ترجمة وتحرير: نون بوست
تقريبا لا توجد أي منطقة في العالم لم يؤثر فيها وباء كورونا. لن تكون العلاقة الإنسانية المتشابكة والمترابطة مع بعضها البعض قادرة على التغلب على هذا “الوباء” دون الدعم المتبادل. وتأتي تركيا على رأس قائمة البلدان في الوفاء بالالتزامات الواجبة عليها في هذه الفترة. إذا كنت تتساءل عن المناطق الجغرافية التي قامت دولتنا “جيهان بنه” بمد يد العون إليها منذ فترة الدولة العثمانية حتى الجمهورية، فإن هذا المقال كتب من أجلك.
بعد أن ذكّر المبعوث البريطاني أن الإمبراطورية العثمانية كانت حليفا قويا ومخلصا، ذكر أنهم يعانون من نقص كبير في الحبوب وأن المواطنين يواجهون صعوبات كثيرة. ثم طلب من الإمبراطورية تقديم المساعدة وإرسال القمح من مناطق تيكيرداغ وجنق قلعة وجزيرة مورا.
يقول “شاعر الوطن”، ناميق كمال: “إن هيبة أجدادنا معروفة في العالم لا تظن أن الفطرة تتغير! فهذه الدماء ستبقى كما هي”. ويتحدث الشاعر في أبيات شعره عن قضية مهمة جدا، فيقول إن المجتمع والميزات التي ورثها الناس من التاريخ، على الرغم من أنها تتغير، إلا أنها لابد أن تحتوي على الرواسب من الماضي.
بالمثل، لم يقل ابن خلدون عبثا إن شخصية الإنسان واتجاهاته تشكلت بواسطة “المناخ” و”التغذية” و”الوراثة”، فقد كان بعض تلك المورثات بيولوجية، بينما كان البعض الآخر اجتماعيا. وبعبارة أخرى، فإن الأحداث التي شهدتها المجتمعات البشرية، والتي ميزتها تاريخيا، تأتي وتتوغل مع مرور الوقت وتترك بعض الأثار على الضمير والعقل. وهكذا هي “الدبلوماسية الإنسانية” في تركيا في الآونة الأخيرة، التي يتسمى بها الموقف الإنساني والذي يسير على هذه القاعدة النظرية. واليوم، يظهر المجتمع التركي والدولة نفس ردة الفعل الشاملة، حيث لم يميّزا لمئات السنين بين مسلم أو غير مسلم تحت شعار “نحب جميع المخلوقات، من أجل خالقها”.
ليس من الصعب معرفة أن مدراءنا يدركون هذا الوضع، لأنه منذ الأيام الأولى من ظهور الفيروس، وقع إرسال المساعدات الطبية إلى الصين من خلال مؤسسة تيكا، والتي تشمل بدلات الخطر والملابس الواقية وآلاف الأقنعة. أما نقل هذه المواد فقد جاء عن طريق طائرة الشحن المسماة “كوجا يوسف” التابعة لقوات الطيران التركية. وليس من قبيل الصدفة أن يكون اسم الطائرة على اسم مصارعنا التركي الشهير الذي كان يعيش خلال الفترة العثمانية.
من ناحية أخرى، يجدر الإشارة إلى أن دولة تركيا التي قامت بمد يد المساعدة لأكثر من ثلاثين دولة، وفقا لأحدث الأرقام، ينطبق عليها أقوال وأفعال مولانا جلال الدين الرومي. وقد وقع نقش قول بير شعبان والي “هناك آمال كثيرة تأتي بعد اليأس، وهناك الكثير من الشموس وراء الظلام” بلغة البلدان التي أرسلت إليها المساعدات. وقد قدمت المساعدات، من أدوات التشخيص إلى الإمدادات الطبية للعديد من البلدان من خلال طائرات الشحن العملاقة، وأصبحت تركيا مثالا للعالم أجمع بعد أن أثبت الاتحاد الأوروبي فشله في تلك الآونة.
تميزت أمتنا منذ أن دخلت التاريخ بصفات معينة وقد وصلت هذه الصفات لمرحلة عظيمة بعد إنشاء أكبر إمبراطورية شهدها التاريخ على الإطلاق
الصديق هو من يكون حاضرا في الأيام الصعبة
لم تقم تركيا برفض طلب المساعدة، فقد أرسلت من بعد الصين إلى إيران 1000 أداة تشخيص و4175 بدلة وقاية و20 ألف معطف وألفيْ نظارة وأربعة آلاف قناع إن95 و78 ألف قناع ذو ثلاث طبقات. من ناحية أخرى، وقع تقديم الدعم في البداية لأوروبا ودول البلقان. وفي هذا السياق، وقع مد يد المساعدة إلى دولة بلغاريا وإرسال 50 ألف قناع و100 ألف بدلة وقاية و100 نظارة. كما وقع تقديم الدعم إلى دول البلقان والبوسنة والهرسك والكاراداغ ومقدونيا عن طريق إرسال أقنعة وأدوات تشخيصية سريعة وملابس واقية ومنتجات تنظيف. بالإضافة إلى ذلك، قامت تركيا بتذكير العالم بمقولة الصديق هو من يكون حاضرا في الأيام الصعبة، عن طريق إرسالها ما يقرب من 450 ألف قناع إلى إيطاليا وإسبانيا اللتين تكبدتا خسائر كبيرة.
تميزت أمتنا منذ أن دخلت التاريخ بصفات معينة وقد وصلت هذه الصفات لمرحلة عظيمة بعد إنشاء أكبر إمبراطورية شهدها التاريخ على الإطلاق. كان الأتراك دائما على جانب المظلومين، متأثرين بفكرة “العالمية” التي أطلق عليها العثمانيون “مختلف الأجناس”، وكذلك بفكر العالم الإسلامي الذي شكل الخلق الأساسي للدولة. دعونا نبحر إلى عالم الأحداث التي كونت وجهة النظر هذه.
وقع جمع المساعدات التي أرسلت إلى جميع أنحاء العالم في وثائق الأرشيف في الموسوعة الذي تحمل عنوان “الدبلوماسية الإنسانية من العثمانية إلى اليوم: جيهان بنه” الذي نشرته المديرية العامة لأرشيف الدولة كدليل على تراث الإمبراطورية العثمانية. تشمل هذه المساعدات دعم للاجئين السياسيين، والذين هم في وضع صعب، وكذلك المساعدات المرسلة في حالة الكوارث الطبيعية والمجاعات. عند الشروع في تدقيق هذا الكتاب أو كتابة كلمة “مساعدة” في قسم المسح الضوئي في أرشيفات دولتنا، سوف تواجه آلاف المستندات تتحدث عن مساعدة المظلومين.
يأتي على رأس المساعدات المقدمة للدول الأجنبية من الإمبراطورية العثمانية مساعدة من كانوا في وضع صعب بسبب المجاعة. ولم تقم الإمبراطورية العثمانية برفض المساعدة بغض النظر عن هذه البلدان، كما وقع الأخذ في الاعتبار عدم ظلم السكان المحليين أثناء تقديم المساعدة.
مساعدات القمح إلى إنجلترا
سُجلت مساعدات القمح في التقويم سنة 1880 وكان على عرش الإمبراطورية الموسيقار السلطان سليم الثالث. بعد أن ذكّر المبعوث البريطاني أن الإمبراطورية العثمانية كانت حليفا قويا ومخلصا، ذكر أنهم يعانون من نقص كبير في الحبوب وأن المواطنين يواجهون صعوبات كثيرة. ثم طلب من الإمبراطورية تقديم المساعدة وإرسال القمح من مناطق تيكيرداغ وجنق قلعة وجزيرة مورا. في الحقيقة، تسببت المجاعة في إنجلترا في زيادة غير عادية في أسعار الخبز ووقع طلب المساعدة من الأتراك لإرسال القمح. وقد وضع السلطان سليم الثالث شرطا يتمثل في “عدم الإخلال بتغطية احتياجات إسطنبول”. لذلك، سُمح ببيع القمح على سواحل روميلي والأناضول وليس من خلال منطقتي تيكيرداغ وجنق قلعة.
نحن على دراية بأن مساعدات قُدمت لإنهاء مجاعة أخرى بفضل رسالة الشكر التي كتبها شعب إيرلندا النبيل البارز. علاوة على ذلك، علمنا من خلال تلك الرسالة أنهم تقدموا بطلبات إلى العديد من البلدان وأعلنوا أن الوضع في بلادهم مؤسف، وعلى الرغم من ذلك لم يتمكنوا من الحصول على أي شيء بخلاف المساعدة السخية التي قدمها العثمانيون بطريقة تعلم أوروبا بأكملها معنى السخاء.
كانت الفيضانات في فرنسا، التي تملك الكثير من الأراضي الزراعية والأنهار، واحدة من الكوارث التي تحدث بشكٍل مستمر
40 ألف فرنك لفرنسا خلال الفيضان
قدم الأتراك يد العون هذه المرة إلى المظلومين، وكان ذلك في فبراير/شباط 1868. وكان على عرش الدولة العثمانية الحاكم السلطان عبد العزيز خان الذي ساهم في إنهاء تلك المجاعة من خلال شراء سلع ثمينة من السوق الخيري التي فتحتها ملكة بروسيا شرق المملكة. وقع إرسال برقية شكر من الملكة إلى اسطنبول مع رسالة عرض الكونت بسمارك. وبفضل هذا، نرى مرة أخرى عدم قيام الإمبراطورية العثمانية بالتفرقة بين الدين أو اللغة أو الجغرافيا لتقديم المساعدة.
تتسبب الفيضانات، التي تأتي على رأس الكوارث الطبيعية، في فقدان الكثير من أرواح الناس وممتلكاتهم. عدساتنا هذه المرة موجودة في فرنسا، حيث ندقق مقالا كتبه سفير باريس محمد جميل إلى الباب العالي. تسبب فيضان بعض الأنهار في فرنسا إلى حاجة الشعب لطلب المساعدة. من جهة أخرى، أرسل السلطان عبد المجيد 40 ألف فرنك إلى وزارة الخارجية الفرنسية من خلال مسيو بيلفيل. بعد ذلك، قام السلطان عبد المجيد بطلب نشر هذه المساعدات في صحيفة تسمى “مونيتور”، فقام الشعب الفرنسي بالثناء على الحاكم التركي.
كانت الفيضانات في فرنسا، التي تملك الكثير من الأراضي الزراعية والأنهار، واحدة من الكوارث التي تحدث بشكٍل مستمر. علاوة على ذلك، فلم تكن تلك المساعدات التي تقدمها الإمبراطورية العثمانية تخرج من الحاكم فقط بل كانت أيضا متأتية من رجال الدولة الآخرين. أما عن احتياجات فرنسا هذه المرة خلال كارثة الفيضانات الأخرى التي وقعت سنة 1856، فقد تناولها حاكم ولايتي يوانينا وتيرهالا، محمد بك، وكتّاب الدفتر ومسؤولون آخرون.
استمرار تقديم المساعدات خلال فترة الجمهورية
استمرت المساعدة إلى بريطانيا، الدولة الأخرى التي عانت من الفيضانات بنفس الشكل، دون تغير. كما قلنا مسبقا، إن أفكارنا وعقلنا واحد، وفي هذه المرة، انتقلت تلك المناهج من الإمبراطورية إلى الجمهورية سنة 1947 ولم يتغير شيء. فقد أدى الفيضان الذي ضرب إنجلترا إلى بقاء العديد من المنازل والمحلات التجارية تحت المياه، بينما سارعت جمهورية تركيا وحكومتها إلى مساعدة المنطقة عبر الهلال الأحمر. وقد علمنا بهذا الأمر تلك المرة من خلال إخطار وصل إلى وزير الخارجية حسن ساكا، مفاده أن رئيس الصليب الأحمر البريطاني، اللورد وولتون، كتب رسالة شكر إلى الهلال الأحمر التركي.
بالحديث عن الفيضانات وبالذكر أن تركيا تظهر نفس ردة الفعل منذ قرون، دعونا لا ننسى الفيضان الذي حدث في باكستان سنة 2010. هذه المرة، إن رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان هو الذي هب إلى المساعدة. في الواقع، كُتبت رسالة رسمية إلى المديرية العامة للسكك الحديدية لجمهورية تركيا لطلب المساعدات الإنسانية ووقع على الفور توفير حصة من ميزانية وزارة المالية. ويظهر هذا لنا مرة أخرى استمرار نفس الأفكار على مدار التاريخ.
رسالة شكر من السويد إلى السلطان عبد الحميد
لم يتردد الأتراك أيضا عن تقديم المساعدات لضحايا الحرائق باعتبار أن تركيا عانت من الحرائق في الماضي. اندلع حريق في بوخارست وتسبب في تشريد عديد الأسر التي كانت تنتظر المساعدة بعد أن فقدت منازلها. وهنا مد السلطان عبد المجيد يد المساعدة للمتضررين، ولم يهمل السيد إفلاك فويوداسي بيسكو إظهار امتنانه للسلطان.
اندلعت حرائق في السويد حين كان السلطان عبد الحميد الثاني متربعا على عرش الدولة العثمانية. وفي تلك الفترة قام السلطان بتخصيص 2500 فرنك من خزينته الخاصة إلى ضحايا الحريق ووقع تسليم المبلغ على الفور إلى لجنة الإغاثة ومن ثمّ أُرسلت الأموال إلى وزارة الخارجية من قِبل كاراجا باشا سفير الدولة العثمانية في لاهاي وستوكهولم. وتشير الوثيقة أنه بعد وصول المساعدات إلى السويد والنرويج طلب السويديون من كاراجا باشا أن يبلغ شكرهم وامتنانهم للسلطان عبد الحميد.
كانت الدولة العثمانية ووريثتها تركيا دون شك من أكثر الدول التي اهتمت بقضايا الهجرة واللاجئين. فنحن نرى ما قدمته تركيا خلال الفترة الأخيرة من مساعدات وخدمات إنسانية للاجئين السوريين.
فتحت الدولة العثمانية ذراعيها لليهود البولنديين، الذين احتل النمساويون أراضيهم سنة 1785 وأُجبروا على الهجرة نتيجة للضغوط الدينية والاقتصادية. انتقل اليهود البولنديون إلى اسطنبول في شكل مجموعات. وكما هو الحال مع اليهود الذين تعرضوا للاضطهاد في إسبانيا واستقروا في سلانيك في عهد السلطان بايزيد، فقد وجد يهود بولندا الأمن والهدوء والسلام أثناء تواجدهم في البلاد.
قصة مساعدة غريبة
بالحديث عن بولندا، تأتي إلى أذهاننا قصة مساعدة غريبة، ففي سنة 1857 أراد بعض اللاجئين البولنديين الانتقال إلى الأراضي العثمانية. ورأى السلطان عبد المجيد أنه من المناسب إقامتهم في مزارع منطقة تريكالا، والتي كانت تحت سيطرة الوزير الأعظم مصطفى رشيد باشا. وكان يعتقد أن يجب زيادة أعدادهم، وهكذا قرر تزويجهم من بنات الدولة العثمانية في البوسنة والهرسك ومناستر وشكودرا وبلوفديف. وصدرت التعليمات إلى المناطق المذكورة من أجل تسهيل زواج الفتيات من البولنديين. وكتب الأمير ويتولد تشارتوريسكي رسالة طويلة إلى السلطان العثماني أعرب فيها عن امتنانه وشكره على كل هذه الرعاية.
من الطبيعي أن يساعد أفراد الشعب الواحد بعضهم البعض، ولكن من النادر أن ترسل دولة مساعدات لشعب آخر. كانت الأمة التركية استثناء، فقد احتضنت عبر تاريخها الكثير من اللاجئين المظلومين وقدمت لهم كل أنواع المساعدات. وشهدت سنة 1860 قدوم مهاجرين شركس إلى الأراضي العثمانية، حيث استقرت خمسة عشر أسرة في سيواس وحظيت بمساعدات من السلطان.
طلب مماثل
صدر قرار بأن تتكفل الدولة بنفقات المهاجرين الشركس، ولكن السكان أرادوا تقديم المساعدة بأنفسهم، وهو ما تثبته هذه الوثيقة: ” بناء على هذا الإخطار، فإن هؤلاء المهاجرين هم ضيوف دولتنا العلية التي ستستمر إلى الأبد، ولكونهم تركوا منازلهم وأراضيهم فإننا ملزمون بتأمين راحتهم كما تعلمنا من سلطاننا العظيم. فنحن لن نأخذ المبلغ الذي المخصص لتكاليف بناء هذه المنازل، وسنقدم خدمة نفتخر بها، ونتبرع بها للخزينة”.
ليس من الصعب العثور في أرشيفنا عن معلومات حول المساعدات التي أرسلت إلى العديد من البلدان بسبب الكوارث، والتسهيلات المقدمة لأولئك الذين يضطرون إلى مغادرة بلادهم. وقد بقيت أمتنا إلى اليوم على ما كانت عليه في الماضي، فهي تعطي قيمة للشخص فقط لأنه إنسان.
المصدر: مجلة ١٨٦٨ الصادرة عن الهلال الاحمر التركي