في العام 2003، حين دخل الجيش الأمريكي العراق، كانت المعادلة واضحة: سيتم تقسيم المناصب طائفيًا وعرقيًا بنسب ثابتة، الرئيس كردي، رئيس الوزراء شيعي، رئيس مجلس النواب سني. القوات الأمنية، القضاء، الصحة، التعليم وغيرها من قطاعات الدولة جرى بناؤها بهذا الشكل.
قد يكون السبب الوحيد لهذا الأمر تعمد إبقاء العراق ضعيفًا وممزقًا، خاصة مع نتائج هذه الإستراتيجية الكارثية في بناء البلد، لكن ربما هناك تفسيرًا آخر وهو أن بناء الدولة بهذه الطريقة هو ما يعرفه القوم، والدولة عندهم مبينة أساسًا على العنصرية وتفوق البيض، رغم أن هذه الصورة أبعد ما يمكن أن تكون قريبة من الولايات المتحدة في ذهن الكثيرين.
تقول دانييل سولومون، الرئيسة السابقة للجنة الكونغرس الفرعية للأمن الوطني: “أمريكا كيان متناقض، من جانب: تتبنى مبادئها التأسيسية قيم الحرية والمساواة، ومن جانب آخر: أمة مبنية على الاضطهاد المنهجي وقمع المجتمعات الملونة. منذ بداية تأسيسها، تم تصميم العديد من القوانين والسياسات العامة، لتكون بمثابة العوائق التي تمنع بشكل صريح الأشخاص الملونين من المشاركة الكاملة، علاوة على ذلك، هذه البنى القانونية ليست من بقايا ما قبل الحرب الأهلية، بل جزء من نسيج صناعة السياسة الأمريكية”.
ممنوعون من التصويت.. حتى الآن!
في سلسلة بحوث عن العنصرية الممنهجة – ضد الملونين: السود، الصينيين، الأمريكيين الأصليين – في الدولة الأمريكية، نشرها معهد التقدم الأمريكي للدراسات، خلص المركز إلى أن سبب هذه المنهجية يعود إلى أصل إنشاء الولايات المتحدة نفسها على يد البيض الذين عمدوا إلى سن قوانين تمنع الملونين صراحة من التصويت وحتى نيل الجنسية الأمريكية، يشير مكتب الإحصاء الوطني الأمريكي، أنه حتى العام 1860، كان 85% من السود ممنوعين من التصويت في كل الولايات المتحدة.
ورغم أن التعديل الـ14 و15 من الدستور الأمريكي – بعد الحرب الأهلية – منح السود حق امتلاك العقارات والعمل، لكن هذه الفترة لم تدم طويلًا، فمع إصرار قوانين الفصل العنصري المعروفة بـ“جيم كرو” أقرت الولايات الجنوبية قوانين واضحة لتجريم السود مع مطلع القرن العشرين، فمثلًا أصبح التشرد جريمة يعاقب عليها القانون بالإدانة، ثم يُحرم أي مدان من التصويت لاحقًا (إستراتيجية سيتم استخدامها لاحقًا في انتخابات 2016)، تطور الأمر لتطبيق العبودية عن طريق قانون “الرموز السوداء” الذي يتيح للولايات استعباد السجناء السود لأداء الأعمال!
حتى العام 1965، حين تم إقرار قانون التصويت الوطني للسود بعد كفاح قاده مالكوم إكس ومارتن لوثر كنغ، كانت القوانين تضع العراقيل أمام السود ـ وتستثني منها البيض -، فمثلًا أقرت الولايات الجنوبية قوانين ضريبة الاقتراع واختبار محو الأمية والإجابة عن سلسلة لا نهائية من الأسئلة في التربية المدنية والمواطنة الصعبة لأجل التصويت، وهو ما جعل التصويت مستحيلًا على السود، رغم تزامنها مع استثناء البيض منها بحسب “بنود الجد” الذي يسمح للأحفاد البيض بتخطي هذه المراحل بسبب لونهم!
خلال تلك الفترة، استولت الولايات المتحدة على عدة أقاليم خلف البحار وهي بورتريكو وغوام وجزر فيرجن وجزر ماريانا الشمالية وساموا، ورغم نيل سكانها الجنسية الأمريكية، لا يزال 3.4 مليون أمريكي فيها من الملونين ممنوعين من التصويت حتى يومنا هذا!
قوانين الحرمان من التصويت هي نتيجة فشل المشرعين في اقتلاع العنصرية الهيكلية الراسخة بشكل كامل
لكن الأغرب، ما حصل عام 2012، فمع سنوات من النضال وتنفيذ قانون التصويت الوطني “VRA” منذ الستينيات فاق عدد المصوتين السود عدد المصوتين البيض في انتخابات 2012 لأول مرة في التاريخ، وهو ما ساعد باراك أوباما على تخطي مات رومني في ولايته الثانية.
بعد الانتخابات أقرت المحكمة العليا في القضية المعروفة باسم “شيلبي كاونتي ضد هولدر” قانونًا يزيل الحماية عن البند الخامس من قانون التصويت الوطني، ما يعني إعطاء الصلاحيات للولايات لسن قوانين قد تتعارض مع حقوق الملونين من الانتخاب، وهو ما حصل مباشرةً في ولايات معروفة بتاريخها العنصري مثل كارولينا الشمالية وداكوتا الشمالية وولايات أخرى، حيث حيث أُقرت قوانين قديمة مثل قانون الهوية الوطنية الذي يتيح التصويت للهوية الوطنية التي حملها البيض دون تلك التي يحملها السود، وقانون العنوان السكني الصالح للتصويت وقانون الإدانة الذي يمنع المدانين بجرائم فيدرالية – أغلبهم من السود بسبب حملات الشرطة على الملونين في مكافحة المخدرات والجريمة – من التصويت.
وبإضافة حرمان سكان العاصمة واشنطن – التي تُعرف باسم مقاطعة كولومبيا – من التصويت في الكونغرس، (وهو أمر تقول صحيفة نيويورك تايمز إن أغلب الأمريكيين لا يعرفون بوجوده أصلًا) تكون التكتيكات القديمة المطورة قد نجحت بمنع ملايين الملونين من التصويت.
بحسب دراسة لجامعة هارفرد ومؤسسة روبت وود جونسون والردايو الوطني الأمريكي بعنوان: “الاضطهاد في أمريكا: التأثير على العرقيات” تقول إن القوانين الجديدة بعد انتخابات 2012 حتى 2017 أثرت بنسبة 1:5 لصالح البيض، حيث كانت النسبة 19% ضد السود 10% ضد الأمريكيين الأصليين و15% ضد الأمريكيين من أصل لاتيني و7% من ذوي الأصول الآسيوية، مقابل 4% ضد البيض، ليصل العدد إلى 9.5 مليون مواطن أمريكي أغلبيتهم الساحقة من الملونين، تم منعهم من التصويت في انتخابات 2016 التي فاز بها ترامب “المعروف بميوله العنصرية” وهو عدد يفوق الناخبين في ولايات وايومنغ وفيرمونت وألاسكا ونورث داكوتا وجنوب داكوتا وديلاوير ورود آيلاند ومونتانا وهاواي ونيو هامبشاير وماين وإيداهو ذات السكان البيض مجتمعين!
بحسب الباحثة في مجال الحقوق المدنية أبريل كاسترو: “قوانين حرمان التصويت هي نتيجة فشل المشرعين في اقتلاع العنصرية الهيكلية الراسخة بشكل كامل، المواطنون الذين لديهم جناية سابقة ويقيمون في واشنطن العاصمة أو الأقاليم ليسو أقل أمريكية من غيرهم، لكن نتيجة للسياسات التمييزية، فليس لديهم إمكانية اختيار مرشحين من ذوي القيم المشتركة والتعايش، وبالتالي فإن هؤلاء الأمريكيين غير البيض في الغالب يستمرون في تحمل الإقصاء والتمييز والاستغلال بعد أكثر من 150 عامًا من إلغاء الرق”.
عنصرية في المساكن وأسعار الإيجار
لا تقتصر المنهجية العنصرية على حق التصويت فقط، إنما تشمل نواحي أخرى منها إمكانية الحصول على عقار، تاريخيًا، تم بناء المدن الأمريكية بناءً على تفوق العرق الأبيض، مع توقيع الرئيس الأمريكي أندرو جاكسون قانون “الإزالة الهندي” عام 1830، الذي سمح بنقل الهنود الأصليين جنوب شرق البلاد لفسح المجال أمام البيض، وقبل حلول القرن العشرين، أصدرت الحكومة قرارًا باستيلاء الحكومة على أراضي القبائل وتوزيع 90 مليون فدان للسكان البيض فيما يُعرف بقانون “داوس”.
بالنسبة لمجتمعات السود، تركت سياسات استهدافهم أثرًا عميقًا في عدم الاستقرار وانتشار الجريمة في أوساطهم، يقول الباحث كونور ماكسويل، عضو اتحاد الحريات المدنية: “غالبًا ما يتم سن سياسات اضطهاد السود تحت ستار إنشاء أماكن عامة جديدة أو إعادة التخطيط الحضري أو تعزيز التنمية الاقتصادية، لكن مع مرور الوقت، جردت هذه السياسات المجتمعات السوداء من الثروة والاستقرار المالي الموجود في ملكية العقارات والسكن الإيجاري الميسور التكلفة، على سبيل المثال، في أوائل خمسينيات القرن التاسع عشر، استخدم المشرعون في مدينة نيويورك منهجية بارزة لتدمير مجتمع أسود مزدهر في مانهاتن، مما أدى إلى تشريد آلاف السكان من أجل إنشاء ساحة عامة تعرف اليوم باسم سنترال بارك”.
ليس ببعيد عن تلك الفترة، وفي الثلاثينيات، بدأت سياسة تخطيط عمراني جديد في عهد الرئيس فرانكلين روزفلت، لكن الغريب أن التخطيط تم بناءً على التقسميات العرقية للأحياء، حيث وزعت مؤسسة قروض مالكي المنازل “HOLC” الرهون العقارية وفق معايير اعتمدت استثناء المناطق السوداء باعتبارها مناطق خطيرة.
يقول الكاتب ريتشارد روثستين في كتاب “لون القانون: كيف قسمت الحكومة أمريكا عرقيًا”: “بسبب ما يعرف قانونًا بـ”readlining” أو تحديد المناطق الخطرة، حصل السود على 2% فقط من القروض العقارية بين عامي 1934 و1962 التي بلغت قيمتها 120 مليار دولار – ما يعادل اليوم تريليون دولار تقريبًا -، وحتى اليوم، لا تزال 75% من المناطق التي تعتبرها المؤسسة خطرة وغير مشمولة بالقروض من مناطق السود”.
السود يمثلون أغلبية مفرطة في عدد من المهن التي لا تزال تعاني انخفاضًا في الدخل منذ سن قانون جيم كرو العنصري
وبسبب سياسة القروض، كان من السهل على محترفي العقارات الحصول على أملاك السود بسبب غياب الحماية القانونية لهم، إذ يضطر السود لشراء المنازل بعقود تدفع بالتقسيط شرط استعادة المنزل بحال عدم تسديد أي دفعة من القسط، وهو أمر لم يكن يحصل مع البيض الحاصلين على حماية مؤسسة القروض الوطنية.
ونتيجة عملية لذلك فقد السود 8 من كل 10 منازل قاموا بشرائها في مدينة شيكاغو خلال تلك الفترة، ما أدى لخسائر تراكمية بقيمة 4 مليارات دولار، وكمحصلة نهائية لهذه السياسات وغيرها، كان من الطبيعي مثلًا أن تنخفض نسبة السود في العاصمة من 71% إلى 48% حتى العام 2015 وأن يزيد السكان البيض بنسبة 25%، وأن يصل الاضطهاد في المنازل إلى حد غير مسبوق كما أوردت دراسة لجامعة هارفارد، إذ قال 45% من السود إنهم يعانون من اضطهاد عرقي عند استئجار العقار، مقابل 5% للبيض و31% لذوي الأصول اللاتينية و25% للأصول الآسيوية.
في الجانب الاقتصادي، يبدو الحال أفظع بكثير من نظيريه السياسي والعقاري، يشير مكتب الإحصاء الأمريكي أن السود يمثلون أغلبية مفرطة في عدد من المهن التي لا تزال تعاني انخفاضًا في الدخل منذ سن قانون جيم كرو العنصري! إذ يمثل الملونون 58% من المشتغلين بالزراعة و70% من المشتغلين بخدمة البيوت وعمال النظافة و74% من حاملي الحقائب والبوابين والكونسرج، ورغم أن متوسط الأجر الأمريكي 18 دولارًا في الساعة، فإن المهن التي يشكل الملونون الأغلبية فيها لا تتعدى الـ14 دولارًا كحد أقصى.
وهكذا، أدت سياسات التمييز إلى تفاوت اقتصادي كبير بين البيض والملونين، ففي دراسات متفرقة قام بها باحثون في جامعة كامبريدج وجامعة هارفارد بمشاركة مكتب الاقتصاد الوطني عام 2017 وجدوا أنه – مع تساوي حالات التحصيل الدراسي وهيكل الأسرة – تبلغ نسبة البطالة بين السود ضعفها بين البيض، ويقل دخل الأسر السوداء بنسبة 25-45% عن الأسر البيضاء، في حين يبلغ متوسط الدخل 40300 دولار للأسر السوداء مقابل 68000 دولار للأسر البيضاء.
إن العنصرية توجد بلا شك في جميع المجتمعات وتصرفات أفرادها بنسب متفاوتة، لكن المعضلة تكمن حين تكون مئات القوانين مبنية على دفع عنصري أو تحقق غرضًا عنصريًا في روح القانون حتى لو غاب التعبير عن نصه، وفي حين أن هذا النوع من القوانين اكتسب شهرة إعلامية خلال فترة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا “الأبرتهايد” إلا أن الإعلام لا يسلط الضوء عليه كثيرًا بسبب قوة الدعاية الأمريكية التي تسوق البلد على أنه مركز الحريات والمساواة التي نالت استقلالها لتكون مقصد الأحرار في العالم في حين أنها كانت تستعبد السود رسميًا حتى ظهرت الآلة.. فما أشبه اليوم بالبارحة!