يبدو أن اللواء خليفة حفتر يعيش آخر أيامه في شرق ليبيا، وهو الذي خطب قبل أسابيع طالبًا تفويضًا شعبيًا لحكم البلاد لم يستجب له أحد في الشارع البنغازي وبقية المدن التي يأمل سكانها أن يعيشوا قليلًا من الاستقرار بعد تسع سنوات من الاقتتال الداخلي الذي حصد في ظل غياب أرقام دقيقة آلاف القتلى وعشرات الأحياء المدمرة ومئات آلاف الأسر المشردة التي هجرتها الحرب وشتتها ليعيشوا لاجئين بوطنهم داخل مدارس ومخيمات في ظروف مأساوية.
عبر موقعه الرسمي وصف برلمان طبرق الذي عين في فبراير/شباط 2015 خليفة حفتر قائدًا عامًا للجيش، رئيسه عقيلة صالح بالقائد الأعلى للقوات المسلحة بعد استقباله لكبار القادة العسكريين في الشرق الليبي يوم الأربعاء الماضي الذين أطلعوه على آخر التطورات الميدانية، في خطوة توحي بتخلي شركاء حفتر عنه وسحب البساط منه، وهو الذي أسقط ولم يعد معترفًا حسب زعمه باتفاق الصخيرات الذي منح الشرعية لبرلمان طبرق الذي رقاه من رتبة لواء لفريق ركن وجعله على رأس الجيش قبل خمس سنوات.
غياب حفتر عن اللقاء وبشكل كلي عن المشهد الليبي خلال هذه الأيام، باستثناء الخرجة الإعلامية الأخيرة التي بدا فيها ورغم الترتيب لها أنه كان يعيش لحظات انهزام قاسية أطلق خلالها أوصافًا قبيحة هاجم بها تركيا، وهو الذي كان على أبواب طرابلس تندحر وتتهاوى قواته سريعًا في كامل المنطقة الغربية بداية منتصف أبريل/نيسان.
نزعه للشرعية عن نفسه بنفسه، بإسقاط المؤسسة التي عينته وجاءت به من مقاعد التقاعد لقيادة الجيش، إشارة إلى أنه ترك جانبًا لينظر ماذا سيفعل به من طرف اللاعبين الحقيقيين العاملين لضمان موطئ قدم في الشمال الإفريقي والصحراء والبحر المتوسط وما تحمله هذه المناطق من ثروات لا حدود لها، والحديث هنا عن الإمارات ومصر وبقية المرتزقة والأسلحة التي يتم تأمينها من طرف دول أوروبية تشد الحبل من الوسط للخروج بمنطق رابح رابح، فتارة هم مع حكومة الوفاق وفي أخرى مع قوات حفتر باعتباره “جيش ليبيا” وفق تسمياتهم، وفي أحيان كثيرة بمنطق مجريات القتال على الأرض.
هي ثورة سقاها الليبيون بدمائهم ليجدوا نهاية المطاف شخصًا قادمًا من الولايات المتحدة الأمريكية وحاملًا لجنسيتها يقطف ثمارها
المثال هنا من فرنسا التي اعترضت ناقلة بعقد إماراتي في طريقها لتحميل نفط من ميناء شرق ليبيا تسيطر عليه قوات حفتر، ومن جهة أخرى إطلاق عملية “إيريني” الأوروبية لإنقاذ حفتر بمراقبة حظر توريد الأسلحة مع استثناء المعابر الشرقية التي يدخل منها يوميًا العتاد لتغذية الأزمة.
نفس الشيء بالنسبة لمالطا كما هو حال لسان بقية الدول التي تقود سياستها الخارجية بمنطق المصلحة ومحاولة الظفر بجزء من الكعكة الليبية ولو بمنطق الازدواجية وتغيير المواقف كل ساعة، فرغم استقبال رئيس وزرائها قبل أيام في طرابلس وإيقافها لشحنة المليار ونصف المليار دولار المطبوعة في روسيا التي كانت في طريقها للشرق الليبي، ففي إطار تقرير أممي تم كشف تفاصيل عملية شاركت فيها مالطا بجانب فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا والإمارات لاستهداف الإمدادات التي تصل لطرابلس وتزويد حفتر بالقدرة على قطع الطريق البحري للأسلحة التي تقدمها تركيا لحكومة الوفاق.
فشل ساعات صفر حفتر الكثيرة التي أعلنها أكثر من مرة متوعدًا بهجوم واسع وكاسح لإحكام قبضته وانسحابه من موسكو منتصف يناير/كانون الثاني الماضي، رافضًا كما يبدو التوقيع على الهدنة، كلها مؤشرات أظهرته بمنطق المتحدث الرسمي لأطراف خارجية أخرى لا يأتمر إلا بتوجيهاتها وقراراتها ويعمل تحت لوائها. قوى لا تعرف شيئًا عن الواقع والساحة الليبية ومعطيات الأرض، تصدر أوامرها في آخر لحظة لتقرر نيابة عنه، كما حدث حين غادر موسكو قبل لحظات من توقيع اتفاق وقف إطلاق النار.
قصف المدنيين وارتكاب جرائم حرب وتهجير بشهادة الأمم المتحدة دون تسميته شخصيًا واصطحابه لأبنائه وعائلته لمؤتمر برلين أظهرته في صورة المستبد الذي ثار الليبيون لإسقاط حكمه الذي امتد لأكثر من 40 عامًا، هي ثورة سقاها الليبيون بدمائهم ليجدوا نهاية المطاف شخصًا قادمًا من الولايات المتحدة الأمريكية وحاملًا لجنسيتها يقطف ثمارها، يلتقي السيسي وابن زايد، ويعلن خريطة طريق.
قطعه لإمدادات المياه عن طرابلس وانتشائه بقواته المجهزة بسلاح غير ليبي لتحرير العاصمة وفشله في ذلك، وقتل 46 مهاجرًا غير شرعي وجرح 83 في قصف بغارتين جويتين على تاجوراء إثر خسارة مدينة غريان في يوليو/تموز 2019 ، كلها تصرفات طائشة لأمير حرب منهزم على الأرض يتجاوز بعض الأحيان إملاءات البلدان الداعمة له ويضعها في مواقف لا تحسد عليها.
القليل من رصيده الذي جاء به من سنوات انشقاقه ومعارضته للقذافي أهدره في أول اختبار له بالقيادة حين أدمج بقايا كتائب القذافي وبعض ضباطه داخل قواته ليضمن – كما راهن – ولاءً قبليًا ودعمًا من طرف الموالين للنظام السابق الذين عصفت الرياح بمصالحهم وامتيازاتهم وغنائمهم من أموال الشعب الليبي وتشتت بهم السبل، إلا أنه سقط من عيون الليبيين في أول رصاصة وجهتها قواته للأحياء السكنية المأهولة بالسكان المدنيين.
خليفة حفتر ذو الـ73 عامًا، الرجل العسكري الطامح لتسيد مشهد ليبيا 2020 بعقلية الستينيات القائمة على حكم العسكر بالحديد والنار، يبدو أنه لا يعلم أن الأمور تغيرت كثيرًا وأن جيل اليوم أكثر تحررًا وعلمًا وثقافةً واستعمالًا للتكنولوجيا الحديثة التي ترصد وتنقل وتحلل تصريحاته وتحركاته، يتقاسم شيئًا واحدًا مع الليبيين، أنه لا يعرف متى يتم الاستغناء عنه رسميًا، فجاهد في تنفيذ أوامر أبو ظبي والقاهرة، لكنه سقط في أخطاء قاتلة في أثناء التنفيذ ولذلك سيكون الجزاء بطعم الهزيمة والعقاب.