجيج لهيب الصراع الليبي، فإن القلق يزداد بشأن الأمن الإقليمي في شمال إفريقيا، نحن ندرس مع تونس طرقًا جديدة لمواجهة القلق الأمني المشترك ويشمل ذلك استخدام لوائنا للمساعدة الأمنية”، إلا أنها سرعان ما تداركت الأمر ببيان توضيحي أكدت فيه أنها ستكتفي بإرسال وحدة تدريب إلى تونس، ولن تكون لها خطط لمهام قتالية.
المشروع الأمريكي القديم في المنطقة لاقى رفضًا شعبيًا وسياسيًا، ورغم نفي كل من واشنطن والسلطات التونسية الاتفاق على إنشاء قاعدة عسكرية في تونس، فإن الأحزاب والمنظمات المجتمع المدني نددوا بالوجود العسكري الأمريكي في البلاد، وأطلق بعض الناشطين حملة لمساءلة محسن مرزوق المستشار السابق للرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، بشأن اتفاقية التفاهم الموقعة بين الطرفين، مشيرين إلى أنها تضمن “وجودًا عسكريًا أمريكيًا” في تونس.
المسؤولون التونسيون نفوا في وقت سابق أنباءً تؤكد موافقتهم على استضافة قاعدة عسكرية أمريكية متخصصة بالتنصت على أراضيها (تستهدف الجزائر)، وأشاروا إلى أن العلاقات مع جارتهم الجزائر متينة جدًا ولا يمكن أن تتأثر بهذا النوع من الشائعات.
مخاوف فرنسية
فرنسا هي الأخرى تنتمي للقوى المساندة للواء المتقاعد حفتر والجناح السياسي ذاته في ليبيا منذ سنوات، حيث ساهمت باريس بدعم قوات الشرق الليبي استخباراتيًا وفنيًا من خلال تجهيز غرف العمليات وتدريب الضباط على الطائرات المُسيرة في قاعدة “الخروبة” التي تُعد قاعدة تمركز القوات الفرنسية بشكل خاص والأجنبية بشكل عام.
ورغم أن البلدين ينتميان إلى نفس المحور، فإن التنافس بينهما من أجل التحكم في مسار العملية العسكرية والسياسية من أجل الاستفادة من الأفضلية التجارية والامتيازات، عرف ذروته مع تصاعد أنشطة موسكو، لذلك فإن باريس تراجعت مجبرة خطوة إلى الوراء خوفًا من خروج الأوضاع عن السيطرة لصالح موسكو، وأيقن قصر الإيليزيه أن تحشيد الروس لقوى غير نظامية في ليبيا وتعزيز قدراتها العسكرية بمقاتلات قد يعيق مساعيه في التحكم بالملف، لذلك طالبت فرنسا بالعودة إلى طاولة المفاوضات تمهيدًا لحل سياسي سلمي يضمن لها المشاركة في تحديد مستقبل المنطقة والبقاء كفاعل رئيسي.
تدرك أوروبا و أمريكا أن ما وقع في #ليبيا في الايام الاخيرة هو هزيمة للغرب.
التواجد الروسي-التركي الاستراتيجي و ما سيحمله من تداعيات على موازين القوى في شمال افريقيا والمتوسط و دول الساحل و الصحراء و ملفان استراتيجيان، الطاقة و الهجرة.فرنسا هي الخاسر الأكبر، و من وراءها أوروبا— Seif Eddine TRABELSI (@SeifEddineTr) May 31, 2020
موقف باريس يؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن القيادة الفرنسية لا تستبعد أن يتوصل الروس والأتراك وهما لاعبان رئيسيان حاضران في سوريا، من خلال تهميش اللاعبين الدوليين والإقليميين الآخرين المشاركين في هذا الملف المعقد للغاية، إلى تحالفات واتفاقات فيما بينهما لتقاسم المصالح الإستراتيجية والاقتصادية، أو على شاكلة السيناريو السوري أين تقاسم البلدان النفوذ، بحيث يكون غرب ليبيا تحت نفوذ أنقرة وشرقها تحت سلطة موسكو، وهو الأمر الذي أفصح عنه وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان الذي تحدث خلال جلسة استماع في مجلس الشيوخ عن “سورنة ليبيا” (نسبة إلى سوريا).
وكالة الأنباء الفرنسية AFP :
وزير الخارجية الفرنسي جان إيف #لودريان يُبدي أسفه لـ”سَوْرَنة” النزاع في #ليبيا ، وقال #لودريان أمام لجنة الشؤون الخارجية والدفاع في مجلس الشيوخ الفرنسي : “إن روسيا تجلب مقاتلين سوريين لدعم معسكر حفتر”.
نوضن يا الأوجاع لورديان باع … pic.twitter.com/PB9DAVepBs— طه حديد Taha Hadeed (@taha_hadeed) May 28, 2020
مخاوف الفرنسيين ترجمت إلى تحركات سريعة، حيث بحث الوزير لودريان مع رئيس حكومة الوفاق الوطني الليبية فايز السراج “ضرورة إحياء وقف إطلاق النار في ليبيا والعمل على وقف سريع للعمليات القتالية وإحياء العملية السياسية في الإطار الذي حدده مؤتمر برلين بداية العام ووضع حد لمجمل التدخلات الخارجية في ليبيا”، إضافة إلى “ضرورة استئناف المفاوضات فورًا في إطار اللجنة العسكرية المشتركة (5+5) بهدف التوصل إلى وقف سريع لإطلاق النار بين الأطراف الليبية”.
باريس تواصلت مع القاهرة أيضًا، واتفقتا على ضرورة إنهاء الأزمة الليبية ودعم المساعي الأممية بالخصوص وتنفيذ مخرجات مؤتمر برلين، إضافة إلى وضع حد لـ”التدخلات الخارجية غير المشروعة في الشأن الليبي”.
من جهة أخرى، فإن باريس حولت دفتها في ظل تغير موازين القوى وصعود كل من تركيا وروسيا كفاعلين أساسيين، وذلك من خلال توجيه انتقادات لاذعة لموسكو بسبب جلب مرتزقة من سوريا للقتال إلى جانب حفتر، بالإضافة إلى منع ناقلة كانت متجهة إلى ميناء طبرق كجزء من صفقة بيع منتجات مكررة لشركة مسجلة في الإمارات وتركها تحوم في عرض البحر لمدة أسبوع تقريبًا.
يمكن القول إن عودة الولايات المتحدة كفاعل في الملف الليبي من خلال التحذير من خطر التمدد الروسي في المنطقة، وتلويحها بنشر قوات عسكرية في تونس، يوحي بأن المنطقة مقبلة على مرحلة حاسمة يصعب التنبؤ بمآلاتها خاصة أن مصالح القوى الفاعلة على الأرض تتناقض فيما بينها وتتقاطع، ويبدو أيضًا أن الملف الليبي سيمد روسيا بنقاط قوة في عمليات التفاوض التي تدور بينها وبين المجموعة الأورو ـ أطلسية بخصوص ملفي أوكرانيا وسوريا، ما يُسهم في بلورة خريطة جيوإستراتيجية جديدة.
بالمجمل، فإن كل الخطوات التي اتخذها اللواء المتقاعد حفتر بدعم وتشجيع داعميه الخارجيين لم توفر الاستقرار الذي وعد بجلبه إلى ليبيا، بل على العكس ساقت هذه الخطوات البلاد إلى فوضى عميقة تستهدف المدنيين بشكل متزايد إضافة إلى دخول لاعبين جدد في الأزمة، وما سحب روسيا مرتزقة “الفاغنر” من محاور القتال حول طرابلس، إلا “خطة ب” من موسكو للضغط على حفتر الذي عجز عن حسم الصراع، وإجباره على الرضوخ لمبادرتها للحل السياسي التي أطلقها رئيس برلمان طبرق عقيلة صالح، والهدف منها الإبقاء على حظوظ مصالحها قائمة أو ربما تمهيدًا لصعود رئيس موالٍ لموسكو.