اصطف نواب حركة الشعب في البرلمان التونسي، قبل يومين، إلى جانب نواب الحزب الدستوري الحر -سليل التجمع المنحل، حول اللائحة التي تم تقديمها أمام أنظار البرلمان لإدانة ما اعتبر تدخلًا تركيًا في ليبيا، ليتأكد مجددًا تغليب القوميين للإيديولوجيا على حساب مصلحة البلاد العليا وسعيهم المتواصل للزج بتونس في محور إقليمي يعادي الديمقراطيات العربية بشكل صريح وواضح.
الزج بتونس في الحلف المعادي للربيع العربي
لم تتمكن كتلة الحزب الدستوري الحر من فرض أجنداتها على البرلمان التونسي، فقد سقطت اللائحة التي قدمتها لرفض ما وصفته بـ “التدخل التركي في ليبيا” ومساءلة رئيس البرلمان راشد الغنوشي على ضوء مواقفه المساندة للشرعية الدولية هناك، واتصاله برئيس حكومة الوفاق الليبية فايز السراج بعد استعادة قاعدة الوطية من قوات حفتر.
ومع ذلك، تمكنت هذه الكتلة من كشف بعض الحقائق للرأي العام التونسي وفضح القوميين التونسيين واصطفافهم إلى جانب أدعياء الحرية، فقد ساند نواب حركة الشعب القومية لائحة عبير موسي رغم دعمها دول على حساب دول أخرى في الشقيقة ليبيا.
دَعم قوميو تونس الذين يعتمدون المرجعية الناصرية (نسبة إلى الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر)، لائحة سليلة التجمعيين، رغم عدائهم الظاهري معها. كل ذلك من أجل الزج بتونس في محور إقليمي يعادي صراحة الديمقراطيات العربية، فاللائحة عبرت عن اصطفاف مفضوح ومعيب مع دول أجنبية في ليبيا، بعد اكتفائها بإدانة دول بعينها مقابل سكوتها عن دول أخرى، وهو ما يتماشى مع الرؤية الإماراتية في هذه المسألة.
لم يهتم القوميون بشأن مصلحة تونس، بل غلبوا الأيديولوجيا على مصلحة البلاد العليا
تخدم اللائحة المقدمة على أنظار البرلمان التونسي، طرفًا بعينه بالوكالة عنه وهو محور عربي إقليمي يضرب الثورات العربية ولا يخدم شعوب المنطقة، بهدف التغطية عليه والتواطؤ معه حيال ما يرتكبه من تدخل عسكري مباشر في ليبيا.
لم يهتم القوميون بشأن مصلحة تونس، بل غلبوا الأيديولوجيا على مصلحة البلاد العليا، وذهبوا إلى التخندق في صف الحلف المعادي للثورة التونسية، وصاحب المشروع التخريبي في دول المنطقة، خاصة تلك التي تشهد انتقالًا ديمقراطيًا.
هم يعلمون يقينًا درجة الحقد الذي يكنه الحلف الإماراتي للثورة التونسية والثورة العربية ككل، لكن اختاروا العمل معهم، ليس هذا فحسب بل مساعدتهم في عملهم ودعم مجهوداتهم الهدامة للنيل من كرامة الشعوب والتنكيل بهم.
لم يشاهد قوميو تونس جثث الأطفال الصغار والشيوخ والنساء ملقاة على الأرض نتيجة قصف الطيران المسير لأحيائهم السكانية في المدن الليبية، ولم يشاهدوا أيضًا اللاجئين الأفارقة الذين نكلت بهم قوات حفتر وأحاطوهم بالموت من كل زاوية، كما أغضوا أبصارهم عن السيادة الليبية التي تنتهك من قبل الروس والفرنسيين والمرتزقة الأفارقة، مثلما تجاهلوا صوت القنابل العنقودية المحظورة دولية والألغام المزروعة في مساكن المدنيين والشوارع وهي تتطاير وتتفجر بلا رحمة.
لم يشاهدوا كل تلك الجرائم في حق الليبيين ودولتهم أو لعلهم غضوا الطرف عنها، ليبصروا فقط مساندة الأتراك للحكومة الشرعية في ليبيا بدعوة منها لصد أي عدوان هجومي من قبل حفتر وحلفاءه المعاديين للحرية والديمقراطية، على اعتبار أن الوجود التركي احتلالًا للدولة الشقيقة.
انتصار قوميو تونس للحلف المضاد للثورات العربية لم يكن وليد اليوم، إذ لديهم تاريخ قديم في هذا الشأن، حتى أنهم أرسلوا مقاتلين تونسيين حاملين للفكر القومي للمشاركة إلى جانب جيش النظام السوري ضمن ما يعرف بـ”الحرس القومي العربي” (ميليشيا مسلحة).
فبعد أن كانت مساندة بشار الأسد ودعم نظامه ضد الثورة السورية التي انطلقت في مارس/آذار 2011، من خلال الفضاء الافتراضي ووسائل الإعلام وتنظيم الندوات والتظاهرات في البداية، تحولت المساندة فيما بعد إلى حمل السلاح والتوجه إلى أرض سوريا والقتال بجانب نظام اتهم بارتكاب جرائم حرب وإبادة لمئات الآلاف من المدنيين السوريين العزل.
ولا تفرط حركة الشعب التي لاتزال تعرف نفسها، أنها حزب قومي عروبي يحمل شعار الاتحاد الاشتراكي المصري في زمن عبد الناصر “وحدة، اشتراكية، حرية”، أي مناسبة للتعبير عن انحيازها لنظام بشار الأسد في سوريا، وانقلاب 3 يوليو/تموز في مصر، واصفةً السيسي بأنه “رجل دولة بامتياز”.
حبيس الأيديولوجيا
يصر التيار القومي في تونس، وفق الناشط السياسي سعيد عطية، على عدم التخلص من الأدران الأيديولوجية، والأهم أنه بقي حبيس نظريات قديمة كلفت الأمة العربية الكثير في الماضي البعيد والقريب. يضيف عطية في حديثه لـ “نون بوست”، بأن القوميين يصرون في كل مناسبة على الاصطفاف مع الأنظمة المعادية للثورة التونسية، فهم بوضوح يتخندقون اليوم في المربع الذي ترسم حدوده الإمارات العربية المتحدة، حيث يمثل نظام الانقلاب في مصر والنظام الشمولي في السعودية أحد أهم أضلعه.
كما يبين محدثنا أن اختيار قوميو تونس بوضوح الاصطفاف مع أنظمة تريد إحداث تغيير في نظام الحكم بتونس عبر الدم وتحريض التونسيين على الاقتتال الداخلي يبقى مثيرًا للاستغراب، خاصةً أنهم كثيرًا ما يرفعون الحرية شعارًا دائما لأطروحاتهم.
وضعت الانتخابات التونسية فرقاء الأيديولوجيا على عتبة تفاهم تاريخي أول لختم مرحلة الصراع السياسي والفكري، إلا أن القوميين يتوجهون لإضاعة الفرصة عن تونس
يرى أيضًا سعيد عطية أن مصلحة البلاد، لم تعد تمثل الأولوية المطلقة بالنسبة إلى منتسبي التيار القومي، فأينما حلت هذه الأنظمة التي تحالف معها القوميون، إلا وحل الخراب معها، وفي ذلك عديد الأمثلة كمصر واليمن وليبيا وسوريا.
ويعتقد كذلك، أن التيار القومي في تونس لم يقم بالمراجعات الضرورية للتجربة القومية على مدى التاريخ والأهم أنه كلما حكم القوميين في بلد ما إلا ما كانت نهايتهم دموية، وختم المحلل السياسي التونسي حديثه بالقول: “أرى أن من مصلحة التيار القومي في تونس تأخير المسألة الخارجية لأسفل سلم الأولويات والتركيز المطلق الآن على المساهمة في إنجاح الائتلاف الحكومي الحالي لأن هذه الحكومة تمثل أخر فرصة لإنقاذ الوطن”.
عرقلة عمل الحكومة
لم يكتف قوميو تونس بجر البلاد نحو حلف مضاد للثورات العربية، وساع دائمًا لضرب الثورة التونسية والقضاء على تجربتها الديمقراطية الاستثنائية، بل عمل على عرقلة جهود الحكومة وهو العضو فيها.
ويعرف الائتلاف الحاكم في تونس، منذ تشكله في فبراير/شباط الماضي، سجلات كبيرة ومناكفات بين أحزابه، بطلها حركة الشعب القومية، وهو ما أقرّ به رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ، الذي يعمل حالياً على تطويق الخلافات التي تكاد تعصف به.
ويناصب القوميون العداء لحركة النهضة التي تتمتع بأكبر عدد من الوزارات في الحكومة من منطلقات أيديولوجية، سواء داخل الحكومة أو تحت سقف البرلمان، فلا يتركون مجالًا للتشكيك في عمل وزراء النهضة والتقليل من قيمتها.
بالنظر إلى ما يجري في الساحة، نرى أن القوميين في تونس يصرُّون على استدامة الصراع مع الإسلاميين بكل السبل، وهو قد يتسبب في تفويت الفرصة التاريخية المتاحة أمامهم للمصالحة مع شعبهم وترك الصراعات جانبًا، ولكن على ما يبدو أن أذهان القوميين في تونس ما زالت واقفة عند ستينيات القرن الماضي، فمفاهيمهم السياسية لم تتطور ولم تواكب مجريات الوضع الدولي.