اكتملت أخيرًا ملامح الصفقة التي أفرجت بموجبها الولايات المتحدة عن الباحث والأکاديمي الإيراني سيروس أصغري، بعد ساعات صعبة وكواليس استدعت بعض الانتظار في ظل الضبابية التي خيمت على المشهد والمعلومات المتضاربة، خاصة بعد إعلان وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف الخبر بطريقة احتفالية كأنه انتصار سياسي وأخلاقي لبلاده.
في الوقت الذي كانت تنتظر الولايات المتحدة الحصول على ثمن مناسب للإفراج عن أصغري وأطلقت بعض التصريحات المشاكسة التي فسرت لساعات طويلة على أنها مماطلة في الإفراج عن الباحث المثير للجدل، دون معرفة ما المقابل تحديدًا الذي ستدفعه الإدارة الإيرانية.
أصغري.. من هو؟
هو باحث علمي بجامعة شريف التكنولوجية في طهران، واجه اتهامات أمريكية عام 2016 بسرقة أسرار تجارية لصالح إيران بما ينتهك العقوبات الأمريكية المفروضة على طهران، وكان الباحث ضمن عدة مواطنين إيرانيين، تقول التقارير العالمية إنهم ليسوا أكثر من كبش فداء ورهائن احتجزتهم الولايات المتحدة على خلفية صراعها السياسي مع إيران.
أكثر ما يدعم هذه الرواية تبرئة قاضٍ اتحادي في مدينة أوهايو لأصغري قبل أشهر من التهم الموجهة إليه، في وقت كان يعالج فيه من تداعيات إصابته بفيروس كورونا المستجد، ونقلته على الفور شرطة الهجرة الأمريكية، لكن إلى أحد مراكز العزل المتواضعة والخالية من المرافق الصحية الأساسية في ولاية لويزيانا، كما واصلت تعنتها معه ورفضت إعادته لطهران رغم تبرئته، في سلوك يهدف للضغط على الجمهورية الإيرانية.
رغم انشغال العالم بأزمة جائحة كورونا، فإن وسائل الإعلام العالمية، كانت على علم بما يجري، وتناولت في تحليلاتها معلومات نقلًا عن مصادر عن صفقة نادرة من نوعها يجري تجهيزها لتبادل سجناء أمريكا وإيران، على الرغم من التوتر الدائر بينهما خاصة أن الدبلوماسية الإيرانية والأجهزة الاستخباراتية نفذت صفقات عدة من هذا النوع خلال السنوات الماضية، أهمهم نجاحها في الإفراج عن الأكاديمي الأمريكي شيوي وانغ العام الماضي مقابل الإفراج عن العالم الإيراني مسعود سليماني.
اتبعت إدارة ترامب تكتيكًا شبه معروف في اللعب بأعصاب الحكومات التي تأخذ منها موقفًا عدائيًا، وتركت عند وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف ما يشبه اليقين بالإفراج عن سيروس أصغري، حتى أعلن بنفسه الإفراج عنه قبل التصريح بذلك من الولايات المتحدة لتحقيق نصر سياسي للنظام الإيراني، وانتقلت إلى الطرف الآخر من الخيط لتحقق هي الضربة الكبرى، وتضع النظام في مواجهة مع أسر الضحايا في السجون الأمريكية والإيرانية، والرأي العام في كلا البلدين على حد سواء.
خرجت أطراف رفيعة المستوى في وزارة الأمن الداخلي الأمريكي، بعد تصريحات ظريف واتهمت إيران بإبطاء الصفقة التي بموجبها كان يمكن الإفراج عن أكبر عدد ممكن من المتحجزين الأمريكيين مقابل العالم الإيراني الذي يستعد للترحيل والعودة إلى إيران، على الرغم من تبرئته أصلًا من القضاء الأمريكي، بعكس الذين أدينوا في إيران من القضاء الإيراني ويقضون عقوبة رسمية.
كانت ملامح الصفقة تؤكد الاتفاق على إطلاق سراح الجندي السابق في البحرية الأمريكية مايكل وايت الذي احتجزته إيران بتهم تجسس
مما يعني أن ترامب احترم قضاء بلاده ولم يفرج عن السجين الإيراني دون مقابل، حتى يحافظ على صورة هرقليز الخارق لدى ناخبيه وأنصاره كما كان دائمًا، فالرجل لا يقدم على فعل أي شيء مهما كبر أو صغر قيمته، سواء كان بشكل شرعي أم لا دون مقابل سخي لبلاده.
كانت ملامح الصفقة تؤكد الاتفاق على إطلاق سراح الجندي السابق في البحرية الأمريكية مايكل وايت الذي احتجزته إيران بتهم تجسس، لكن يبدو أن أمريكا كانت تطمع فيما هو أبعد، واتضح ذلك من سيل التصريحات التي خرجت من أكبر رؤوس الإدارة الأمريكية لممارسة ضغوط نفسية شديدة على إيران، بعد تسرع وزير خارجيتها في إعلان الإفراج عن أصغري بسند قضائي يرد إليه اعتباره وكرامته أمام العالم، ومن تهم وصفها بالكاذبة، ولكن منذ متى اهتم ترامب وإدارته بذلك!
لم تكتف الأطراف الأمريكية بالحديث الغائم عن الصفقة، وأطلق نائب وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الأمن الداخلي كين كوكينيلي قصفًا موجهًا ضد ظريف نفسه، واتهمه بالمماطلة في تنفيذ المطلوب للإفراج عن الباحث الإيراني.
تحدث كوكينيلي عن أهمية بحث حالة 11 مواطنًا إيرانيًا، جرى احتجازهم على ذمة نفس القضية التي يتفاوضون عليها للإفراج عن أصغري فقط دون تضمين الآخرين في الصفقة ما يعيد أمام العالم التشكيك في الرجل، كما يشكك في الصورة التي يجتهد النظام الإيراني في رسمها والتشوّيش عليها وإظهار النظام كأنه لا يريد إلا إنقاذ رجل من رجاله، يحمل من أسباب الإدانة أكثر مما يحمل من البراءة التي حصل عليها بحكم قضائي أمريكي.
عالم مقابل جندي
المباراة السياسية والإعلامية التي واكبت تنفيذ الصفقة الأمريكية الإيرانية، وإن كانت أمريكا حاولت الخروج بأكبر مكاسب منها، إلا أنها في النهاية خرجت بقرار من السلطات الإيرانية بالإفراج عن الجندي الأمريكي السابق مايكل وايت الذي تم توقيفه في يوليو 2018 بإيران بتهمة إهانة المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي.
حُكم على مايكل وايت في مارس من العام الماضي، بالسجن عشر سنوات بتهمة إهانة المرشد الأعلى ونشر صور خاصة له على شبكات التواصل الاجتماعي، ومع الضغط الأمريكي الشديد وتدهور صحة الجندي، سمح له بعد نحو 15 يومًا فقط بمغادرة السجن لأسباب وصفت بالصحية والإنسانية، ولكنها منعته من مغادرة إيران.
المثير في القضية أن كلًا من أصغري ومايكل أصيبا خلال فترات احتجازهما بفيروس كورونا، وفشلت كل مساعي البلدين للإفراج عنهما صحيًا، ويبدو أن منطق الصفقات كان الخيار الأكثر أهمية سياسيًا وبراجماتيًا لكلا النظامين.
على هامش الصورة، لعبت سويسرا التي تمثل المصالح الأمريكية في طهران دورا كبيرًا في الإفراج عن الجندي الأمريكي كما كانت صاحبة دور حاسم في تمرير الصفقة ـ إن جاز التعبير ـ خاصة مع اختلال الموقف القانوني لكل منهما، وأقنعت القيادة الإيرانية بضرورة تهيئة الرأي العام الداخلي، لصفقات من هذا النوع في المستقبل تكون أكثر قوةً وتكافؤًا على الأرض، مما يعني القبول بالاستعلاء الأمريكي الذي اشترط الإفراج عن مايكل دون مقابل أكثر من الاستمرار في إجراءات إطلاق سراح العالم الإيراني المفرج عنه أصلًا!
صفقات نارية قادمة.. ما المنتظر من ترامب وخامنئي؟
في مايو من العام الماضي، انطلقت المحادثات الثنائية عبر وسطاء لتفعيل عملية الإفراج المتبادل عن السجناء بين أمريكا وإيران رغم الصراعات الدائرة بينهما، وبحلول نهاية العام كانت المحادثات قادرة كما أسلفنا على الإفراج عن الأمريكي شيوي وانغ نظير الإيراني مسعود سليماني.
الغطاء السياسي والدبلوماسي للصفقات المنتظرة، يدعمه بشدة محمد جواد ظريف وزير الخارجية الذي لديه التفويض والسلطة اللازمة لإتمام ما يريد
في الخلفية تظهر إيران أكثر قوةً وتحكمًا في هذا الملف، وقد تستطيع الحصول على الكثير نظرًا لثقل السجناء، أو بالأحرى ـ الرهائن ـ الأمريكان في سجونها على رأسهم رجل الأعمال المعروف سياماك نامازي ووالده محمد باقر نامازي، وهما من مزدوجي الجنسية ويواجهان تهمًا خطيرةً بالتجسس.
كما تحتجز طهران مراد طهباز الناشط البيئي اليهودي الذي استطاعت الولايات المتحدة تجنيده ومكنته من التسلل إلى وكالة حماية البيئة الإيرانية ونقل معلومات خطيرة عن المنشآت البحرية والعسكرية في الخليج العربي للأمريكيين والإسرائيليين وفق الرواية الإيرانية، وتمكن من الوصول إلى مناطق حساسة واستطاع رصد الكثير عن القدرات الدفاعية للبلاد، كما رصد مواقع الصواريخ السرية وخاصة في المناطق المحمية.
لكن منظمة هيومن رايتس ووتش في المقابل تنسف الرواية الإيرانية، وتؤكد أن طهران تحجز طهباز مع خبراء آخرين دون سند قانوني، وهم جميعًا أعضاء في مؤسسة التراث الفارسي للحياة البرية التي تعارض أفكار النظام ورؤيته، التي يعتبرونها أكبر تهديد للحياة البرية الإيرانية المهددة بالانقراض.
حرمت إيران هؤلاء الباحثين بحسب رواية هيومن رايتس، من حق العلاج الطبي المناسب لأكثر من 18 شهرًا دون إثبات واحد على الجرائم التي تزعم ارتكابهم لها، وتوفي أحدهم وهو سيد إمامي الإيراني الكندي في الحجز وزعمت السلطات الإيرانية أنه انتحر، دون إجراء أي تحقيق محايد في وفاته وفرضت حظرًا على سفر زوجته مريم مومبيني.
الغطاء السياسي والدبلوماسي للصفقات المنتظرة، يدعمه بشدة محمد جواد ظريف وزير الخارجية الذي لديه التفويض والسلطة اللازمة لإتمام ما يريد، وحقق لإدارة دونالد ترامب شرط الجدية المقترن بالإفراج الفوري عن مايكل وايت ويتبقى لها الكثيرون.
في المقابل تتحفظ الولايات المتحدة أيضًا على صيد ثمين، باعتقالها ما يقرب من 19 إيرانيًا، معظمهم يحملون الجنسيتين الإيرانية والأمريكية، وجميعهم متهمون إما بخرق العقوبات عبر تصدير سلع إلى إيران أو استخدام النظام المالي الأمريكي لمساعدتها في التغلب على أزماتها.
ونفس الاتهامات التي توجهها المؤسسات الأمريكية لطهران بسوء معاملة المحتجزين وعدم ضمان المحاكمة العادلة لهم، تعيد توجيهها طهران ومؤسساتها الحقوقية، وبينهما ينتظر العالم الجديد ثمرة هذا التناطح الممتد بين خامنئي ودونالد ترامب!