سكبت الزيت على النار وأججت الخلافات الداخلية بعد أسابيع قليلة من اندلاع الأزمة الخليجية في 5 من يونيو/حزيران 2017، وهي أزمة غير مسبوقة لا تزال تعصف بمجلس التعاون الخليجي وتهدد تماسكه وترابط مكوناته.
إنها ببساطة قناة القرصنة “بي آوت كيو“، التي ظهرت فجأة ومن دون سابق إنذار، لتأخذ على عاتقها بث بطولات ومسابقات وفعاليات رياضية، “لا تملك حقوقها”، وإنما تعود إلى شبكة قنوات “بي إن سبورت” القطرية.
وما زاد الطين بلة، توسع تلك القناة في التعدي على حقوق مجموعة “بي إن” الإعلامية التي تعتبر رائدة في مجال الرياضة والترفيه، غير آبهة بالعقود والاتفاقات المبرمة بين الأخيرة وأصحاب الحقوق الأصليين مقابل أموال طائلة.
القناة التي ظهرت في أغسطس/آب 2017، بعد أقل من شهرين على أزمة الخليج، أثارت تساؤلات عن الجهة التي تقف خلفها وتدعمها، إلا أن الشكوك وأصابع الاتهام وجهت للرياض في ظل ترويج مسؤولين سعوديين بارزين وصحفيين مقربين من دوائر صنع القرار لها تزامنًا مع حظر السلطات السعودية قنوات قطر الرياضية ومصادرة أجهزتها ومنع بيعها.
وشكل قطع الرياض وأبو ظبي والمنامة والقاهرة، علاقاتهما مع الدوحة، بداية للأزمة الخليجية التي تحل ذكراها الثالثة، بعدما فرضت تلك العواصم الأربعة آنذاك إجراءات قاسية ضد قطر، وصفتها الأخيرة بأنها “حصار جائر” يستهدف قرارها المستقل وسيادتها الوطنية ولا علاقة لها بمزاعم محاربة الإرهاب.
“بي آوت كيو”
قناة القرصنة ليست قناة عادية كما درجت عليه العادة، إذ تكتفي بوضع شعارها فوق شعار “بي إن سبورت”، معتمدة في بثها بشكل كامل على القناة القطرية، كما أنها لم تكتفِ بذلك؛ بل تبث أيضًا الإستديوهات التحليلية والمباريات بأصوات معلقي القناة البنفسجية، قبل أن تلجأ إلى حيلة بالاستعانة بمعلقين سعوديين وإماراتيين بارزين تحت أسماء وهمية.
المثير للدهشة والغرابة ما قالته قناة القرصنة إنها تنحاز إلى شعوب المنطقة وترفض الاحتكار، في وقت تفرض رسومًا مالية على مشتركيها مقابل اقتناء أجهزة البث الخاصة بها، التي يتم توزيعها داخل المملكة.
وأصدرت قناة القرصنة بيانًا في سبتمبر/أيلول 2017، زعمت فيه أنها قناة كوبية – كولمبية، وهو ما نفته الحكومتان المعنيتان من خلال وثائق عرضتها قناة “الجزيرة”، كما أنها طالبت “بي إن سبورت” بعدم إقحام السياسة في الرياضة على حد قولها.
وعيد قطري
الدوحة لم تقف موقف المتفرج على قرصنة قنواتها الرياضية بقولها إن ما تقوم به “بي آوت كيو” ليس قانونيًا، ويعتبر تعديًا سافرًا على الحقوق الملكية الخاصة، مؤكدة أنها ستلاحقها في مختلف ساحات المحاكم والقضاء الدولية.
وفي أبرز إشارة على اهتمام السلطات القطرية بالملف، توعد النائب العام القطري علي بن فطيس المرى، في يونيو/حزيران 2018، المتورطين بقرصنة الحقوق الحصرية لقنوات قطر الرياضية، “مهما طال الزمان أو قصر”، مشددًا على أن “بي إن سبورت” سوف تستعيد جميع حقوقها التي تم الاعتداء عليها بطرق غير شرعية يعاقب عليها القانون.
صدر بيان جماعي، ضم الفيفا ونظيريه الآسيوي والأوروبي، فضلًا عن روابط الدوريات الإنجليزية والإسبانية والإيطالية والألمانية، استنكر عملية السرقة الجارية، متعهدًا بإيجاد حلول لتلك العملية بكل الوسائل الممكنة
وفي رسالة تحدٍ واضحة للقائمين على “بي آوت كيو”، قال المري إن العالم ليس غابة، بل تحكمه قوانين صارمة، فيما يتعلق بقضايا حقوق الملكية الفكرية.
وبعد 3 أشهر من تصريحات النائب العام القطري، أطلقت الدوحة في أكتوبر/تشرين الأول 2018، تحكيمًا دوليًا ضد السعودية لدى جهاز تسوية النزاعات التابع لمنظمة التجارة العالمية، لتقاعس الرياض باتخاذ أي إجراء ضد “بي آوت كيو”، مطالبة بالحصول على تعويض يفوق المليار دولار لتعرض قنواتها لما وصفته “أكبر عملية قرصنة بتاريخ البث الفضائي”.
ولم تكتفِ قطر بذلك فحسب، بل حشدت دعم الأسرة الكروية الدولية، حيث صدر بيان جماعي في 31 من يوليو/حزيران 2019، ضم الفيفا ونظيريه الآسيوي والأوروبي، فضلًا عن روابط الدوريات الإنجليزية والإسبانية والإيطالية والألمانية، استنكر عملية السرقة الجارية، متعهدًا بإيجاد حلول لتلك العملية بكل الوسائل الممكنة عقب الفشل بالحصول على استشارة قانونية داخل السعودية.
“ما خفي أعظم”
قناة القرصنة التي ناورت بالتجاهل تارة والمناورة تارة أخرى، تلقت ضربة قوية بعدما بث برنامج “ما خفي أعظم” الاستقصائي الذي عرض أواخر سبتمبر/أيلول 2019، فيديو مسربًا من داخل مقر القناة السرى، وقال البرنامج إنه يقع في حي القيروان بالعاصمة الرياض، كما أظهر المعدات وأجهزة البث والاستقبال التي تستخدم بالقرصنة.
اتهمت النيابة العامة القطرية ثلاثة موظفين في “بي إن سبورت” بالتخابر مع السعودية ومصر للإضرار بمصالح الشبكة الرياضية
وكشف البرنامج الذي يبث على قناة الجزيرة، أن شركتين سعوديتين هما “سيلفيجن” و”شماس”، تورطتا في عمليات القرصنة، وعرض تحويلات مالية بين تلك الشركات وإدارة القمر الصناعي “عربسات”، كما قال إن العمل جار لتجهيز مكان بديل لعملية القرصنة في دولة عربية إفريقية، بعد زيادة الضغوط على المملكة قاريًا ودوليًا.
ووفق البرنامج، اتهمت النيابة العامة القطرية ثلاثة موظفين في “بي إن سبورت” بالتخابر مع السعودية ومصر للإضرار بمصالح الشبكة الرياضية، ليؤكد في ختام تحقيقه الاستقصائي أن العملية جزء من منظومة بغطاء رسمي ودعم مالي وليست لقراصنة عاديين.
خلاصة “ما خفي أعظم” وضعت النقاط على الحروف بعد اكتمال المشهد برمته، خاصة أنه جاء بعد أشهر قليلة من توصل محكمة باريس الكبرى بأن شركة توزيع الأقمار الصناعية “عربسات” متورطة في عملية مشتركة مع قناة “بي آوت كيو” لقرصنة مواد خاصة بشبكة “بي إن سبورت”، بحسب ما قضت في يونيو/حزيران 2019.
وكانت مجموعة “بي إن” القطرية قد قالت في أغسطس/آب 2018، إن ثلاث مؤسسات عالمية رائدة في مجال الأمن الرقمي وحلول تكنولوجيا الإعلام أثبتت بشكل نهائي أن “عربسات”، ومقرها العاصمة الرياض، توزع قناة “بي آوت كيو”.
خيارات قليلة
الموقف السعودي لم يكن حاضرًا في الأشهر الأولى من ظهور قناة القرصنة، وفضلت الدوائر الرسمية التزام الصمت وعدم التعليق، لكن ذلك تغير مع مرور الوقت في ظل التحركات القطرية المتتالية كترافعها في المحاكم الفرنسية واستعانتها بمؤسسات الأمن الرقمي، وإطلاقها موقعًا إلكترونيًا متخصصًا يرصد عددًا كبيرًا من الأدلة ضدها، علاوة على دخول الاتحادات الرياضية المتضررة من قرصنة حقوقها في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على خط الأزمة.
وفي أول موقف بحسب رصد “نون بوست”، قالت صحيفة “عكاظ” المحلية، في مايو/أيار 2018، إن الجهات المختصة صادرت 5 آلاف جهاز بث يقرصن إحدى القنوات الرياضية، موضحة أنه تم إتلافها، مع أخذ إجراءات نظامية بحق البائعين لمخالفتهم أنظمة الحماية الفكرية.
نفت وزارة الإعلام السعودية ما وصفته بأنه “ادعاء الاتحاد الأوروبي لكرة القدم بأن (بي آوت كيو) تتخذ من السعودية مقرًا لها”، مبرزة ما قالت إنه “مكافحة وزارة التجارة والاستثمار جميع أنشطة القناة بلا هوادة”.
لكن ذلك لم يمنع “بي آوت كيو”، من بث مونديال روسيا لكرة القدم، رغم نيل “بي إن سبورت” حقوق بثه حصريًا، وترافق ذلك مع تصريحات للمستشار في الديوان الملكي السعودي سعود القحطاني، الذي أُعفي من منصبه لاحقًا، مفادها أن الرياض صادرت 12 ألف جهاز على الأقل بُرمج للقرصنة، موضحًا أن بلاده تحترم حماية الحقوق الفكرية وتلتزم بالاتفاقيات الدولية، وفق ما أوردته وكالة الصحافة الفرنسية.
وفي 22 من يونيو/حزيران 2018، نفت وزارة الإعلام السعودية ما وصفته بأنه “ادعاء الاتحاد الأوروبي لكرة القدم بأن (بي آوت كيو) تتخذ من السعودية مقرًا لها”، مبرزة ما قالت إنه “مكافحة وزارة التجارة والاستثمار جميع أنشطة القناة بلا هوادة”.
وقبل نهائي مونديال روسيا، عادت الوزارة السعودية للتعليق على تحركات الفيفا بملاحقة قناة القرصنة، مشيرة إلى أنه بحال كان للاتحاد الدولي للعبة “مطالب مشروعة مدعومة بأدلة موثوقة فيجب أن يكون على ثقة بأنها ستنال حقوقها العادلة في المحاكم المستقلة في المملكة بما يتوافق مع قانون البلاد”.
صحيفة “الغارديان” البريطانية قالت إن تقرير المنظمة الدولية سيؤثر سلبًا على محاولة صندوق الاستثمارات السعودي شراء نيوكاسل يونايتد أحد أندية الدوري الإنجليزي الممتاز مقابل 300 مليون باوند
لكن التحرك الرسمي الأبرز جاء من طرف الهيئة السعودية للملكية الفكرية التي نشرت نهاية سبتمبر/أيلول 2019، عبر حسابها الرسمي في “تويتر”، مشاهد مداهمة متاجر تبيع أجهزة تنتهك الملكية الفكرية مثل “بي آوت كيو”، و”آي بي تي في”، بعد أسبوع من برنامج الجزيرة الاستقصائي.
وفي أحدث تطور بالقضية، خلص تقرير منظمة التجارة العالمية في 26 من مايو/أيار 2020، إلى أن السلطات السعودية تقف وراء مجموعة قنوات القرصنة “بي آوت كيو”، ومن المقرر أن ينشر التقرير المؤلف من 130 صفحة، كاملًا منتصف يونيو/حزيران 2020.
صحيفة “الغارديان” البريطانية قالت في تقرير لها إن تقرير المنظمة الدولية سيؤثر سلبًا على محاولة صندوق الاستثمارات السعودي شراء نيوكاسل يونايتد أحد أندية الدوري الإنجليزي الممتاز مقابل 300 مليون باوند (370 مليون دولار).
وتلقت رابطة الدوري الإنجليزي نسخة من تقرير المنظمة، ورفعت دعوى ضد الرياض كجزء من الإجراءات القانوينة، بحسب الصحيفة البريطانية، مبينة أن تصريحات السلطات السعودية التي ادعت عدم وجود صلة بينها وبين تلك القنوات “قد تنتهك قواعد البريميرليغ التي تنص على أنه لا يمكن تقديم معلومات كاذبة ومضللة”.