من الواضح أن مساعي السعودية لوضع موطئ قدم لها في أوقاف القدس المحتلة لم تتوقف رغم ما يردده البعض عن غياب هذا المخطط عن أجندة الرياض، فهاهي تسعى بقوة لكسب نقاط جديدة بصدد القضية الفلسطينية، لكنها ليست متعلقة بحلحلة القضية أو الانتصار لإرادة الشعب الفلسطيني وحقوقه التاريخية، بل بتموضع نفوذي لها داخل الحرم القدسي.
صحيفة “يسرائيل هيوم” العبرية أزالت النقاب في تقرير لها، الإثنين، عن ملامح هذا المخطط، كاشفة عن اتصالات سرية أجرتها المملكة مع “إسرائيل” بهدف منحها دورًا في الأوقاف الإسلامية للمدينة المقدسة، وذلك عبر دمج مندوبين سعوديين في “مجلس إدارة الأوقاف” بالقدس.
التقرير أشار إلى أن تلك الاتصالات التي غلفتها السرية التامة تأتي في سياق حالة التناغم التي تخيم على العلاقات بين الرياض وتل أبيب خلال الآونة الأخيرة، التي من المتوقع أن تصل إلى مستويات قياسية غير مسبوقة، وهو ما أثار التساؤل عن استماتة السعودية في مزاحمة الأردن في إدارة الأوقاف الإسلامية بالمدينة.
اللافت للنظر فيما نشرته الصحيفة أن هذه المبادرة جاءت بناءً على طلب من الجانب الأردني، وهو الأمر المثير للجدل، لا سيما أن المملكة الأردنية كانت تمثل عقبة كبيرة أمام توسعة النفوذ الإسرائيلي في الأماكن المقدسة، فكيف بها اليوم تدعم إشراكها والسعودية في إدارة هذا الملف الذي ظل حكرًا على الأردنيين لعقود طويلة.
تتزامن تلك التسريبات مع إعلان الحكومة الإسرائيلية على لسان رئيسها بنيامين نتنياهو أنها ستبدأ، يوليو القادم، مناقشاتها لبسط سيادتها على غور الأردن في الضفة الغربية المحتلة، وذلك طبقًا لما جاء في خطة دونالد ترامب التي تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية من باب السلام المزعوم.
تفاصيل المخطط
في حديث لدبلوماسيين سعوديين رفيعي المستوى مع الصحيفة أقروا بأن الاتصالات مع الجانب الإسرائيلي تمت بوتيرة منخفضة عبر طاقم قليل العديد من بعض الدبلوماسيين، بجانب أطراف أمنية أخرى من الولايات المتحدة، لافتين إلى أن مثل تلك التحركات تعتبر جزءًا من مساعي الدفع بخطة صفقة القرن للأمام.
قبل بضعة أشهر كان الأردنيون يعارضون بشدة أي وجود سعودي داخل إدارة الأوقاف المقدسة، لكن الموقف الآن تبدل، إلا أن الصحيفة العبرية أرجعت ذلك إلى أن الدور التركي في القدس عامة والمسجد الأقصى خاصة كان الدافع وراء التغير الطارئ في الموقف الرسمي الأردني.
التقرير زعم أن الحضور التركي والإيراني من خلال الدعم والتمويل المقدم للقضية الفلسطينية ومقدسات المسلمين هناك أثار حفيظة الأردنيين بصورة كبيرة، وقد تناغم هذا القلق مع أهواء النظام الحاكم في السعودية، وبالطبع الحكومة الإسرائيلية، الأمر الذي دفع الثلاثي (الأردن – السعودية – إسرائيل) إلى التحالف لتقليص هذا الدور من خلال إعادة هيكلة الخريطة الإدارية للأوقاف الإسلامية في القدس، حتى ولو كان ذلك على خلاف السيادة الأردنية التي طالما دافعت عنها.
وبحسب الصحيفة فإن العائلة المالكة في الأردن مستعدة لتخفيف معارضتها بدمج ممثلين سعوديين في المجلس، لكن ما المقابل؟ وهنا كشف التقرير أن ذلك سيكون شريطة أن يضخ الجانب السعودي التمويلات والمنح والدعم للجمعيات الإسلامية الناشطة في القدس والمسجد الأقصى ودعم تحركاتها لممارسة ضغوط سياسية لإخراج الجمعيات الإسلامية التركية من هناك.
وفي هذا الصدد نقل التقرير على لسان أحد الدبلوماسيين العرب قوله “لو سمح الأردنيون للأتراك بالعمل بحرية كاملة في المسجد الأقصى، لكانوا ظلوا بعد سنوات قليلة موجودين “على الورق” كأصحاب مكانة خاصة في إدارة الأماكن المقدسة”. وعليه كان لا بد من التحالف مع الكيان الصهيوني لتقليص هذا الحضور وتضييق الخناق عليه.
واستنادًا لكلام الدبلوماسي العربي فإن هذا التحرك يتماشى مع أجندة الرئيس دونالد ترامب ورئيس وزراء إسرائيل بينامين نتنياهو ببسط نفوذ تل أبيب على المقدسات الإسلامية بمساعدة سعودية إماراتية بحرينية، بما يعزز التحالف الداعم لخطة ترامب للسلام والتوجهات التوسعية الإسرائيلية.
حلم قديم
في يوليو 2018 كشف الباحث في كلية الدراسات الدولية بجامعة سانت راجارتنام في سنغافورة، جيمس دورسي، النقاب عن المخطط السعودي الإماراتي لما أسماه “نزع السيطرة والنفوذ الأردني على الأماكن الإسلامية في القدس الشريف”، لافتًا أن ذلك يندرج تحت إطار الدبلوماسية الدينية السعودية وسعيها لتوسيع نفوذها الإقليمي، رغم ما يمكن أن يترتب على ذلك من تعميق الانقسامات في العالم الإسلامي.
دورسي في مقاله أوضح أن الرياض تأمل أن تتعرض عمان لمخاطر سياسية وأمنية تزعزع استقرارها، ما يقوض من جهودها لمقاومة مبادرة ترامب لحل القضية الفلسطينية، لافتًا إلى أن ما تبذله السعودية ومعها الإمارات يسعى لتغطية الأجواء على اعتراف ترامب بالقدس عبر تصدير أزمة انقسام جديدة تجذب الرأي العام الإسلامي.
كما حذر من أن تركيز الرياض وأبو ظبي على القدس سيكون له تبعات إقليمية ذات نطاق كبير، لافتًا إلى أن سحب أنقرة البساط من تحت المملكة أحدث هزة عنيفة داخل الديوان الحاكم، الأمر الذي دفعها وحلفاءها الإسرائيليين لتقليص هذا الدور، وعليه حاولت العاصمتان الخليجيتان التقليل من القمتين الإسلاميتين اللتين عقدتا في إسطنبول ديسمبر 2017 ومايو 2018 لدعم القدس.
وفي ذات السياق كثفت الرياض حملتها الدبلوماسية للترويج لما أسماه الكاتب “الإسلام السني المتشدد”، فيما سعت لتصدير صورة مغايرة تمامًا كونها قبلة للتسامح وقبول الآخر والتعايش بين الأديان، وهي الحملة التي كلفت المملكة أكثر من 100 مليار دولار خلال العقود الأربع الماضية بحسب المقال.
المخطط السعودي للبحث عن قدم في أوقاف المدينة المقدسة وإن لم يتم إعلانه بصورة رسمية إلا أن العديد من الشواهد والخلفيات أقرته بشكل أو بآخر، حيث استعرضت المملكة عضلاتها المالية لتحقيق هذا الهدف، من خلال الدعم المقدم للأردن والفلسطينيين، بخلاف دعم القمة العربية التي عقدت في الظهران (شرق) في الـ15 من أبريل 2018، لدعم الأماكن الإسلامية في القدس بـ150 مليون دولار.
وحسبما نقل الكاتب عن نائب رئيس الحركة الإسلامية في الداخل المحتل، الشيخ كمال الخطيب، فإن الإمارات تسعى – في إطار تنفيذ هذا المخطط – لشراء العقارات المجاورة للحرم القدسي، لافتًا إلى التعاون الواضح بين أبناء زايد وذراعهم الفلسطيني محمد دحلان، القيادي المفصول من حركة “فتح” الذي يعبد الطريق لتنفيذ الأجندة السعودية الإماراتية داخل الأراضي الفلسطينية بمباركة إسرائيلية.
ما علاقة ذلك بصفقة القرن؟
التساؤل الذي يدور على ألسنة البعض مع تسريبات “يسرائيل هيوم”: ما علاقة المخطط السعودي بصفقة القرن؟ وللإجابة عن هذا السؤال يجدر العودة إلى الـ28 من يناير الماضي، حين أعلن ترامب تفاصيل صفقة القرن، التي تضمنت إضفاء الشرعية على الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، بجانب فرض الهيمنة على غور الأردن ومساحات كبيرة من الضفة.
لكن.. لم تضمن الصفقة أي إشارة لمصير القدس وإدارة الأماكن المقدسة بها، التي بقيت تحت السيادة الأردنية منذ احتلالها عام 1967، وطيلة السنوات الماضية فشل الجانب الإسرائيلي في إيجاد مدخل له للاشتراك في إدارة تلك المقدسات، وهي الثغرة التي طالما حاول الإسرائيليون سدها لسنوات طويلة.
وهكذا ظلت الأماكن المقدسة بالقدس خارج الصفقة، على الأقل من الناحية النظرية، حتى جاءت الصحيفة العبرية لتقلب الطاولة رأسًا على عقب وتميط اللثام عن المخطط السعودي لتحقيق حلم الإسرائيليين في إدارة الأماكن المقدسة بما يعبد الطريق أمامهم نحو تسريع هدفهم لإضفاء البعد اليهودي على تلك المقدسات في محاولة لسلبها وتجريد الفلسطينيين من حقوقهم التاريخية والدينية فيها.
ومما يعزز تلك الرؤية أن الاتصالات السرية التي جرت بين السعوديين والجانب الإسرائيلي والأردني لتشكيل هيكل إداري جديد لأوقاف القدس جاءت قبل شهر واحد فقط من إعلان ترامب صفقة القرن، وهو التزامن الذي يثير الكثير من التساؤلات الغامضة وإن أجابت عنها “يسرائيل هيوم” نقلًا عن دبلوماسيين سعوديين رفيعي المستوى.
ورغم غموض المشهد بشأن مدى دخول هذه الخطوة حيز التنفيذ، فضلًا عن غياب التفاصيل حيال طبيعة الدور السعودي المقترح، ومدى تجنبه لتهديد السيادة الأردنية، فإن مجرد التفكير في السير في هذا الطريق يضع القضية الفلسطينية في مأزق حقيقي ويسقط الشعارات الرنانة التي طالما رفعتها الرياض بشأن دعمها لحقوق الشعب الفلسطيني.