“العلاج للأغنياء فقط”… يبدو أن هذا هو الشعار الرسمي الآن للمصابين بفيروس كورونا المستجد ويبحثون عن علاج في مصر، وذلك بعدما فقد النظام الصحي قدرته على التماشي مع القفزات الكبيرة في أعداد المصابين، حيث اكتظت المستشفيات الحكومية ومراكز العزل بالمرضى، ما دفع بعض الوحدات الصحية إلى الامتناع عن قبول أي مرضى جدد بعدما وصلت إلى الحد الأقصى للاستيعاب.
ولطالما حذرت الحكومة على لسان المتحدث الرسمي أو وزيرة الصحة من خطورة تفاقم الوضع في ظل القدرة المحدودة للمنظومة الصحية التي تعاني من تهالك منذ عقود طويلة مضت، ورغم الدعم المقدم من الدولة ( 100 مليار جنيه – 6.4 مليار دولار) للتصدي لجائحة كورونا إلا أن الوضع يزداد خطورة بسبب الإمكانيات المتاحة، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى ترجيح احتمالية انهيار النظام الصحي في مواجهة موجات الإصابات اليومية.
وأمام إغلاق بوابات المستشفيات الحكومية في وجه المرضى بات التوجه نحو القطاع الخاص الحل الوحيد لتلقي العلاج، غير أن الكلفة العالية للإقامة بتلك المستشفيات يضع حياة الكثير من المصابين على قوائم الموت، ما دفع وزارة الصحة للتدخل ووضع حدود مالية لا يمكن تجاوزها من قبل المراكز الصحية بالقطاع الخاص، محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
وعليه أقرت الدولة تسعيرة جديدة للمستشفيات الخاصة، حيث من المقرر أن تتراوح تكلفة العزل بالقسم الداخلي بين 1500 و3000 جنيه لليلة الواحدة، في حين تبدأ تكلفة العزل بالرعاية المركزة من دون جهاز تنفس صناعي من 5000 جنيه وحتى 7000 جنيه، وتزيد في حالة اشتمالها على جهاز تنفس صناعي إلى ما يتراوح بين 7500 و10 آلاف جنيه.
وقد بلغ إجمالي الإصابات في مصر حتى الخميس 4 يونيو/أيلول 2020 قرابة 29767 حالة، تم شفاء 7756 حالة منها فيما توفي 1126 حالة بحسب البيانات الرسمية اليومية الصادرة عن المتحدث باسم وزارة الصحة المصرية، فيما قررت سلطات مطار القاهرة الدولي، إلغاء الحجر الصحي للمصريين العائدين من الخارج على الرحلات الاستثنائية التي تنظمها وزارة الطيران المدني، تمهيداً لعودة حركة الطيران والسياحة الخارجية، على الرغم من القفزات الملحوظة في أعداد المصابين بالفيروس داخل البلاد، وهو ما أثار قلق الكثيرين.
يعنى ايه دلوقتى المستشفيات الخاصة هتعالج كورونا باسعار خيالية
زى ما بيقولوه دلوقتى مع وائل الابراشى
ازاى فى الازمة يحصل ده وازاى الحكومة لا تجبر المستشفيات الخاصة ان تقوم بواجبها بسعر رمزى
يعنى مفيش فايدة
هو لازم المتاجرة حتى فى الموت
الحكومة ساكتة ليه على كدة
— nermeen mohamed (@ewis_dr11) June 2, 2020
المستشفيات الخاصة تنسحب
رغم تحذير الإدارة المركزية للعلاج الحر والتراخيص الطبية بوزارة الصحة المستشفيات الخاصة من عدم الالتزام بالتسعيرة الجديدة المرسلة لهم وفق منشور دوري تم توزيعه على كافة جميع إدارات العلاج الحر بمحافظات الجمهورية، إلا أن الكثير من تلك المستشفيات ضرب بالمنشور عرض الحائط، ما مثل صدمة كبيرة لرجل الشارع العادي.
عضو مجلس إدارة غرفة مقدمي الخدمات الصحية للقطاع الخاص باتحاد الصناعات، خالد سمير عبد الرحمن، كشف عن انسحاب 100% من المستشفيات الخاصة من التسعيرة التي حددتها الوزارة، مطالبين بلقاء مع وزيرة الصحة لتحديد “سعر عادل” وفق ما جاء على لسانه في تصريحات متلفزة له، فيما يتوقع أن ينعقد لقاء قريب بينهما خلال الساعات القادمة.
وأضاف عضو الغرفة أن “مصر لا يوجد بها عجز في أسرة علاج مرضى فيروس كورونا، ولدينا مشكلة تطابق بين احتياج المريض السكنى بالسرير المتاح وفق منطقته الجغرافية” مؤكدًا في الوقت ذاته أن كلفة العلاج من الفيروس مكلفة جدًا وأن المستشفيات الخاصة لا تربح منها على حد قوله، لافتا في نهاية مداخلته إلى أن وزارة الصحة «لم تلزم المستشفيات، بل خيرتهم في هذه التسعيرة».
وأثار موقف المستشفيات الخاصة جدلا كبيرًا داخل الشارع المصري، حين شنً الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي هجوما كبيرًا على ما أسموه “جشع” أصحاب تلك المستفيات، متهمين إياهم بالمتاجرة بأرواح المرضى، واستغلال الظرف الحرج لتحقيق الكثير من المكاسب خاصة مع الكشف عن تسعيرات خاصة وضعتها بعض المستشفيات تشير إلى 30 ألف جنيه كلفة إقامة اليوم الواحد.
طبعا غني عن التذكير أن فاتورة علاج الحالة الواحدة في هذه المستشفيات الخاصة ستتكلف من 300-500الف جنيه في اسبوعين
تكريسا للطبقية والعنصرية الضاربة الجذور في #مصر
ولماذا لاتعالحون في مستشفيات الشعب؟
رئيس حكومة بريطانيا دخل مستشفى عامة من التي يعالج بها الشعب!https://t.co/uBqA4uLztM
— أسامة رشدي (@OsamaRushdi) June 1, 2020
صرخات وأوجاع
إصرار وزارة الصحية على تسعيرتها المعلنة – حتى كتابة هذه السطور – لاقى ترحيبًا من قبل تيار كبير من المجتمع المصري، إلا أنه في الجهة الأخرى أثار امتعاض الأغلبية التي ترى أنها لم تكن في مستوى المواطن متوسط الدخل، وهم الشريحة الأكبر من المصريين والأكثر عرضة للإصابة.
(محمد.ق) شاب من سكان منطقة الجيزة يروي معاناته مع رحلة إلحاق والده المصاب بفيروس كورونا إلى إحدى المستشفيات، حيث استهل حديثه بشكوك ساورته بشأن حالة والده السبعيني، إذ لوحظ ارتفاع كبير في درجات الحرارة وصداع مزمن وخمول شديد في الجسد، في البداية كان الاعتقاد في اتجاه نزلة برد اعتيادية.
وأضاف في حديثه لـ “نون بوست” أنه في خلال يومين فوجئ بضيق تنفس شديد، ما رجح من احتمال إصابته بالفيروس، فتوجه فورًا إلى مستشفى “أم المصريين ” الحكومية، إلا أن الأعداد هناك كانت فوق قدرة المستشفى، فيما أخبره أحد الأطباء بأن ضيق الأماكن يحول دون استقبال أي حالات جديدة إلا التي تفاقمت حالتها الصحية بصورة كبيرة.
ومع ذلك أخبرهم الطبيب بالتوجه لخيار العزلة في البيت، وفي حالة تطور الحالة فليس أمامه سوى البحث عن مستشفى آخر أو التوجه لإحدى المستشيفات الخاصة، مسميًا إحداها بمنطقة السادس من أكتوبر، وعلى الفور توجه محمد بصحبة والده وشقيقه لكنه فوجئ برفض المستشفى استقبال والده بزعم عدم وجود إمكانيات خاصة بعلاج الفيروس، وحين استفسر عن السبب علم أن هناك توجه برفض تسعيرة الوزارة وأن المستشفى في انتظار تسعيرة جديدة تحقق من خلالها الأرباح المتوقعة.
وبعد يومين من البحث عن مستشفيات القطاع الحكومي توصل في النهاية إلى إيداعه إحدى المراكز الصحية التي خصصت لهذا الغرض، منددًا بتجربته المريرة التي أيقن خلالها أن أرواح الناس باتت سلعة تباع وتشترى من قبل من أسماهم “جزارين” المستشفيات الخاصة، على حد قوله.
لم تكن حالة محمد هي الوحيدة، حيث تعج منصات التواصل الاجتماعي بعشرات الصرخات اليومية من مصابين لا يجدون أماكن في المستشفيات الحكومية، بعضهم يظل ملقى على أبواب المستشفيات لحين وفاته، فيما يُصدم الأخرون حين يتوجهون إلى المراكز الخاصة ويعرفون كلفة الإقامة اليومية، ما يدفع أغلبهم للخروج دون تلقي العلاج، في انتظار مصيرهم المحتوم.
أنا مش عارفة المستشفيات بقت واخدة الكورونا سبوبة ولا إيه!!
بقت المستشفيات الخاصة تقلب مستشفى عزل بتأمين ٢٠٠ ألف والليلة ب ٣٠ ألف!!
فين وزارة الصحة من الكلام ده؟!
هو مافيش سُلطة على المستشفيات دي؟!
— CHERRY (@Sh_I_m_m_k) June 3, 2020
ما البديل؟
في ظل تلك الوضعية الحرجة التي بات عليها المشهد الصحي المصري بعد وصول المستشفيات الحكومية للحد الأقصى من قدراتها الاستيعابية في مقابل الأسعار المرتفعة لكلفة العلاج داخل المستشفيات الخاصة، بات السؤال الذي يفرض نفسه على ألسنة الكثيرين من متوسطي الدخل ومحدوديه: ما البديل؟
ومن رحم هذا السؤال خرجت تساؤلات أخرى على منصات التواصل الاجتماعي حول أسباب عدم فتح الحكومة للمستشفيات العسكرية والشرطية والفنادق والمنتجعات لعلاج المصابين على نفقة الدولة، على اعتبار أن البلاد الأن في إطار أزمة تتطلب تضافر كافة الجهود، وأن تراعى فيها قيم العدالة والمساواة لإنقاذ أرواح المواطنين خاصة غير القادرين.
وعليه نطالب بوضع كل المستشفيات العسكريه تحت امر وزارة الصحة لحين انتهاء ازمة #فيروس_كورونا ..
وتتحمل المستشفيات العسكرية كافة تكاليف العلاج للاهالي و تخصيص بعض المستشفيات العسكرية للحجر الصحي .
ولأن الجيش ومؤسساته في خدمة الوطن فلازم مستشفياته تكون في خدمة المواطنين .
ولا ايه ؟؟! https://t.co/skAVM8E583
— الولا اسكرينه ?? (@iskrinaa6987) March 16, 2020
ومما يعظم حجم المأساة الوضعية المتدهورة للقطاع الصحي في مصر والذي بات يقينًا أنه لم يعد قادر على التصدي والتحمل في ظل الأعداد الكبيرة في الإصابات اليومية، حيث يبلغ إجمالي عدد الأطباء البشريين 120606 أطباء، وهيئة التمريض 219452 ممرضًا وممرضةً، والصيادلة 52692، وذلك وفق البيانات الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (حكومي).
أما عدد المستشفيات في شتى محافظات الدولة فيبلغ 1848 بالإضافة إلى 89 مستشفى جامعيًا يتبع وزارة التعليم العالي، بينما يبلغ عدد سيارات الإسعاف 2912 سيارةً، وعدد مراكز الإسعاف 1464 مركزًا، ومن خلال حسبة بسيطة يلاحظ أن هناك طبيبًا واحدًا فقط لكل 805 مواطنين، وممرض لكل 443 شخصًا، كذلك الوضع في عدد الأسرة في المستشفيات، فهناك سرير واحد فقط لكل 736 مواطنًا، ومستشفى لكل 52569 مصريًا.
الأزمة تتعمق بشكل أكبر مع تنامي ظاهرة هجرة الأطباء للخارج وهم عصب المنظومة الصحية، وذلك بسبب تواضع الأجور والامتيازات، حيث فقدت المستشفيات والمراكز الصحية والوحدات وملاحقها أكثر من 30% من الأطباء، بسبب الاستقالات المقدمة للسفر للخارج، وبحسب الإحصاءات الرسمية فإن قرابة 6300 طبيب وطبيبة تقدموا باستقالاتهم من العمل في وزارة الصحة منذ عام 2016 وحتى بدايات 2019.
وهكذا يجد المصريون أنفسهم في مأزق حقيقي بين مطرقة القفزات الكبيرة في أعداد الإصابات المرجح استمرار زيادتها خلال الفترة المقبلة، وسندان كلفة العلاج الخيالية التي لا يقدر عليها الغالبية العظمى من المرضى في الوقت الذي شارفت فيه المستشفيات الحكومية على غلق أبوابها أمام المصابين لبلوغها حدود استيعابها القصوى.