تلقت الإمارات التي تقود محور الثورة المضادة في المنطقة ضربة جديدة تُضاف إلى سجل النكسات التي تعرضت لها في ليبيا والمتمثلة في الهزائم المتتالية التي مُنيت بها قوات حليفها اللواء المتقاعد خليفة حفتر وآخرها فقدانه السيطرة على مطار طرابلس وقاعدة “الوطية”، وذلك بإسقاط البرلمان التونسي لائحة تقدمت بها كتلة الحزب الدستوري الحر (يضم رموز نظام بن علي)، وتهدف في ظاهرها إلى الحصول على إدانة البرلمان للتدخل الخارجي في ليبيا (تركيا)، لكنها تستهدف رئيس البرلمان وحركة النهضة، راشد الغنوشي الذي يُمثل لحكام الإمارات امتدادًا لمشروع الإسلام السياسي.
التحركات الأخيرة في الشارع التونسي (اعتصام الرحيل 2) وتحت قبة البرلمان، تأتي في سياق توجس الإمارات المتواصل من انتشار المد الثوري في المنطقة العربية وخوفًا من أن تصل إليها رياح التغيير، وهو ما كشفه أحد المسؤولين الإماراتيين لأحد مؤسسي حزب نداء تونس عمر صحابو، من أن الإمارات لديها مشكلة مع التجربة الديمقراطية في البلاد (تونس)، وعزا ذلك إلى خوف أبو ظبي من انتقال عدوى التجربة التونسية إليها، لذلك يعمل البلد الخليجي على أكثر من واجهة ودون هوادة للدفع بأنظمة سلطوية لتصدر المشهد السياسي عبر دعم الحرس القديم في تونس واللواء المتقاعد في ليبيا.
? أحرار ليبيا يبددون أوهام العميل حفتر..
? وبرلمانيو تونس يبددون أوهام البورقيبية عبير موسي..
? وستتبدد أوهام الإمارات التي تظن أن المال وحده كفيل بمنحها دورا أكبر من حجمها..!!
— BACHIR BOUSBIA (@BACHIRB49486086) June 4, 2020
المراقبون اعتبروا أن مشروع اللائحة الذي تقدمت به رئيسة حزب الدستوري الحر (عبير موسي) ويدعو لإعلان رفض البرلمان للتدخل الخارجي في ليبيا ومناهضته لتشكيل قاعدة لوجستية داخل التراب التونسي، يدين الاصطفاف إلى أطراف معينة دون أخرى، وذلك لأنه لم يشر إلا إلى قطر وتركيا وتجاهل كل القوى الإقليمية والدولية الأخرى كفرنسا وإيطاليا وخاصة الإمارات التي تحضر بقوة على الأرض، ويأتي في إطار تحرك بعض القوى السياسية خدمةً لأبو ظبي التي تسعى لتحييد الموقف التونسي من الملف الليبي، بعد هزائم حليفها حفتر.
وفي سياقٍ ذي صلة، اتهم القيادي في الحزب الجمهوري عصام الشابي في تدوينة على صفحته بموقع فيسبوك رئيسة الحزب الدستوري الحر عبير موسى، بمحاولة نجدة المشير خليفة حفتر قائد قوات شرق ليبيا من تحت قبة البرلمان، قائلاً: “عندما تهب عبير موسى لنجدة خليفة حفتر باقتراح مشروع لائحة برلمانية، فاعلم أن محور الإمارات في ليبيا يُعاني صعوبات غير مسبوقة فرضت التعجيل ببعث رسائل له من تحت قبة باردو”.
بدوره انتقد القيادي في نداء تونس، خالد شوكات، ضمنيًا تدخل الإمارات في الشأن التونسي قائلاً: “بعض العرب للأسف، ممن أكرمهم الله بثروات لم يكن لهم في وجودها دخل، بدل خوضهم المعارك الصحيحة، سواء تجاه العدو الذي اغتصب الأرض واعتدى على مقدسات الأمة وأذل الأهل والأشقاء واستباح الأعراض والمحارم، أو تجاه الجهل والمرض والتخلف، بالصرف على العلوم والتقنيات والتنمية، قرروا الانخراط في المعارك الخطأ بإذكاء الفتن والحروب الأهلية والتآمر على الديمقراطيات الناشئة وفي مقدمتها الديمقراطية التونسية، وقد ساءهم أن يكذب شعب عربي نظرية سائدة مفادها أن العرب لا يعيشون إلا تحت أنظمة قمعية مستبدة تسوم شعوبها الهوان”.
موسى.. الحرس القديم
بدأت عبير موسى نشاطها السياسي قبل الثورة، صلب هياكل التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل وأذرعه الجمعياتية والمهنية، حيث تقلدت عدة مهام على غرار مساعدة رئيس بلدية أريانة وعضو المنتدى الوطني للمحامين، إضافة إلى مسؤولية الكتابة العامة للجمعية التونسية لضحايا الإرهاب، وبرز اسمها بعد تعيينها أمينة عامة مساعدة مكلفة بشؤون المرأة صلب الإدارة المركزية للحزب في 10 من يناير 2009، وهو منصب نقلها من الصفوف الخلفية إلى الإدارة المركزية لحزب التجمع الدستوري الديمقراطي، لتشرف من موقعها على الذراع النسائية للحزب.
لم تبق في هذا المنصب أكثر من سنتين، لتتوارى عقب الثورة عن الأنظار وتغيب عن الساحة لفترة من الزمن بسبب القضايا التي تلاحقها وتجميد عملها في سلك المحاماة، ففي مارس/آذار 2011، طردها زملاؤها من قاعة المحكمة التي قضت بحل حزب التجمع الدستوري الديمقراطي، بعد أن استماتت في الدفاع عن نظام المخلوع الذي أذاق الشعب التونسي الويلات.
عادت صاحبة الـ45 عامًا للنشاط تحت مظلة الحرس القديم وصلب الحركة الدستورية التي أسسها الوزير الأول في عهد بن علي حامد القروي سنة 2013، بعد أن خلطت الاغتيالات السياسية التي استهدفت شكري بلعيد ومحمد البراهمي في تلك الفترة كل الأوراق السياسية وأعادت ترتيب أولويات الصراع السياسي، لتترشح في أكتوبر/تشرين الأول 2014، على رأس قائمة “الحركة الدستورية” للانتخابات التشريعية في محافظة باجة (شمال غرب)، إلا أنها فشلت في الوصول إلى قبة برلمان باردو حتى تطبق الفكر الذي تحمله وتستمده من منظومة الحكم السابقة.
بعد ذلك بسنتين، تمكنت موسى من السيطرة الكاملة على “الحركة الدستورية” بعد أن استبعدت كل منافسيها داخل الحزب، ليفسح لها المجال لتولي رئاسته في 13 من أغسطس/آب 2016 خلال مؤتمر “الثبات” الذي عمدت خلاله إلى تغيير اسم الحركة للحزب الدستوري الحر وإجراء تغييرات شاملة في الهيكل التنظيمي ليتم إنشاء ديوان سياسي ولجنة مركزية مُستنسخةً هيكلة مدرستها القديمة، التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل.
بعد استثنائها من التعديل الأخير للقانون الانتخابي الذي صادق عليه مجلس نواب الشعب في 18 من يونيو 2019، وجدت عبير موسى نفسها في طريق مفتوح نحو المنافسة الجدية على موقع فاعل في المشهد السياسي الجديد، بل وفتح دخولها البرلمان شهية المضي قدمًا في تحقيق وعيدها بالثأر من الثورة والطبقة السياسية التي جاءت بها، لتتقاطع بذلك مساعيها مع مشاريع قوى إقليمية تقودها الإمارات في المنطقة.
المحامية ورد أيضًا اسمها في التقرير الختامي لهيئة الحقيقة والكرامة، في الصفحة 138 من الجزء الثاني وتحديدًا عند تناوله مسألة اختراق حزب التجمع المنحل لهيئة المحاماة وتوظيف المحامين، بأن موسى “التي تميزت بالاعتداء على زملائها خلال الجلسات العامة (في عمادة المحامين) مثلما حدث مع محمد عبو” استفادت من مبلغ بقيمة 125.526 ألف دينار سنة 2009 فقط.
وتحتفظ ذاكرة التونسيين بمشهد عبير موسى ليلة 13 من يناير/كانون الثاني 2011، بعد خطاب الرئيس المخلوع بن علي وهي تردد في اجتماع نسائي شعار “الله أحد الله أحد، بن علي ما كيفو حد” و”التجمع حزبنا بن علي رئيسنا” و”14 بعد ألفين مينجمها كان الزين”.
موسى.. مشروع إماراتي
لم تُخف الإمارات يومًا طيلة السنوات التي أعقبت ثورة 14 يناير دعمها ومساندتها لنظام بن علي وذلك عبر حملاتها المستمرة لتشويه الثورة ورموزها أو من خلال خلق الأزمات وافتعالها من أجل تعطيل المسار الانتقالي وضرب الديمقراطية الناشئة في المنطقة، مستعملة في ذلك سياسيين وإعلاميين وناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي، وذلك كما بينته وثيقة مُؤرخة بتاريخ 1 من يونيو/حزيران 2017، وهي عبارة عن مجموعة توجيهات للسياسة الإماراتية بعنوان “الإستراتيجية الإماراتية المقترحة تجاه تونس”، صادرة عن “مركز الإمارات للسياسات” الذي تأسس سنة 2013 يظهر على موقعه الرسمي صورًا لشخصيات من بينها ضاحي خلفان، المعروف بعدائه الشديد للثورات العربية، وتضمنت هذه الوثيقة إشارة للحزب الدستوري الحر باعتبار أنه “يضم المجموعات التي لا تزال تحافظ على الوفاء للرئيس السابق بن علي”.
المرة الثالثة..
نحذر الشعب التونسي الشقيق من المخربة #عبير_موسى المدعومة #إماراتيا_سعوديا من أجل قتل الديمقراطية في تونس..!!
(حذاري يحصل لكم .. ما حصل في مصر)
— سارة الغامدي?? (@sarah_alghamidi) June 1, 2020
وكان سفير الإمارات بتونس راشد محمد جمعة المنصوري قد واكب ندوة صحفية للحزب الدستوري الحر مخصصة لتقديم برنامجه الاقتصادي والاجتماعي انعقدت في 26 من أبريل/نيسان 2019، وهو ما أثار وقتها جدلًا واسعًا واستياء واستنكار العديد من السياسيين والنشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي، ما دفع بالقيادي في التيار الديمقراطي غازي الشواشي لمطالبة وزارة الخارجية التونسية بـ”معاينة هذا التجاوز الخطير ودعوة السفير المذكور للتنبيه عليه ومطالبته بالاعتذار وعدم التدخل مستقبلًا في الشأن الداخلي للدولة التونسية”.
النائب بالبرلمان التونسي عبد اللطيف العلوي مخاطباً #الامارات :” إيش جابكم لينا.. ايش دخلكم فينا.. نحن لم نتدخل في انتخاباتكم..لم نتدخل في انتخابات أجمل ناقة، ولم نتدخل في انتخابات أجمل ماعز ..فلماذا تحشرون أنوفكم في شؤوننا؟”#تونس #الإمارات pic.twitter.com/Ic0aZ9x5T5
— خديجة بن قنة (@Benguennak) June 4, 2020
ويبدو أن انخراط عبير موسى في ضرب المسار الانتقالي كان منذ اللحظات الأولى لبدء عهدتها النيابية، حيث رفضت أداء اليمين الدستورية بشكل جماعي وانتقدت قيام رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي الذي ترأس الجلسة الأولى للبرلمان باعتباره أكبر النواب سنًا، بتلاوة القَسَم وطلبه من نواب الشعب ترديده بشكل جماعي من بعده، وواصلت إعاقة سير الجلسات داخل البرلمان (أعلى سلطة في البلاد)، من خلال الاعتصام داخله واقتحام مكتب رئاسة المجلس، وتناقلت وسائل إعلام عالمية صورةً سيئةً لأغطية النواب منتشرة داخل قبة البرلمان، وهو ما أثار ضجةً كبيرةً.
وكان الناشط السياسي وأستاذ القانون الدستوري جوهر بن مبارك دعا في تصريحات إذاعية، الطبقة السياسية الوطنية بجميع عائلاتها الفكرية إلى “اتخاذ موقف مشترك يقضي بالعزل السياسي لرئيسة الحزب الدستوري الحر عبير موسى وعدم التعامل معها لا في الحياة العامة ولا في البرلمان ولا في الحياة الإعلامية إلى أن تعود إلى الجادة وتعترف بإرادة الشعب التونسي”، واصفًا الحزب الدستوري الحر بـ”الحزب الفاشي الذي يريد إقصاء الجميع ولا يعترف لا بالدستور ولا المؤسسات ولا بالدولة”.
اسم موسى ورد أيضًا في التسريبات الأخيرة لمجتهد الحساب المعروف على موقع “تويتر”، التي كشف فيها عن خطة سعودية – إماراتية، يشارك فيها رموز نظام بن علي وتهدف لتكرار سيناريو مصر في تونس، وتبدأ بشيطنة حركة النهضة ومن ثم إدخال البلاد في فوضى أمنية وتنظيم احتجاجات مصطنعة تطالب بحل البرلمان وتعطيل الدستور، قبل أن يتم تعيين شخصية موالية لأبو ظبي على رأس السلطة.
مجتهد أشهر “مغرد ” سعودي ..
من المتورطين في الحملة ..عبير موسى ، محسن مرزوق الأكاديمية ألفة يوسف ومقربين من رئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد.#مجتهد pic.twitter.com/CBdbPkpb40
— علاء الدين مقورة ® (@allamagoura) May 22, 2020
ورود السياسية التونسية ضمن لائحة الشخصيات التي تعتمد عليهم الإمارات لضرب مسار الانتقال الديمقراطي وإحياء مشروعها بزرع موالين لها في السلطة، أكدته تصريحات الناشط منذر قفراش الذي يتقاسم مع زعيمة حزب الدستوري الحر الولاء للنظام السابق، التي أكد فيها أن موسى تعمل لحساب الإمارات وتتلقى مقابل ذلك أموالًا سخية لتمويل أنشطة حزبها، وذهب إلى أبعد من ذلك خلال برنامج تليفزيوني “شالوم” باقتراحه أسماء قال إن لها قابلية للتعامل مع الاحتلال الإسرائيلي على غرار عبير موسى ومحسن مرزوق.
وكان القيادي المستقيل من الحزب الدستوري الحر توفيق المرودي قد كشف أن عبير موسى كانت تفضل دخول الأموال لها في أكياس سوداء، مقرًا بوجود تمويلات خارجية مشبوهة ودعم من رجال أعمال مثل يوسف العمري الذي سافر لها بطائرة خاصة من أبيدجان إلى باريس، مؤكدًا في تصريحات إذاعية أنها مدعومة من مخابرات أجنبية.
عودة المنظومة
تتلحف عبير موسى منذ عودتها إلى المشهد السياسي برداء “البورقيبية” مستعملةً اسم حزبه ومستلهمة صورًا من حركاته كركوبها فرسًا خلال افتتاح مكتب جديد لحزبها في مدينة القلعة الكبرى قُبيل انتخابات 2019، دون إخفاء مساعيها الحثيثة لإيقاف الزمن والعودة إلى ما قبل 2011، ومن ثم استعادة مشروع بن علي الإقصائي وإقامة محاكمة جديدة للإسلاميين، فهي لم تصم يومًا عن إعلان وقوفها ضد الثورة وضد كل مخرجاتها ومشروعها السياسي.
موسى وريثة النظام السابق التي تدافع عنه أينما حلت سرًا وعلانيةً لم ترفع يومًا صورة لبن علي داخل المجلس النواب، مقابل حرصها الشديد على استعمال إرث بورقيبة السياسي، وهو ما اعتبره بعض المراقبين، محاولة من موسى لاستمالة الدساترة رغم أن أغلبهم تنكر لبورقيبة وهو في عزلته القسرية طيلة 13.
ويُمكن القول إن موسى الرافضة لثورة 14 يناير ومخرجاتها كانت أبرز الشخصيات التي تنعمت بثمارها ومزاياها، ولكنها في المقابل تعمل جاهدة بكل السبل على وأدها وتعطيل مسارها الانتقالي من خلال مؤسساتها، وهو ما كشفته النائبة نسيبة ابن علي عضوة لجنة الصناعة والطاقة والثروات الطبيعية، من أن رئيسة اللجنة عبير موسى اعترضت على طلب نائب إثر زيارة أدوها للمؤسسة التونسية للأنشطة البترولية، الكشف بالأسماء عن آبار البترول ومستغليها وجنسيتهم ونصيب الدولة لتوضيح وتنوير الرأي العام، واصفة الطلب بالشعبوية.
ويرى مراقبون أن ممارسات عبير موسى تحت قبة البرلمان واصطناع الفوضى المتكررة وتعطيل سير أعماله، ومنعها توقيع ثلاث اتفاقيات مهمة لتونس، منها التصديق على إحداث منطقة التجارة الحرة الإفريقية، واتفاق النقل الجوي مع قطر، محاولةً تشويه صورة البرلمان والإساءة إلى الحياة السياسية وترذيلها في تونس بعد الثورة، وهي طريقة تحمل بصمة الإمارات التي تعتمد عادةً على الفوضى من أجل ضرب استقرار أي بلد يحاول تطبيق الديمقراطية.
بالمحصلة، يُمكن القول إن الإمارات خسرت جولة أخرى في مسعاها لضرب الانتقال الديمقراطي في تونس عبر أذرعها السياسية والإعلامية، لكن من المرجح أن لا يكتفي البلد الخليجي عند هذا الحد ولن يرفع يديه عن التجربة الناشئة، بل سينتقل إلى خطط أخرى بوجوه جديدة خاصة بعد الفشل المتواتر لممثليه في تونس، سواء على مستوى تحشيد الشارع أم في البرلمان، وبالتالي فإن التجربة الديمقراطية في تونس مهددة اليوم أكثر من أي وقت مضى لا سيما أن تقارير إعلامية واستخباراتية تتحدث عن اغتيالات سياسية جديدة قد تشهدها البلاد في الأيام المقبلة، ويظهر اسم عبير موسى في القائمة المستهدفة.